أزمة تهدد العاصمة السودانية تتمثل بتكدس الجثث في الخرطوم، في شوارعها وبالمشارح والمستشفيات وحتى البيوت، بسبب الحرب المستمرة، حتى إن العديد منها بدأ بالتحلل، الأمر الذي دفع فرقاً من المتطوعين للمخاطرة بحياتهم من أجل إنهاء هذه الأزمة خوفاً من الأوبئة والأمراض، وسط استمرار الاشتباكات وتهديد القناصة فوق المباني.
تحدث موقع "عربي بوست" مع هذه الفرق المتطوعة للوقوف على عملهم والمخاطر المرتبطة به، وما يعاينونه ويشاهدونه.
يعد التحدي الأبرز بالنسبة لهذه الفرق هو تزايد أعداد القتلى يومياً، في ظل استمرار الاشتباكات الدامية بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" في السودان منذ 15 أبريل/نيسان 2023.
ولا تزال حِدة الاشتباكات تتصاعد بين الفينة والأخرى، مع تجدد أعمال القتال داخل الأحياء السكنية والأسواق والأماكن العامة في العاصمة الخرطوم وولايات أُخرى من مدن البلاد، الأمر الذي انعكس سلباً على الأوضاع الأمنية والصحية التي تهدد حياة المواطنين.
يعكس ذلك بالأساس تكدس الجثث في الخرطوم، مجهولة الهُوية، وذلك في المستشفيات والشوارع العامة، في حين حذرت مصادر طبية سودانية لـ"عربي بوست"، من أن "هناك العديد من الجثث التي لا تزال ملقاة في الشوارع، ومعظمها بدأ يتحلل مع مرور الوقت".
مسؤول قسم مجهولي الهُوية بمستشفى النو أم درمان، سامي طلحة، قال لـ"عربي بوست"، إن "أحياء أم درمان: العباسية، بيت المال، أبوروف، سوق الشجرة، القماير، سوق أم درمان، ود نوباوي، حي العرب، العرضة، امبدة الصناعات وكنيسة الأقباط، كلها تشهد تكدساً كبيراً للجثث في الشوارع والمنازل، وبدأت في التحلل، ويصعب دفنها".
فرق تطوعية
وقال طلحة: "نحن مجموعة شباب من المتطوعين في مبادرة مستشفي النو التعليمي، لدينا قسم اسمه "قسم مجهولي الهُوية"، ويقوم هذا القسم بغسيل الموتى وتكفينهم ومن ثم مراسم الدفن"، مضيفا أن عملهم التطوعي بدأ بعد أن شهدوا تكدس الجثث في الخرطوم، إثر الاشتباكات المستمرة منذ نحو أربعة أشهر.
وعن الجثث في المستشفيات، يقول: "إن هذه الجثث المتكدسة لا حل لها سوى أن تتحلل في مكانها؛ لأن الوضع صعب جداً مع انتشار القناصة في المباني العالية".
وأوضح أن محاولات نقل الجثث من المستشفيات إلى المقابر محفوفة بالمخاطر، وأنهم يحاولون كمتطوعين أن يتحدوا هذا الخطر الأمني لدفن الجثث خوفاً من انتشار الأوبئة، وهو الحافز الذي دفعهم لتشكيل الفرق التطوعية.
فريق آخر طلب عدم الكشف عن مناطق عمله، أوضح أنه يعمل في الشوارع والمنازل بجمع الجثث الملقاة، وقال إن عدداً من المتطوعين وجدوا أنفسهم مجبرين على دفن عدد من الجثث قبل إيصالها إلى المستشفى بسبب ما تعرضت له من تحلل شديد، إثر بقائها ملقاة لمدة طويلة، وإن هذا الأمر يحول دون التعرف على أصحاب الجثث أو كتابة تقرير طب شرعي لهم، إلا أن تركها يعني انتشار الأمراض والأوبئة بسبب تعرضها للتحلل الشديد.
