منذ بدء معركة طوفان الأقصى والحديث لا يتوقف في الأوساط السياسية والعسكرية الإسرائيلية عن أهداف كبرى للحرب الجارية مع غزة، منها تهجير سكان غزة بالقوة وإجبارهم على ترك منازلهم ودفعهم نحو سيناء لإقامة وطن بديل.
وحذرت كتائب القسام من هذه المساعي الإسرائيلية، وقالت إن "الهجرة ليست موجودة في قاموس المقاومة، والعدو أضعف وأجبن من أن يهجّر شعبنا مرتين". فيما حذرت كل من مصر والأردن، دولة الاحتلال من أي محاولة لتهجير الفلسطينيين قسراً نحو الخارج أو حتى داخلياً، مع ضرورة فتح ممرات إنسانية لإدخال المساعدات الإنسانية للقطاع.
جاء ذلك بعد أن أبلغ الجيش أهالي منطقة شمال قطاع غزة ضرورة مغادرة منازلهم إلى ما بعد منطقة جنوب وادي غزة؛ حفاظاً على حياتهم، ويمس القرار بنحو 1.1 مليون فلسطيني باتوا الآن في دائرة الخطر والاستهداف الإسرائيلي، فيما تشهد مناطق الإيواء في وسط وجنوب القطاع اكتظاظاً بعدد كبير من النازحين جراء لجوء العديد من نازحي شمال غزة إلى ترك منازلهم ومغادرتهم جنوباً.
فما قصة هذه الفكرة الإسرائيلية بتهجير سكان قطاع غزة نحو مصر؟ ومتى بدأت؟ وكيف كان التعامل المحلي والإقليمي معها وصولاً إلى اليوم؟
خطط ترحيل أهالي غزة
على مدار عقود طويلة، طرحت أطراف إسرائيلية سياسية وأمنية وعسكرية مختلفة، مشاريع تتعلق بإفراغ غزة من الوجود الفلسطيني، وإعادة هندسة الواقع السكاني في القطاع، على اعتبار أن استمرار وجودهم في غزة يعتبر بمثابة قنبلة موقوتة تشكل تهديداً للأمن القومي الإسرائيلي.
وتعود الخطط الإسرائيلية لتهجير الفلسطينيين من غزة للخارج، إلى الفترة التي تلت نكبة 1948، حين اعتبر الجيل المؤسس لإسرائيل، أن الوجود الفلسطيني في غزة والضفة الغربية سيظل تهديداً يمس يهودية الدولة، إذ اعترف ديفيد بن غوريون أول رئيس حكومة في إسرائيل، بأن "العرب يجب ألا يبقوا هنا، وأني سأبذل كل جهودي كي يكون العرب في دولة عربية".
يشير تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش إلى أنه عقب خضوع قطاع غزة لحكم إسرائيل في العام 1967، شجع مسؤولون إسرائيليون على هجرة الفلسطينيين، من خلال إجبار المسافرين من غزة على ترك بطاقات الهوية الصادرة عن الحكم العسكري آنذاك، والتوقيع على وثائق تنص على أنهم يغادرون بمحض إرادتهم، وأن عودتهم ستكون مشروطة بالحصول على تصريح من الحاكم العسكري.
جراء هذه السياسة التي امتدت من العام 1967 حتى 1994 وهو تاريخ إنشاء السلطة الفلسطينية، ألغت إسرائيل الاعتراف بإقامة نحو 140 ألف فلسطيني، منهم 42 ألفاً من قطاع غزة، تحت ذريعة مخالفة وتجاوز فترة الإقامة المسموح بها في الخارج، ولا يزال جزء منهم عالقاً في الخارج دون أن يستطيع إثبات هويته.
ولا يزال كثير من الفلسطينيين في الخارج بلا وثائق تثبت هوياتهم، وترفض إسرائيل أن تمنحهم الحق في لمّ الشمل، الذي أوقفته إسرائيل منذ العام 2000.
وقدمت مؤسسات إسرائيلية مختلفة مشاريع لتهجير الفلسطينيين من غزة ودفعهم نحو الخارج منها:
خطة وزارة الخارجية والكونغرس 1968
في العام 1968، طرحت وزارة الخارجية الإسرائيلية مشروعاً يقوم على مبدأ شروع سلطات الاحتلال في تعزيز انتقال الفلسطينيين من غزة للانتقال والعيش في الضفة الغربية، ومنها لاحقاً إلى الأردن ثم لمناطق أخرى في العالم العربي، دون أن يظهر الأمر موجهاً ومدبراً من إسرائيل، بل بصورة عفوية تلقائية.
