غيّرت الحرب الدائرة في السودان منذ أبريل/نيسان 2023، بين الجيش وقوات "الدعم السريع"، مسار حياة العديد من السودانيين، الذين أصبحوا مجبرين على ممارسة أعمال لم يعتادوا عليها من أجل تأمين قوتهم اليومي، وسط تدهور الاقتصاد وغلاء الأسعار الذي يثقل كاهل الجميع.
في مدينة ود مدني بولاية الجزيرة، التي تعدّ بين أكبر مراكز استقبال الفارّين من العاصمة، إذ تبعد عنها جنوباً نحو 200 كلم، يقول أستاذ الهندسة الجامعي علي سيف في تصريح لوكالة الأنباء الفرنسية، إن "المعاناة تخلق منك مبدعاً، لقد لاحظت عدم توفّر الصابون في السوق واحتياج الجميع له، فقرّرت صنعه".
سيف هو واحد من ثلاثة ملايين نازح من الخرطوم، بسبب الحرب التي اندلعت بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان، وقوات "الدعم السريع" بقيادة محمد حمدان دقلو، في 15 أبريل/نيسان، إذ فرّ كثيرون إلى ولايات أخرى بمنأى عن القتال، والبعض الآخر عبر الحدود إلى البلدان المجاورة.
بين الأواني التي يُخلط فيها سائل الصابون قبل أن يتمّ إفراغه في قوالب مكعبة الشكل من أجل المنتج النهائي، يجلس سيف في غرفته في مخيم مؤقت للنازحين، ويقول "لم أتقاضَ راتباً منذ مارس/آذار 2023″، مشيراً إلى تعطّل معظم المصارف والشركات بسبب الحرب.
في حالة مشابهة، يحضّر محمد علي، القادم من الخرطوم، والذي كان موظفاً في مؤسسة عامة، الطعام لتقديمه للزبائن في كشك صغير لبيع الطعام في "ود مدني"، وقال للوكالة الفرنسية: "اضطررنا لإيجاد بدائل، لذلك قررت مع بعض الأصدقاء فتح كشك صغير يقدم أصناف طعام من العاصمة غير منتشرة في مدني".
من جانبه، يقدّم علي في محلّه الصغير الفلافل ووجبة "البوش" التي يتناولها سكان العاصمة بشكل شائع وعلى مدار اليوم، وهي عبارة عن خبز مقطع في صحن كبير مضاف إليه الفول المدمس وبيض وجبن وبهارات.
كذلك، وداخل كشك صغير آخر في سوق مدينة الحصاحيصا بولاية الجزيرة، تجلس السودانية ميشيل إيليا، التي كانت تعمل معلمة في مدرسة في أمّ درمان، وتصنع وتبيع رقائق الخبز.
تقول إيليا من وراء نظاراتها الطبية: "بعدما كنت أطمح إلى أن أكون أستاذة كبيرة ينتهي بي الحال هنا، لأول مرة أعمل في السوق"، وأضافت: "لقد فقدت الأمل في الحياة، ولكن أنا مجبرة على ذلك حتى أتكفّل بأسرتي وطعامي، لست خجولة أو حزينة مما أقوم به، ولكنها ظروف الحرب".
على مسافة من كشك إيليا الصغير، تقف إشراقة موسى، التي غادرت منزلها في العاصمة أيضاً بسبب الحرب، وراء عربة صغيرة اشترتها لتبيع عليها المشروبات الساخنة لتدبير مصروف يومها.
قالت إشراقة للوكالة الفرنسية: "أتيت إلى هنا واشتريت هذه العربة لصنع الشاي حتى أتمكن من تحمل تكاليف المعيشة، كبّدتنا الحرب أضراراً كثيرة، وتركنا منازلنا وكل ما نملك".
تتابع إشراقة بحسرة: "الآن.. إذا تمكنت من إفطار أطفالي قد لا أتمكن من تدبير وجبة الغداء"، ولم تكن إشراقة قد مارست هذا العمل أبداً قبل الحرب في مجتمعها المحافظ.
يأتي هذا فيما يُعد السودان من أكثر دول العالم فقراً حتى قبل اندلاع النزاع الحالي، وأسفرت الحرب التي تتركز في العاصمة وضواحيها، وفي إقليم دارفور في غرب البلاد، وبعض المناطق الجنوبية، عن مقتل 3900 شخص على الأقل، ودفعت أكثر من أربعة ملايين آخرين إلى النزوح.
وسط ذلك يشهد الوضع الصحي في السودان مزيداً من التدهور يوماً بعد يوم. فإضافة إلى الحرب، يتعيّن على الـ48 مليون سوداني التعامل مع الجوع والفيضانات، وما تجلبه معها من أوبئة من الملاريا إلى الكوليرا.
تشير منظمة الصحة العالمية إلى أنّ "أكثر من 40% من السكان في السودان يعانون من الجوع، أي ضعف عدد العام الماضي"، هذا فضلاً عن "نقص الأدوية والتجهيزات الصحية والكهرباء والماء".