عادت قضية مقتل الطالب الإيطالي جوليو ريجيني في العاصمة المصرية القاهرة قبل ثماني سنوات إلى الواجهة مرة أخرى، بعد أن قرر القضاء الإيطالي إعادة فتح القضية المتهم بها 4 ضباط مصريين، بعد عامين من إغلاقها بشكل مؤقت.
هذا التحرك الإيطالي الجديد طرح عدة فرضيات، أبرزها مدى إمكانية توظيف المحاكمة الغيابية للمتهمين في الضغط على القاهرة التي تواجه اتهامات مستمرة بأنها مسؤولة عن وصول أعداد كبيرة من المهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا عبر الأراضي الليبية.
أجازت محكمة إيطاليا العليا، الأسبوع الماضي، استمرار محاكمة 4 من المتهمين المصريين في قضية اختفاء وقتل الطالب الإيطالي، رغم زعم المحكمة في وقت سابق عدم معرفة المتهمين بالاتهامات المنسوبة إليهم، ما قاد لتوقف محاكمتهم.
وحكم القضاء الإيطالي في ذلك الحين لصالح محامي الدفاع المعينين من المحكمة، الذين احتجوا بأن الإجراءات ستكون باطلة ما لم يكن هناك دليل على علم المصريين بالقضية، وبإعادة النظر فيها.
وقالت المحكمة العليا في إيطاليا إن السند القانوني المتعلق بهذه الحجة غير دستوري، نظراً لعدم تعاون الدولة الأصلية للمشتبه بهم (مصر)، مما يفتح الطريق أمام استئناف المحاكمة.
وقال المدعي العام الإيطالي للمحكمة في عام 2021 إن إيطاليا حاولت في نحو 30 مناسبة من خلال قنوات دبلوماسية وحكومية الحصول على عناوين المشتبه بهم، لكنها لم تتلقَّ أي إجابة.
ورفضت مصر توجيه الاتهامات لضباط في الشرطة تشتبه إيطاليا بضلوعهم في جريمة قتل طالب إيطالي عُثر على جثته بعد أسبوع من مقتله بإحدى ضواحي القاهرة، بسبب نقص الأدلة.
ولا تزال هذه القضية تؤثر بشكل كبير على العلاقات المصرية الإيطالية، خصوصاً أمام ضغط الرأي العام الإيطالي، في ظل مساعي القاهرة تسوية القضية واتجاهها نحو تبريد أي مشكلات تطرأ مع الجانب الإيطالي.
ماذا تُريد مصر من إيطاليا؟
كشف مصدر دبلوماسي مصري رفيع المستوى لـ"عربي بوست" أن إعادة فتح قضية الطالب ريجيني في وقت تستعد فيه مصر لإجراء انتخابات رئاسية، لا يخلو من أبعاد سياسية، لأن القاهرة سبق أن تجاوبت مع ضغوط إيطالية للإفراج عن الناشط المصري الحاصل على الجنسية الإيطالية باتريك زكي.
وأضاف المتحدث المطلع بوزارة الخارجية والمرتبط بالشأن الإيطالي، أن ما وصلهم حالياً من اتصالات يشير إلى وجود قناعة لدى إيطاليا بأن الوقت مناسب للحصول على مكتسبات في تلك القضية، مع توالي الضغوطات الشعبية هناك لمعاقبة المتهمين.
وذكر المصدر أن الإشارات القادمة لهم من المسؤولين عن هذا الملف تشير إلى إمكانية بحث إيطاليا عن تحقيق مكاسب أخرى على مستوى التنسيق الأمني لمواجهة الهجرة غير الشرعية، خصوصًا وأن مستوى التنسيق الأمني بين البلدين لا يعجب الإيطاليين.
وأشار مصدر مسؤول بوزارة الخارجية إلى أن القاهرة تجاوبت إيجابياً بعد توقف محاكمة الضباط المصريين، وأعادت التعاون الأمني لكن بمستويات منخفضة، وكان هدف الجانب الإيطالي الوصول إلى مافيا تهريب البشر بين مصر وليبيا.