لكن المشروع لم يجد نجاحاً يذكر في ضوء عدم تشجع فلسطينيي القطاع للذهاب إلى الضفة الغربية التي خضعت، كما القطاع، للاحتلال الإسرائيلي للتوّ.
في العام ذاته 1968، ناقشت لجنة في الكونغرس الأمريكي خطة لتهجير طوعي تتضمن نقل 200 ألف فلسطيني من غزة للانتقال والعيش في دول، بينها ألمانيا الغربية والأرجنتين وباراغواي ونيوزيلندا والبرازيل وأستراليا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية. إلا أن الخطة لم تنجح بسبب رفض كثير من الدول القبول باستضافة الفلسطينيين على أراضيهم.
مشروع العريش 1970
في العام 1970، سعى قائد المنطقة الجنوبية بالجيش الإسرائيلي أرئيل شارون الذي أصبح لاحقاً رئيساً للوزراء، لتفريغ قطاع غزة من سكانه، فقام بنقل المئات من عائلات غزة في حافلات تابعة للجيش وألقى بهم خلف قناة السويس من جهة سيناء التي كانت تحتلها إسرائيل في ذلك الوقت، وجزء آخر تم توجيهه نحو العريش على حدود غزة.
كانت خطة العريش تتضمن منح من يريد المغادرة من غزة إلى مصر للدراسة والإقامة والعمل الإذن مع منح حوافز مالية؛ لمحاولة خلق واقع سكاني جديد في غزة بهدف تصفية المقاومة، وتفريغ ازدحام السكان الذين كان عددهم آنذاك 400 ألف مواطن.
ورغم أن هذا المشروع لقي رواجاً نسبياً بالتزامن مع دعوة وزير الخارجية آنذاك موشيه ديان لسياسة "الجسور المفتوحة" للفلسطينيين مع مصر والأردن، لكن المسألة اقتصرت على سفر الفلسطينيين من غزة الى مصر إما للدراسة والعودة بعد سنوات، أو التوجه من هناك للعمل في دول الخليج مع بداية الطفرة النفطية.
مشروع "غيورا أيلاند" 2000
قدم اللواء في الاحتياط الذي ترأس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي "غيورا أيلاند" مشروعاً أطلق عليه "البدائل الإقليمية لفكرة دولتين لشعبين"، ونشرت أوراقه في مركز بيغن- السادات للدراسات الاستراتيجية.
ينطلق المشروع من افتراض أن حل القضية الفلسطينية ليس مسؤولية إسرائيل وحدها، لكنه مسؤولية تقع على عاتق 22 دولة عربية.
بموجبه ستقدم مصر تنازلاً عن 720 كيلومتراً مربعاً من أراضي سيناء لصالح الدولة الفلسطينية المقترحة، وهذه الأراضي عبارة عن مستطيلٍ ضلعه الأول 24 كيلومتراً، يمتد بطول الساحل من مدينة رفح غرباً وحتى حدود مدينة العريش في سيناء، والضلع الثاني طوله 30 كيلومتراً من غرب معبر كرم أبو سالم ويمتد جنوباً بموازاة الحدود المصرية الإسرائيلية.
وتعادل المنطقة المقترحة ضعفي مساحة قطاع غزة البالغة 360 كيلومتراً مربعاً، وهي توازي 12% من مساحة الضفة الغربية، وفي مقابل ذلك سيتنازل الفلسطينيون عن المساحة ذاتها المقترحة للدولة الفلسطينية في سيناء من مساحة الضفة الغربية وضمها إلى السيادة الإسرائيلية.
أما مصر فستتحصل على تبادل للأراضي مع إسرائيل، من جنوب غربي النقب (منطقة وادي فيران) بالمساحة ذاتها مع منحها امتيازات اقتصادية وأمنية ودعماً دولياً. وظل اقتراح آيلاند حبيس المشاورات الإسرائيلية الأمريكية.
رغم التركيز الإسرائيلي على هذا المشروع لكن توقيت صدوره شكل سبباً في فشله، لأنه جاء عقب تعثر مفاوضات كامب ديفيد بين ياسر عرفات وإيهود باراك، واندلاع انتفاضة الأقصى، وإغلاق صفحة المفاوضات الثنائية سنوات طويلة.
