في الوقت الذي تواصل فيه المقاومة الفلسطينية قصف المستوطنات الإسرائيلية بالصواريخ والقذائف، وتنفيذ عمليات التسلّل، فإنها تخوض معركة أخرى على الجبهة الإعلامية، للرد على ما تقوم به سلطات الاحتلال من حرب نفسية ضد الشعب الفلسطيني ضمن حملة متناسقة من الألف إلى الياء.
استطاعت حرب غزة الحالية قلب الطاولة أمام القدرات الإسرائيلية المعهودة في مجال الدعاية، فقد فاجأتها المقاومة قبل اندلاع المعركة برسائل إعلامية مركزة ومتواترة، استهدفت إرباك المستويين: السياسي والعسكري الإسرائيليين، وضرب الجبهة الداخلية.
تفوّق الخطاب
يعترف الإسرائيليون أن المقاومة في غزة أظهرت تفوّقاً كبيراً في قدرات الخطاب الإعلامي لقياداتها وبياناتها، وإدارة الحرب النفسية وحركة الإعلام الجديد، وقاد عدد من المغرّدين الفلسطينيين هذه الحملة في المواءمة بين الانتصار والمظلومية معاً.
ومع بدء المعركة، رصدت الأوساط الإسرائيلية استمرار المقاومة التي قادتها كتائب القسام في تصدير رسائلها الإعلامية المؤثرة، التي تنوعت في أشكالها ومضمونها وأهدافها بصورة شبه يومية، مما حدا بالعديد من المعلقين والخبراء الإسرائيليين للتأكيد على أن تل أبيب خسرت الحرب النفسية مبكراً لصالح المقاومة.
لم تأتِ قوة رسائل الحرب النفسية للمقاومة من فراغ، بل تم إعدادها، وصوغ مضامينها من قِبل مختصين وخبراء في الحرب النفسية، حسب ما كشفت مصادر خاصة لـ"عربي بوست"، مما يؤشر لمستوى التطور المهم الذي بلغته على مختلف الأصعدة والمجالات، وترك أوضح الأثر على طبيعة إدارة الاحتلال الإسرائيلي لمعركته التي شابها الكثير من التخبط والإرباك، ومستوى الضعف الذي اعترى المجتمع الإسرائيلي وجبهته الداخلية، إلى الدرجة التي دفعت منصات إعلامية إسرائيلية بارزة للتحذير من الوقوع في شرك الدعاية الحمساوية.
مع العلم أن كتائب القسام دأبت على توجيه رسائل مصوّرة، بثتها على موقعها الإلكتروني موجهة للمستوطنين، كتب عليها باللغة العبرية "اهربوا قبل فوات الأوان"، ويظهر في خلفية الصورة مئات الصواريخ تطلقها المقاومة دفعة واحدة، ونيران تشتعل لهروب عدد من المستوطنين وقادتهم.
جرت العادة أن تبث الكتائب فواصل قصيرة تُظهر قدرتها على استهداف الطيران الإسرائيلي خلال المواجهة القائمة عبر صور لطائرات تحلّق في سماء غزة، وقادمة للإغارة على أهداف للمقاومة، ثم يستهدفها القسام، في إشارة لقدرته على إسقاطها.
وفور اندلاع كل مواجهة، تنشر كتائب القسام رسائل إعلامية، تضمن شرائط فيديو تصويرية لصواريخ من تصنيعها، ومجموعة صور استعراضية لمسلحين يحملون صواريخ، ومن خلفهم نيران تشتعل، وكتب أسفلها "كل المدن الإسرائيلية قريبة من غزة"، في إشارة إلى أنها في مرمى صواريخ القسام.
مقاطع مصوّرة
وجاء في مقاطع مصورة ما يُظهر استمرار الكتائب بتصنيع صواريخ محلية الصنع من طرازات مختلفة داخل ورش التصنيع الخاصة بها، في إشارة لتصنيع الصواريخ خلال الحرب الدائرة، وخاطبت الإسرائيليين: "زعمت قيادتكم الفاشلة أنهم دمروا قدراتنا الصاروخية، لكن ما زال التصنيع مستمراً".