لكنهم أوضحوا أنهم قاموا بتسجيل المعلومات اللازمة للعودة إلى هذه الجثث في حال انتهاء الاشتباكات لمحاولة التعرف عليهم من خلال فحوصات DNA.
عقبات تواجه دفن الجثث
وأكد المتطوعون أن عملية نقلهم الجثث إلى المستشفيات محفوفة بالمخاطر بسبب القناصة، وبسبب عدم توفر كوادر طبية فيها، وبسبب انقطاع الكهرباء عن ثلاجات الموتى، ما يترك الجثث للتحلل فقط.
وأضافوا أن "غالبية المشارح والثلاجات في المستشفيات خرجت عن الخدمة تماماً، بسبب انقطاع التيار الكهربائي، وهروب الأطباء".
وأوضحوا أن هروب الأطباء يأتي خوفاً على حياتهم "بسبب وجود قناصة على أسطح المباني، الذين يستهدفونهم، وكذلك يهددون أيضاً حياة المتطوعين المبادرين بجمع الجثث".
"روائح كريهة بدأت بالخروج من المستشفيات"، ذلك بحسب شهود تكلموا لـ"عربي بوست" في الخرطوم، قالوا إن المناطق المحيطة في المستشفيات تشهد انتشاراً كبيراً للذباب بكثافة، ومع فصل الخريف والمياه التي تجرف الدماء إلى النيل، كل ذلك ينذر بنقل الأمراض والأوبئة.
أين وزارة الصحة؟
وتساءل رئيس المبادرة التطوعية لدفن الجثامين، سامي طلحة، عن دور وزارة الصحة الاتحادية، قائلاً: "أين هي مما يحصل؟".
وشدد على أنه "لا يوجد للوزارة أي دور في الوقت الحالي"، داعياً المسؤولين إلى تحمل المسؤولية الكاملة تجاه هذه الأزمة الإنسانية الكبيرة.
وطالب وزارة الصحة "بضرورة توفير الخدمات اللازمة لدفن الموتى، من أكياس الموتى والكمامات والمعقمات للمتطوعين".
وناشد المنظمات الدولية دعم الشباب المتطوعين بتوفير المستلزمات المطلوبة كافة، وعمل بوسترات تحذر من الخطر الوبائي لتكدس الجثث في الخرطوم، وتوفير الدعم وكافة إمكانيات التنقل، وأدوات الحفر، لدفن الجثامين وقبرها.
تواصل "عربي بوست"، مع وزارة الصحة السودانية، وقال وزير الصحة الاتحادي هيثم محمد إبراهيم في تصريحات خاصة: "للأسف، فإن مُخلفات الحرب معروفة في كل العالم، وليس في السودان فقط، وهي تؤثر على البنية التحتية والبيئة وعلى حياة الناس".
وقال إن ذلك "يحتاج إلى مجهود جماعي لكل مؤسسات الدولة، على رأسها المجلس الأعلى للبيئة والمحليات المعتمديات والصحة، على أساس وضع حل لهذه الكارثة، خاصة إذا تقرر عودة المواطنين إلى تلك المناطق".
وأضاف: "بالتأكيد ستحتاج هذه المناطق التي تشهد تكدس الجثث في الخرطوم، إلى عمليات تطهير وعمليات نظافة وعمليات إصحاح بيئية لفترة طويلة، حتى لا تنتشر فيها الأمراض".
لكنه لم يتطرق إلى آليات عمل الوزارة في هذه المناطق لهذه هذه الأزمة، إلا أنه أشار إلى أنها تشهد اشتباكات دامية تحول دون عمل الفرق الطبية والصحية.
إحصائيات الجثث المتكدسة
حصل "عربي بوست" على إحصائيات صادمة من المتطوعين وفق ما وثقوه بالصور التي يعتذر عن نشرها لأسباب مهنية وأخلاقية، متعلقة بأعداد الجثث المتكدسة في أحياء ومدن ولاية العاصمة الخرطوم.