وتُريد روما الحصول على خرائط هؤلاء المافيات الموجودة في السواحل الليبية، وذلك ضمن مساعٍ إيطالية للتنسيق الأمني أيضاً مع الجانب الليبي بما يحقق هدفاً رئيسياً يتمثل في تضييق الخناق على المهاجرين قبل وصولهم إلى البحر.
وأوضح المصدر لـ"عربي بوست" أن إيطاليا تدرك أن ما يحدث على السواحل الليبية وتزايد وتيرة هجرة المصريين عبر الصحاري الشاسعة إلى ليبيا يرجع لغياب التنسيق الأمني مع مصر، وأنها تأثرت سلباً بالتوتر الذي أصاب علاقات الدولتين بسبب قضية ريجيني.
وكانت تنتظر روما أن تنخرط القاهرة بشكل أكثر جدية لوقف تحركات المهاجرين بعد تجميد القضية، لكن ذلك لم يحدث على أرض الواقع، لأن القاهرة كانت بحاجة في المقابل إلى مساعدات لوجستية ومالية تساعدها على حصار جماعات التهريب.
وبحسب الدبلوماسي المصري، فإن القاهرة لديها رؤية تقضي بإنشاء منظومة متكاملة لمواجهة الهجرة غير الشرعية، تقوم بالأساس على تقديم مساعدات مالية لتنمية المناطق التي تنطلق منها رحلات الهجرة.
وترغب مصر في مساعدتها بالأجهزة التقنية الحديثة لمراقبة الحدود مع ليبيا، والتي تتجاوز 1000 كيلو متر مربع، وكذلك التعاون الاستخباراتي مع الجانب الإيطالي بشأن تحركات المهاجرين، وهو ما يتطلب تنسيقاً وثيقاً بين أجهزة الأمن والاستخبارات بين البلدين لا يستقيم معها استمرار توجيه الاتهامات لضباط مصريين في مقتل ريجيني.
وطبقاً للتقارير المرفوعة لوزارة الخارجية، فإن الحكومة المصرية تستعد حالياً لعملية ضغط إضافية من قبل الحكومة الإيطالية، بعد إعادة قضية مقتل ريجيني للواجهة.
تحفّظ مصري
وأشارت وكالة الأنباء الإيطالية "نوفا"، في مطلع أغسطس/آب الماضي، إلى استضافة العاصمة الإيطالية مباحثات مشتركة رفيعة المستوى بين مصر وإيطاليا باشتراك الأجهزة الأمنية بين البلدين.
وشارك في اللقاء وفد من وزارة الخارجية المصرية، بحضور السفير المصري لدى روما بسام راضي، والمدير المركزي للهجرة وشرطة الحدود في وزارة الداخلية الإيطالية كلاوديو جاليتسيرانو.
وكشف مصدر أمني رفيع المستوى لـ"عربي بوست" أن الداخلية المصرية انخرطت في اجتماعات عديدة مع الجانب الإيطالي منذ عام ونصف تقريباً، وروما كانت لديها رؤية استباقية بشأن وصول المهاجرين غير الشرعيين إلى بلدها، وكانت أكثر حرصاً على التعاون والتشاور، بعكس بلدان أوروبية أخرى.
وحصلت روما على بعض المعلومات المهمة بشأن كيفية التعامل المصري مع عصابات التهريب، وكذلك الإجراءات التي تتخذها الحكومة المصرية لسد المنافذ التي يصل منها المهاجرون غير الشرعيين إلى ليبيا، ومنها إلى أوروبا.
وأشار المصدر نفسه إلى أن الجانب الإيطالي طالب بالحصول على معلومات تفصيلية بشأن البؤر الساخنة التي تنطلق منها عمليات التهريب، وهو ما كان مثار تحفظ من الجانب المصري الذي طالب بتدشين شراكات تنموية مع الجانب الإيطالي.
وقال إن التوتر الذي تسبب فيه مقتل ريجيني، وكذلك توالي الضغوطات الإيطالية للإفراج عن الناشط باتريك زكي كان لديها أثر سلبي على مسارات التعاون الأمني، وأن إعادة فتح قضية ريجيني يدخل في إطار الضغوط الممارسة على القاهرة للتعامل مع قضية الهجرة غير الشرعية.
