"كل مكان في إسنيورت يضيء في الليل"، هذه الجملة تعارف عليها الموطنون الأتراك للتعريف بهذا الحي الواقع جنوب غربي مدينة إسطنبول؛ حيث الألوان والإضاءات الكثيرة، ولكن الجريمة أيضاً، التي حين يتم ذكرها في تركيا يكون هذا الحي حاضراً، فما سبب ذلك، وما قصته؟
تمتد بعض مباني إسنيورت السكنية جنباً إلى جنب، على مدى البصر، بارتفاع يصل في بعضها إلى 50 طابقاً، وتحتوي هذه المباني على أضواء ملونة وامضة ومتحركة، ولهذا يرجع سبب تسميتها "Esencılısı" بين الأتراك، أي تشبهاً بمدينة لوس أنجلوس الأمريكية.
رغم أن تلك الأضواء جعلت إسنيورت لافتة للنظر من الوهلة الأولى؛ إلا أن هذه المنطقة التي تخضع لبلدية إسطنبول الكبرى إدارياً، تحتوي أيضاً على العديد من المشكلات الاجتماعية المتأصلة، بأسباب يعرفها المواطنون بين شوارعها ومبانيها وخارجهما.
كل صباح من أيام إسنيورت، يتزامن مشهد انطلاق العمال نحو أعمالهم مع نقل المتهمين والمجرمين إلى محكمة "بويوك شيكمجة" القريبة، في الساعات الأولى كل يوم بعد حجزهم ليلاً بتهم مختلفة.
وأصبح هذا المشهد مألوفاً بين سكان وزوار البلدية الشهيرة.
يوضح المحامي أوكتاي كيليتش، الذي يعيش في إسنيورت منذ سنوات، أن قاعة المحكمة القريبة من هذه المنطقة، تكون مزدحمة للغاية في ساعات الصباح.
ويتابع في حديثه إلى "عربي بوست": "ربما تكون هذه المشكلة قد ظهرت للجميع مؤخراً بعد حادث مقتل تاجر المشروبات الكحولية، الذي تصدر أجندة الأحداث والأخبار في تركيا عامة".
ويشبّه كيليتش الأحداث في المنطقة بـ"السرطان"، وقال: "مثلما يتعلق السرطان بالخلايا سريعة النمو، فإن النمو السريع في السكان هو السبب الجذري للمشاكل في إسنيورت".
فكيف نشأت هذه المشكلة؟ وما هي قصة هذا الحي؟
إسنيورت قرية حتى عام 1989
إسنيورت، هي إحدى المناطق السكنية الواقعة على أطراف إسطنبول، ونمت مع الهجرة، خاصة بعد الثمانينيات؛ في هذا المكان البعيد جداً عن وسط المدينة؛ حوالي 40 كيلومتراً عن ميدان تقسيم.
أصبحت هذه المنطقة، التي كانت قرية في بويوك شكمجة لسنوات عديدة، بلدة عام 1989. وفي الانتخابات التي أجريت في العام ذاته، تم انتخاب "شابان غوربوز" عن الحزب الاشتراكي الديمقراطي الشعبوي أول رئيس للبلدية الناشئة حديثاً.
وفي عام 2004، انتقلت البلدية إلى حزب العدالة والتنمية، وظلت تحت إدارته حتى انتخابات عام 2019؛ حينها انتقلت بلدية إسنيورت إلى حزب الشعب الجمهوري بدعم من حزب الشعوب الديمقراطي، الذي يتمتع بإمكانية تصويت تقارب 20% في المنطقة.
البناء السريع 2010
مع حلول عام 2010، بدأت عملية بناء سريعة للغاية تضرب نواحي وضواحي منطقة إسنيورت، ومعها تحولت البيوت القديمة إلى شقق جديدة إلى جوار أبنية شاهقة تحوي شققاً صغيرة.
وأصبح البناء في المنطقة يعد "بأرباح عالية جداً" من الشركات الكبرى إلى الشركات الدنيا، خاصة بعد تحول ظهور رجال أعمال المنطقة الذين كانوا في يوم من الأيام تجاراً صغاراً، إلى أصحاب شركات بناء ضخمة، بفضل عمليات التشييد والإعمار.
عندما كان هناك الكثير من المعروض من المساكن، كانت إسنيورت هي صاحبة الأسعار المعقولة مقارنة بالمناطق الأخرى داخل مدينة إسطنبول. وبدأت بذلك حركة هجرة كبيرة، فارتفع عدد السكان الذي كان قرابة 150 ألفاً فقط في عام 2000 إلى مليون و127 ألفاً، وفقاً لبيانات عام 2022.