وبحسب الإحصائيات التي قام بجمعها قسم مجهولي الهُوية بمستشفى النو التعليمي في أم درمان، فإن الأرقام جاءت على النحو التالي:
* في أحياء أم درمان القديمة
- العباسية:
تم دفن 193 جثماناً من المستشفيات والفرق المتطوعة.
أما الجثث التي لم يتم دفنها بعد في هذه المنطقة فهي 250 جثة، لصعوبة حملها في مرحلة التحلل.
- منطقة الشهداء:
تم دفن 312 جثماناً، من ضمنها اثنان من أسرة واحدة.
لكن هناك المزيد من الجثامين بالشوارع وداخل البيوت، وتفوح منها الرائحة الكريهة، معظمها تحللت ويصعب حملها، وتقدر بالمئات.
* منطقة حي العرب:
تم دفن 470 جثماناً، في حين أن عدد الجثث التي لم يتم دفنها 650 تقريباً.
* منطقة السوق الشعبي والصناعات:
103 جثث تحللت بالكامل، وتم تدفنها، في حين أن هناك أعداداً كبيرة أخرى من الجثث لا تزال في الشوارع، ولم تدفن بعد.
* بيت المال:
تم دفن 215 جثماناً، وعدد أكبر منه لا يزال لم يتم دفن بعد في هذه المنطقة.
* منطقة سوق أم درمان (البوستة):
10 جثث جرى دفنها، إلا أن الجثث الملقاة على الرصيف أعدادها كبيرة، وسط عجز عن الوصول إليها بسبب الاشتباكات والقناصة.
* منطقة أم بدة (حمد النيل):
الجثث التي تم دفنها 157 جثة، ولا يزال هناك عدد أكبر من الجثث المتكدسة وبدأت في التحلل.
* منطقة المهندسين:
الجثث التي تم دفنها 212 جثة، في حين أن التي لم تدفن بعد تقدر بنحو 300، مع وجود جثث لأسر كاملة في المنازل.
* منطقة الفتيحاب:
تم دفن 300 جثة من الشوارع في مقابر الفتحاب، في حين أن هناك العديد من الجثث الأخرى التي لم تدفن بعد.
* في منطقة أبو سِعد:
تم دفن 150 جثة من الشوارع والبيوت، في حين أن هناك عدداً أكبر لم يدفن بعد.
أما عن الأرقام الرسمية، فلا تتوفر معلومات منذ يوليو/تموز 2023.
في حين قدّر تقرير لوزارة الصحة، جرى توزيعه على وكالات الإغاثة، عدد القتلى بـ1136 حتى 5 يوليو/تموز 2023، وقد يكون أقل من العدد الحقيقي بكثير، في حين لم تتطرق إلى تكدس الجثث في الخرطوم.
وأفادت بأن عدد القتلى في أنحاء ولاية الخرطوم، التي تضم العاصمة ومدينتي أم درمان وبحري، سجله الناشطون ومجموعات المتطوعين عند 580 قتيلاً على الأقل في صفوف المدنيين حتى 26 يوليو/تموز 2023، نتيجة الغارات الجوية والقصف المدفعي وإطلاق النار.
إلا أن إحصائيات الأمم المتحدة تجاوزت توثيقها مقتل أكثر من 3 آلاف قتيل حتى الآن.
خروج مستشفيات عن الخدمة
بحسب ما أكده مسؤولون في الصحة، فإن مستشفى النو التعليمي في أم درمان غربي الخرطوم، هو المستشفى الوحيد الذي يستقبل المصابين حالياً، ويعمل فيه الأطباء يومياً على مدار 24 ساعة لاستقبال المصابين.
أما باقي المستشفيات في هذه العاصمة فقد خرجت عن الخدمة بسبب انقطاع التيار الكهربائي تماماً عنها.
ومنذ منتصف أبريل/نيسان الماضي، يخوض الجيش و"الدعم السريع" اشتباكات لم تفلح سلسلة هدنات في إيقافها، ما خلف أكثر من 3 آلاف قتيل أغلبهم مدنيون، وأكثر من 4 ملايين نازح ولاجئ داخل البلاد وخارجها، بحسب الأمم المتحدة.