وجاءت ذروة الحرب الدعائية في تحدّي كتائب القسام، بشكل علني، وعلى الهواء مباشرة بدعوتها لكافة الإسرائيليين في مدينة عسقلان بالنزوح منها قبل الساعة الخامسة من يوم الثلاثاء العاشر من أكتوبر، وتحدّت الطواقم الفنية العسكرية بإرسال بطاريات القبة الحديدية لمحيط المدينة لمنع سقوط الصواريخ.
وهدفت الكتائب من إعلانها هذا توجيه ضربة عسكرية صاروخية ضد عسقلان قبل ساعات من التنفيذ، لإثبات قوة الردع، وقدرتها على تنفيذ تهديداتها، رغم قوة الجيش الإسرائيلي، والتحليق المكثف لطائرات الاستطلاع والمروحية والحربية في سماء غزة.
كل ذلك منح القسام فرصة أن ينجح بكسر هيبة الجيش، والتسبب بصدمة نفسية عميقة للإسرائيليين، والتلاعب بأعصاب قيادتهم، وتسجيل نقطة لصالحه في الحرب النفسية ضدهم، واستخدم هذا "التكتيك الجديد" ليثبت قدرته على نقل المعركة من غزة إلى داخل الكيان الإسرائيلي.
وحين أعلنت حماس أنها ستقصف عسقلان بصواريخ جديدة في تمام الساعة الخامسة بعد الظهر، استخدمت جزءاً من الحرب النفسية التي تعوّد الإسرائيليون طويلاً على استخدامها ضد الفلسطينيين، وهكذا استخدم الجانبان الحرب النفسية سلاحاً ثانياً على الجبهة سعى كل طرف فيها لتثبيت صورة انتصار، ويوماً بعد يوم ازداد التأثير النفسي لهذه الحرب التي بدت وسائل الإعلام جزءاً مهماً منها، إضافة للشبكات الاجتماعية.
الحرب النفسية
يعتقد الإسرائيليون أن ما تقوم به حماس هو حرب نفسية، ونجحت فيها، لأن الشارع الإسرائيلي وقف بانتظار إن كانت ستنجح بتنفيذ إعلانها، وفي نهاية الأمر حدث إطلاق الصواريخ في الموعد، ثم عادت الحياة إلى روتينها في المدينة، وعند إطلاق صفارات الإنذار توجه الإسرائيليون للملاجئ.
مسؤول إعلامي في قوى المقاومة، أبلغ "عربي بوست" أن "هذه الحرب كسابقاتها، تشهد عملاً دؤوباً من المهندسين والخبراء على بث رسالة المقاومة، ونقل الصورة الحقيقية للمعركة للجمهور الإسرائيلي بكل شرائحه، وتمثل هذا الجهد في اختراق بث القنوات التلفزيونية الإسرائيلية واسعة الانتشار، وبث رسالة لمدة دقيقتين للجمهور الإسرائيلي، مذكرة إياه بغباء قيادته وتهورها، بجانب اختراق البريد الإلكتروني لمليون إسرائيلي، ووضع إشارة للقسام، وبث بيان بالصور لهم، والسيطرة على نظام الرسائل الخاص بمجلس المستوطنات".
وقد شهدت عدة حروب سابقة إرسال كتائب القسام رسائل التهديد للإسرائيليين، وجاء في نص إحداها: "إلى الجمهور الإسرائيلي.. لقد سارعنا للضرب في كل مكان، واختبأتم في الملاجئ كالجرذان، نحذر حكومتكم أن إسرائيل بأكملها ستبقى هدفاً مشروعاً لنيراننا، كتائب عز الدين القسام".