أما بخصوص الأجهزة الأمنية الإيطالية، فيقول المتحدث ما زال لديها قناعة بأن الضباط المصريين متورطون في مقتل ريجيني، وأن القاهرة في المقابل ترفض تلك الاتهامات، بل أنها تُعيد تذكير الجانب الإيطالي بوفاة عدد من المواطنين المصريين على أراضيها خلال السنوات الماضية.
وتعتبر القاهرة أن لديها أوراق ضغط أيضاً من الممكن أن تستخدمها، والأكثر من ذلك أنها قد لا تمد يد التعاون مع الحكومة الإيطالية؛ لأنها تقوم بدورها بمنع الهجرة عبر أراضيها إلى أوروبا مباشرة من خلال سواحلها على البحر المتوسط.
ضرورة علاج أساس المشكلة
وفي يوليو/تموز الماضي، ألقى السفير المصري لدى روما بسام راضي، كلمة أمام مجلس الشيوخ الإيطالي، شرح خلالها جهود مصر الناجحة منذ عام 2016 في منع أي حالة للهجرة غير الشرعية عبر سواحلها، مؤكداً أن مَن يتسلل إلى إيطاليا لا ينطلق من السواحل المصرية، بل يخرج من دول أخرى مجاورة بشكل غير شرعي.
وقال السفير المصري إن حل مشكلة الهجرة غير المنتظمة إلى أوروبا لن يكون فقط بإغلاق الحدود أو التعامل الأمني، بل يتناول علاج أساس المشكلة، الأمر الذي يجب معه على أوروبا أن تقوم بدراسة جادة لإقامة مشروعات بنية تحتية ضخمة في أفريقيا.
"خاصة ما يتعلق بالربط ما بين الدول الأفريقية كالطرق الدولية، وخطوط السكك الحديدية، والخطوط الملاحية، التي ستدعم تنشيط التجارة البينية بين دول قارة أفريقيا، وتوفر فرص عمل بما يسهم فى تقليل ضغط موجات الهجرة غير الشرعية"، يقول السفير.
وتشير أرقام إيطالية إلى أن ما لا يقل عن 7789 مواطناً مصرياً جاءوا إلى إيطاليا عن طريق البحر، من إجمالي 87883 مهاجراً وصلوا بشكل غير قانوني منذ بداية عام 2023 وحتى نهاية يوليو الماضي، وذلك عن طريق الإبحار من سواحل ليبيا المجاورة.
وتتجه إيطاليا لاستقبال أكبر تدفق للمهاجرين منذ عام 2016 خلال العام الجاري، وسط زيادة في عدد الوافدين الذين يُرجح أن يستمروا في السيطرة على جدول أعمال حكومة جورجا ميلوني اليمينية، بحسب وكالة بلومبرغ.
وظهرت بيانات مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين الصادرة، أمس الإثنين، أن عدد الوافدين إلى البلاد في عام 2023 عن طريق البحر حتى 30 سبتمبر 133220 لاجئاً وسط الطقس المعتدل بشكل غير معتاد في البحر الأبيض المتوسط الذي دفع الآلاف إلى محاولة الوصول إلى البلاد بالقوارب.
الحل الأمني يؤدي لمزيد من الانتهاكات
يشير مصدر حكومي مصري إلى أن الضغوطات تتصاعد على القاهرة لدفعها نحو الإلقاء بثقلها الأمني على الحدود مع ليبيا لوقف عمليات تهريب البشر، وأن صعود التيارات اليمينية في عدد من الدول الأوروبية يجعل الضغوطات أكثر صعوبة.
وقال المتحدث لـ"عربي بوست" إن مصر ليس لديها اعتراض على المواجهة الأمنية التي تأتي بنتائج سريعة، لكنها تطلب دعماً وحماية، لأن العديد من دول الاتحاد الأوروبي توجه انتقادات للدولة المصرية في ملف حقوق الإنسان، وأن الحل الأمني قد يؤدي لمزيد من الانتهاكات.