مشروع يوشع بن آريه 2004
قدّم الرئيس السابق للجامعة العبرية، يوشع بن آريه، مشروعاً تفصيلياً لإقامة وطن بديل للفلسطينيين في سيناء، ينطلق من مبدأ تبادل الأراضي الثلاثي بين مصر وإسرائيل وفلسطين والذي عرف سابقاً بمشروع "غيورا أيلاند".
تنطلق الفكرة من تسليم أراضٍ لدولة فلسطين من منطقة سيناء، وهي منطقة العريش الساحلية مع بناء ميناء بحري عميق المياه وقطار دولي بعيد عن إسرائيل ومدينة كبيرة وبنى تحتية ومحطة للطاقة الكهربائية ومشروع لتحلية المياه.
أما مصر فستحصل على أراضٍ من صحراء النقب جنوب إسرائيل بالمساحة ذاتها التي ستمنح من سيناء للفلسطينيين بحدود 700 كيلومتر مربع، مع ضمانات أمنية وسياسية إسرائيلية بأن لا بناء استيطانياً في المنطقة الحدودية مع مصر، مع السماح لمصر بإنشاء شارع سريع وسكك حديدية وأنابيب لنقل النفط والغاز الطبيعي.
رغم أن هذا المشروع اقتبس كثيراً من أفكار مشروع أيلاند فإنّ تزامن إعلانه مع الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، وفوز حماس في الانتخابات التشريعية، ثم سيطرتها على غزة، وبدء الحصار الإسرائيلي لها، وضع العديد من العصي في دواليب نجاح المشروع.
مشروع صفقة القرن 2018
آخر مشاريع التصفية بالنسبة لدولة غزة هو مشروع صفقة القرن الذي أطلقه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في العام 2020، تحت عنوان "السلام على طريق الازدهار".
ولم يختلف مشروع صفقة القرن عن سابقه من مشاريع التصفية التي طرحت سابقاً، إذ تضمنت المحاور ذاتها، وأهمها أن تتنازل مصر عن أراضٍ في سيناء لغرض إقامة مطار ومصانع ومراكز للتبادل التجاري ومشاريع زراعية وصناعية تساهم بتشغيل مئات آلاف العاملين، وتقام الدولة الفلسطينية في هذه المنطقة بشرط أن تكون منزوعة السلاح.
حظيت صفقة القرن بتأييد وتحشيد دولي كبير، وكادت الخطة أن تجد طريقها للتنفيذ بعد تفاهم ترامب مع مصر والسعودية وإسرائيل بالذات حول العديد من تفاصيلها، لكن عدم نجاحه في ولاية رئاسية ثانية قطع الطريق على تنفيذها، رغم أن ما تدعو إليه اليوم الإدارة الأمريكية الديمقراطية إنما يعبر عن روح صفقة القرن، وإن لم يحمل اسمها.
في النهاية، لم تحقق صفقة القرن أي نتائج ملموسة، بعد خسارة الرئيس الأمريكي السابق الانتخابات الرئاسية أمام منافسه الديمقراطي جو بايدن. وقد أدت الخطة إلى تعميق الخلافات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وإلى مزيد من التوتر في المنطقة.
محاولات تهجير بالقوة
في أعقاب التصعيد العسكري الأخير، دعا بعض المسؤولين الإسرائيليين إلى تهجير سكان قطاع غزة. ومن بين هؤلاء وزير الدفاع الإسرائيلي السابق بيني غانتس، الذي قال إن إسرائيل "ستنظر في خيارات تشمل تهجير سكان غزة".
رفضت الحكومة الفلسطينية والفصائل الفلسطينية الأخرى وأبرزها حركة حماس، بشدةٍ دعوات التهجير. واعتبر الرئيس الفلسطيني محمود عباس، أن هذه الدعوات "جريمة حرب" و"نكبة ثانية".
يذكر أنه في فجر السبت 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أطلقت "حماس" وفصائل فلسطينية أخرى في غزة عملية "طوفان الأقصى"؛ رداً على "اعتداءات القوات والمستوطنين الإسرائيليين المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني وممتلكاته ومقدساته، لا سيما المسجد الأقصى في القدس الشرقية المحتلة".
في المقابل، أطلق الجيش الإسرائيلي عملية "السيوف الحديدية"، ويواصل شن غارات مكثفة لليوم الخامس توالياً على مناطق عديدة في قطاع غزة، الذي يسكنه أكثر من مليوني فلسطيني، يعانون من أوضاع معيشية متدهورة، جراء حصار إسرائيلي متواصل منذ 2006.