كما عمدت القسام لاختراق هواتف عدد كبير من الجنود على حدود غزة والصحفيين الإسرائيليين، وإرسال رسائل نصية وأخرى صوتية لهواتفهم الشخصية، تخاطب كل فئة منهم برسالة القسام في المعركة الدائرة، وقد تلقى مئات الإسرائيليين رسائل تهديد موقّعة باسم كتائب القسام خلال أيام الحرب على غزة، وأرسلت مئات الرسائل النصية (SMS) على هواتفهم المحمولة، تتعهد فيها بمواصلة القتال والتصدي للعملية العسكرية، واستمرار إطلاق الصواريخ باتجاه البلدات والمدن الإسرائيلية، وطالبتهم بالهروب في محاولة المس بمعنويات الإسرائيليين في هذه المعركة.
كما أرسلت الكتائب رسائل نصية لشركات الطيران التي تسيّر رحلاتها لإسرائيل، وتحديداً مطار "بن غوريون"، حذرتها من خطر الإقلاع والهبوط والسفر عبره، لأنه من بنك أهدافها، وطالبتها بوقفها، بسبب وجود مخاطر محدقة بكل المطارات نتيجة للحرب.
حملات القراصنة
فيما أصدرت المخابرات الإسرائيلية تحذيراً للإسرائيليين من القراصنة الفلسطينيين، الذين اخترقوا بعض المواقع الرسميّة والإعلاميّة، وأرسلوا رسائل نصية، مما زاد من حالة القلق في أوساط المخابرات بسبب تصاعد احتمالات تعرّض الشبكات لهجمات إلكترونية واسعة من قبل "هاكرز" داعمين للفلسطينيين، كما اخترق عناصر من حماس مواقع شركات إلكترونية، ونشروا منشورات باللغات: العربية والعبرية والإنجليزية، يقولون فيها: "سنضرب أعماق إسرائيل.. تل أبيب، القدس، حيفا، عسقلان، أسدود، بأكثر من 2000 صاروخ".
وتصاعدت حملات القراصنة الفلسطينيين ضد الإسرائيليين بصورة تدريجية منذ بدء الحرب، لأنها تستهدف حسابات شخصيات عسكرية وسياسية بارزة، وأرفقت صوراً تظهر اختراقها، وأرسلت عبر تلك الحسابات رسائل تشمل صور مسلحين من الكتائب وبعض قادتها، وشعار "الهاكرز" الخاص بها، وطلبت من الإسرائيليين الرحيل عن فلسطين.
ذات المسؤول الإعلامي في المقاومة أكد لـ"عربي بوست" أن "كتائب القسام دشّنت موقعها الإلكتروني الناطق باللغة العبرية لأول مرة لمخاطبة الجمهور الإسرائيلي، واحتوى الموقع على عدة أقسام تتناول عرض صورها ومقاطع فيديو وأخبارها، فيما لم يتوقف تلفزيون الأقصى التابع لحماس عن بث رسائل متواصلة باللغة العبرية للجنود، يتوعّدهم فيها بالموت في غزة إذا دخلوها براً، ويخبرهم بأن قادتهم ورّطوهم في حرب لا قِبل لهم بها، وعليهم انتظار الصواريخ، ونجحت كتائب القسام باختراق قنوات إسرائيلية عدة ثوانٍ، وأظهرت مقاتلاً بسلاحه وسط البحر".
وأنتجت كتائب القسام أغنية بالعبرية بُثّت مئات المرات، تقول كلماتها: "سنزلزل أمن إسرائيل، اهجم نفِّذ عمليات، هزّ كيانهم، واجعله يضطرب، اقتل كل الصهاينة، تقدّم وأحرق معسكراتهم، وأشعل فيها بركاناً"، ويظهر فيها مقاتلو القسّام يتدرّبون على إطلاق الصواريخ، وانتشرت الأغنية بشكل كبير جداً على اليوتيوب، وبعدة أشكال وفيديوهات مختلفة، في نسبة مشاهدات وصلت مئات الآلاف.
لم تقتصر الحرب الإعلامية التي تشنها المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي على الإعلام الرسمي وناطقيه، بل دخل الأفراد والمدوّنون على الخط، وأخذوا يبادرون بالنشر بواسطة الشبكات الاجتماعية، ونشر الفلسطينيون عدداً من الأفلام عليها لتهديد الإسرائيليين، وكيف يجري انتشال أطفالهم من تحت بيوت يقصفها الجيش، وصوراً لرئيس الوزراء الإسرائيلي وقائد الجيش ملطخيْن بالدماء.