بسبب ذلك، تعد هذه المنطقة اليوم أكثر المناطق اكتظاظاً بالسكان في تركيا.
ويبلغ عدد سكانها أكثر من عشرات المدن الأخرى داخل البلاد؛ وفي هذا التغيير جاء عدد كبير من المهاجرين المسجلين وغير المسجلين إلى المنطقة، وكان نتيجة ذلك النمو السريع، العديد من المشكلات الاجتماعية بحسب حنيفي كايا رئيس مجلس مدينة إسنيورت الذي يعمل على حل مشاكل المنطقة.
ويرى أن هذا النمو السريع وغير المنضبط هو أساس كل المشاكل.
يقول كايا إن عدد سكان هذه المنطقة، الذي كان من المقرر أن يبلغ 500 ألف عندما كانت بلدية، قد تجاوز ضعف ذلك اليوم، بالتالي فإن العديد من الخدمات العامة، من التعليم إلى الصحة غير كافية.
وبحسب كايا أيضاً، فإن العديد من المشكلات الاجتماعية التي تواجهها إسطنبول حالياً هي نتيجة هذا الوضع.
على سبيل المثال، يقول "جولاش جولار"، رئيس حي بربروس خير الدين باشا، إنه "لا توجد مدارس ثانوية ومراكز صحية في الحي الذي يبلغ عدد سكانه 30 ألف نسمة في الوقت الحالي".
بحسب المهندس المدني "علي كانر منغولوغلو"، تتركز في بعض المواقع والأحياء بعض المجتمعات المتفاوتة، فمثلاً يوجد السوريون في بعض الأماكن والأفارقة في أماكن أخرى.
ويوضح "منغولوغلو" أن المباني الكبيرة، توفر بيئة لا يعرف فيها أحد أي شخص آخر، ولا أحد يعرف من يدخل أو يغادر منها، وتسبب هذا في انخفاض العلاقات الاجتماعية، وتهيئة الأرضية المناسبة للأنشطة غير القانونية.
"غير شرعي"
معظم ساكني إسنيورت هم من أصحاب الدخل المنخفض بشكل مكثف. ويعمل بعض سكان المنطقة في مناطق تجارية كثيفة العمالة، مثل المناطق الصناعية ومصانع النسيج.
ويقال إن ثقافة الكسب السريع من العمل غير القانوني تنتشر بين الشباب، وعند سؤال سكان هذه المنطقة من الشباب الذين ينخرطون في هذه الأنشطة "ماذا تعملون؟" فيكون الجواب بـ"غير شرعي"، بحسب تقارير صحفية محلية.
يلفت بولات بيركاي بوزكورت، رئيس قسم الشباب في مجلس المدينة، الانتباه إلى الثقافة الشعبية وبُعد المسلسلات عن واقع الشباب والبلاد.
ويقول في حديث لـ"عربي بوست": "في كل من إسنيورت ومناطق أخرى، يتأثر الشباب بشكل كبير بالمسلسلات التلفزيونية مثل: الحفرة، وواحد صفر، ولحمة مفرومة، وأطفال الشوارع، إذ تم تبسيط إطلاق النار على الأشخاص في هذه المسلسلات".
كذلك فإن المصطلحات والكلمات المستخدمة في البرامج التلفزيونية تنعكس على واقع الشارع في هذه المنطقة.
"ما حدث في Tarlabaşı انتقل هنا"
يشرح أسد جيزار عضو مجلس إدارة المدينة، الذي يعمل في مجال مكافحة الإدمان، أن المخدرات منتشرة في إسنيورت، وأن جميع أنواعها تستخدم بالتوازي مع الوضع المالي.
ويذكر العديد من المواد، مثل القنب إلى الكوكايين والميثامفيتامين الذي بات شائعاً جداً مؤخراً، وفق قوله.
ويقول: "إن ما حدث في الشوارع الخلفية لتارلاباشي ودولابديري وبيوغلو – أخطر أحياء إسطنبول في الماضي- قد انتقل الآن إلى هنا في إسنيورت".
يذكر جيزار أنه في مقابلاتهم مع الشباب المدمنين، قالوا إن "إسنيورت مكان حرج ليس فقط لتعاطي المخدرات، ولكن أيضاً لتوزيعها في جميع أنحاء إسطنبول".