ويوضح المصدر أن القاهرة تطرح الوصول إلى شراكة تنموية وسياسية شاملة، لكن الجانب الأوروبي، ومن بينه إيطاليا لا يستجيب حتى الآن، في الوقت الذي تعاني فيه مصر أوضاعاً اقتصادية صعبة.
وفي حال ألقت بثقلها للمواجهة الأمنية، فإن ذلك سيؤدي لمزيد من المتاعب في الداخل، وهناك قناعة لدى أجهزة الأمن المصرية بأن الدول الغربية تسعى للحصول على مكاسب مجانية، رغم أن القاهرة تستقبل على أراضيها أكثر من 9 ملايين مهاجر، وتخفف من الضغط على الدول الأوروبية.
والأكثر من ذلك، في وجهة نظر المتحدث ذاته، أن القاهرة لا تستريح للموقف الإيطالي في ليبيا، وترى أن تدخلاتها السالبة في هذا الملف ساهمت في أن تكون السواحل الليبية نقطة انطلاق للهجرة الشرعية إليها.
وحاولت القاهرة توظيف ملف الهجرة غير الشرعية للضغط على إيطاليا في قضية النزاع الليبي، لكن يبدو من الواضح أن الجانب الإيطالي قلب الطاولة بإعادة فتح ملف ريجيني، الذي سيأخذ في التصاعد خلال الأيام المقبلة، مع بدء جلسات المحاكمة مرة أخرى.
تهدئة وقتية
وقال فرانشيسكو لو فوي، المدعي العام في روما، في بيان "من الواضح أن هناك ارتياحاً كبيراً لإمكانية إجراء محاكمة وفقاً لمبادئنا الدستورية التي ما زالت نبراساً لعملنا".
وأفاد مكتب الاتصالات والصحافة بالمحكمة أن "القاضي يمكنه أن يحاكم غيابياً في الجرائم المرتكبة عن طريق أعمال التعذيب المحددة في الفقرة 1 من المادة 1 من اتفاقية نيويورك لمناهضة التعذيب".
وأضاف أنه "عندما يتعذر بسبب نقص المساعدة من جانب الدولة التي ينتمي إليها المتهم، إن امتلك الدليل على أن الأخير، على الرغم من علمه بالإجراءات، كان على علم بالمحاكمة الجارية، دون المساس بحق المتهم نفسه بمحاكمة جديدة شخصياً لإعادة النظر في القضية"، وخلص المكتب مشيراً الى أنه "سيتم تقديم الحكم في الأسابيع المقبلة".
ويؤكد محلل سياسي مصري مقرب من الحكومة ومطلع على تفاصيل الملف أن الحكومة تركت أزمة ريجيني مفتوحة دون أن تغلقها بشكل كامل، وبالتالي فإنها سمحت لأن يجري توظيفها للضغط عليها بين الحين والآخر، وكان من الممكن أن تصل التحقيقات المشتركة بين الجانبين لحلول وسط تُرضي الجانب الإيطالي، الذي يبحث عن الجاني، وفي الوقت ذاته تحافظ على مكانة أجهزة الأمن المصرية.
لكن مصر، حسب المتحدث، قبلت بأن يتم إغلاق الملف مؤقتاً، وكان المستفيد في ذلك الحين الجانب الإيطالي الذي سعى للحفاظ على مصالحه الاقتصادية والاستثمارية تحديداً في مجال البترول واختار سبيل التهدئة الوقتية.
ويضيف أن قضية ريجيني تُعد أبرز القضايا التي تشكل أداة ضغط مستمرة على الحكومة المصرية، ليس فقط من خلال الجانب الإيطالي، ولكن أيضاً على المستوى الأوروبي، وأن التنسيق مع القاهرة بشأن مواجهة الهجرة غير الشرعية ستتأثر بهذا الملف، وقد تجد القاهرة نفسها مرغمة على التعاون الأمني، دون أن تحصل على مزايا اقتصادية تساعدها على حلحلة مشكلاتها الداخلية.