شخصية الملثّم
ولإنجاح أدائها الإعلامي، دأبت كتائب القسام على نشر قصص مثيرة لمقاتلين خاضوا معارك ضارية مع الجيش في مناطق مختلفة من غزة، في كل محاور الاشتباك من شمال القطاع إلى جنوبه، ونفذوا عمليات التفاف خلف القوات المتوغلة، والتصدي لآليات وجنود الاحتلال بكل وسيلة، جزء منهم من وحدة الأنفاق، مهمتهم تجهيزها، وتهيئتها للاستخدام من قبل مقاتلي النخبة، وقد أخذوا مواقعهم قبل بدء الحرب البرية.
كما شهدت حرب غزة إصدار بلاغات عسكرية حول عمليات التصدي والضربات لآليات الجيش، في ظل التنسيق الكامل بين المقاومين في ميدان المواجهة والوحدات الإعلامية، حيث يتم إبلاغها أولاً بأول من قبل المجموعات في الميدان عن ضرباتها للاحتلال، عن تفجير العبوات وإطلاق القذائف المضادة للدروع ونوع السلاح الذي يستخدمونه، وتحديد المكان والزمان.
وتباعاً تقوم الوحدات الإعلامية بإصدار البلاغات العسكرية حول ضربات المقاومين، ووصف طبيعة الخسائر التي تكبّدها الاحتلال التي يحاول المقاومون تحديدها قدر الإمكان بناءً على مشاهداتهم، ومع الخبرة أصبح لديهم قدرة على تحديدها بدقّة.
لقد ظهرت المقاومة في حرب غزة بحلّة دعائية جديدة استطاعت الارتقاء بخطابها الإعلامي، وأوقعت جيش الاحتلال في ذات الوقت في وحلٍ من التضليل لم يعتد عليه سابقاً، مما انعكس على تصريحاته وأدائه الميداني، وجرت العادة لدى المقاومة استخدام وسائل الإعلام في عرض صور الغنائم التي تحصل عليها عقب كل عملية، خاصة حطام الآليات العسكرية، وأجزاء من الدبابات المعطوبة، وأشلاء بعض الجنود القتلى.
يعود النجاح الواضح لإعلام المقاومة لإدراكهم أن المعركة مع الاحتلال ليست عسكرية بحتة، بل أمنية وإعلامية، تعتمد بدرجة كبيرة على صراع الأدمغة والعقول، وانطلاقاً من هذا الفهم العميق، وإدراكاً لطبيعة المعركة مع الاحتلال، اعتمدت المقاومة سياسة إعلامية تعتمد تضليله وإرباكه، وعدم تقديم أي معلومة قد يستفيد منها، خاصة وأن المساحة الجغرافية التي تعمل عليها المقاومة ضيقة نسبياً، ويمكن للاحتلال استخدام أي معلومة كورقة ضغط، أو حتى سيفاً فوق الرقاب تكون عواقبه وخيمة.
يبدو من الصعوبة طيّ صفحة الحرب الإعلامية الدائرة بين المقاومة والاحتلال دون التطرق للوجه الإعلامي الأبرز في حرب غزة، وكل الحروب السابقة، وهو "أبو عبيدة"، المتحدث باسم كتائب القسام، ولعله الأكثر تأثيراً في الروح المعنوية للإسرائيليين، لقدرته على إخافتهم، مما ساعد المقاومة في الميدان للمضي قدماً.
مع العلم أن أبو عبيدة الملقب بـ"الملثم" يُعدّ من أوائل المطلوبين في قوائم الاغتيال الإسرائيلية، وقد زعم الاحتلال أنه قصف منزله في الساعات الأخيرة، ويرى الاحتلال أنه الشريان الرئيسي للحرب النفسية التي تفرضها حماس، واشتهر بالعبارة الختامية لمؤتمراته الصحفية بمقولة: "إنه لجهاد نصر أو استشهاد".