والتسلح الفردي هو أيضاً مشكلة مهمة في هذا الحي، وفقاً للمحامي أوكتاي كيليتش، الذي قال إن "هناك سببين للتسلح الفردي في كل من إسنيورت والمناطق المماثلة؛ يحمل الناس السلاح إما لارتكاب جرائم أو لحماية أنفسهم، وإذا اعتقد الأشخاص في المجموعة الأولى أنهم سيعاقبون بسبب البندقية، فسوف يتجنبونها، وإذا اعتقدت المجموعة الثانية أنها آمنة، فلن تحمل السلاح".
معدل الجريمة في إسنيورت
وفي قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة كوتش؛ قدمت الباحثة "صدف توربار" رسالتها للدكتوراه التي درست فيها عمليات الإعدام خارج القانون ضد السوريين في تركيا، وذلك وفقاً للمعلومات التي حصلت عليها من 43 مختار حي في بداية إسنيورت.
بحسب تلك الدراسة، حدثت 16 عملية إعدام خارج نطاق القانون في المنطقة، ويمثل هذا الرقم 35% من جميع الأحداث في إسطنبول؛ في حين تبلغ نسبة إسنيورت من سكان إسطنبول حوالي 7%، ما يعني وجود ميل إلى العنف بمعدل 5 أضعاف لدى السكان في إسنيورت، بحسب دراسة جامعة كوتش.
وسبق أن نقلت صحيفة "يني شفق" تقريراً عن شرطة إسطنبول، جاء فيه أن "نسبة الجرائم المرتكبة في إسنيورت من الأجانب بلغت 30% مقارنة بالمواطنين الأتراك، كما أن نسبة السوريين الضالعين بها هي الأقل، في حين أن الأفغان سجّلوا أكبر عدد من جرائم القتل".
نقلت كذلك إحصائية رسمية سجلت أن أكبر عدد من جرائم القتل وقعت أيام الثلاثاء، فيما كان يوم الجمعة هو الأقل، كما أن معظم جرائم القتل كان مخطّطاً لها، وتم ارتكابها ما بين الساعة 10 مساءً و1 صباحاً.
قنبلة موقوتة
بحسب بيانات بلدية إسطنبول الكبرى التي تخضع لحزب الشعب الجمهوري؛ بلغ عدد سكان إسنيورت 148 ألفاً و981 نسمة عام 2000، وزاد هذا الرقم بمقدار 6.6 مرة في 22 عاماً، حيث بلغ حالياً 983 ألفاً و571 نسمة، وهذا التغيير يعني زيادة بنسبة 560%.
بمقارنة سكان حي إسنيورت مع إسطنبول عامة؛ ففي عام 2000 كان هذا العدد 11.076.840 نسمة، وبلغ عدد سكان إسطنبول 15907951 نسمة عام 2022 وفق أحدث الأرقام.
تبلغ الزيادة السكانية 55% في المدينة كافة؛ بينما سجلت في إسنيورت وحدها نحو 762%، أي ما يعادل 13.8 مرة مقارنة بإسطنبول، وفي حين أن الكثافة السكانية في إسطنبول تبلغ 2869 لكل كيلومتر مربع، فإن هذا الرقم هو 30943 في بلدية إسنيورت وحدها.
يقول الكاتب الصحفي "نزيه أنور كورو" في حسابه عبر موقع "إكس" -"تويتر" سابقاً- إن عدد مراكز الشرطة النشطة في المديرية التي تجاوز عدد سكانها المليون عام 2019 بلغ 3 مراكز فقط، من بينها مركز مخصص لفرع الأحداث.
ويتابع أنور كورو أن المشكلة لا تتوقف فقط عند مسألة الأمن؛ ولكن الخدمات العامة الأخرى غير كافية في إسنيورت؛ حيث بلغ عدد طلاب الفصل الدراسي 52 في عام 2019؛ فيما بلغ عدد العاملين الصحيين لكل 100 ألف نسمة 18 في إسنيورت، وعدد الحدائق لكل 100 ألف نسمة 5 في إسنيورت، وبلغ عدد فروع البنوك لكل ألف نسمة 5 فروع في هذه المنطقة.
ويرى الكاتب الصحفي أن خلاصة المشكلة في منطقة إسنيورت، أنه يوجد فيها عدد سكان أعلى بكثير من قدرة الإدارة المركزية والإدارات المحلية وقوات الأمن، ويواجه رجال الشرطة والأمن الذين تم تعيينهم في إسنيورت صعوبات في تطبيق القانون والنظام بسبب عدم كفاية مراكز الشرطة ومرافق الأفراد في مواجهة الانفجار السكاني.