بعد أربعة أيام من زحف مرتزقة فاغنر صوب موسكو، سافر مبعوث روسي إلى بنغازي للقاء اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر بعد "شعوره بالقلق"، إذ حمل المبعوث رسالة طمأنة من الكرملين إلى حفتر، الذي يُدير كثيراً من أراضي شرق ليبيا، حسبما أفادت صحيفة The Guardian البريطانية.
ونصت الرسالة على أن فريق فاغنر الذي يضم أكثر من 2000 مقاتل، وفني، وإداري، وخبير سياسي سيظل موجوداً داخل البلاد.
وقال المبعوث لحفتر داخل مقر إقامته الفخم والمحصن: "لن تكون هناك مشكلات هنا. قد تجري بعض التغييرات في المناصب العليا، لكن آلية العمل ستظل على حالها في ما يتعلّق بالرجال على الأرض، ورجال المال في دبي، والعلاقات، والموارد المخصصة لليبيا. لا تقلق، لأننا لن نرحل".
ووصلت هذه المحادثة إلى صحيفة الغارديان عبر مسؤول بارز ليبي سابق له اطلاع مباشر على اللقاء، في حين أشارت الصحيفة إلى أن هذه المحادثة تؤكد أن قوات فاغنر وشبكة شركاتها الممتدة بطول إفريقيا لم تتأثر بتداعيات تمرُّد مؤسسها وقائدها، يفغيني بريغوجين.
ويرى الخبراء أن استمرار عمليات فاغنر التجارية -رغم الاضطراب في روسيا– يُشير بقوةٍ إلى أن إدارة فلاديمير بوتين ستسعى للاستفادة من الشبكة المربحة واستغلالها، بدلاً من إغلاقها، وهي شبكة تضم المئات من الشركات التي أسسها بريغوجين.
وفي ليبيا، لم تكن هناك أي تحركات غير طبيعية لأفراد فاغنر، باستثناء إعادة نشر مفرزة صغيرة من 50 جندياً قرب الحدود مع السودان، فيما يسود وضع مشابه في بقية أجزاء القارة بحسب المصادر المطلعة على عمليات المجموعة في ست دول إفريقية.
تهريب النفط متواصل في ليبيا
وفي ليبيا، تنتشر وحدة كبيرة أخرى من مرتزقة فاغنر في الجزء الشرقي من البلاد، الذي يسيطر عليه خليفة حفتر، وجنت تلك القوات مئات الملايين من الدولارات في صورة مدفوعات مباشرة، بعد أن شاركت المجموعة في الهجوم الفاشل على طرابلس عام 2019.
كما أتاحت تلك القوات فرصاً للانخراط في أنشطة تهريب النفط على نطاقٍ ضخم، ومن المحتمل أن تكون قد جنت أرباحاً مماثلةً من تلك العمليات.
ولم تكن هناك حركات غير معتادة لأفراد فاغنر في ليبيا بعد "تمرد" بريغوجين، وفقاً لمسؤولٍ سابق وبعض المحللين، حيث يُعتقد أن تهريب الوقود والأسلحة بوتيرة منخفضة ما يزال متواصلاً بطول حدود ليبيا الجنوبية، التي تمتد على مساحة شاسعة ولا تخضع للرقابة بدرجةٍ كبيرة.
تعليق "مؤقت" لأنشطة فاغنر التجارية
من جانب آخر، انتشرت التكهنات على حسابات الشبكات الاجتماعية الخاصة بمقاتلي فاغنر في مالي، وجمهورية إفريقيا الوسطى، وغيرها من الدول حول احتمالية أن تعرض الدولة الروسية عقوداً جديدة على موظفي المجموعة.
بدورها، قالت ناتاليا دوكان، مؤلفة تقرير حديث نشرته منظمة The Sentry عن عمليات فاغنر في جمهورية إفريقيا الوسطى: "يبدو أن عمليات فاغنر مُعلّقة مؤقتاً في الوقت الراهن. لكنها تظل عمليات ناجحة وزهيدة التكلفة، ولهذا من المرجح للغاية أن يتم تغيير اسم فاغنر (بواسطة موسكو)، مع الاحتفاظ بغالبية أصول وأنظمة المجموعة".
وأردفت ناتاليا: "الأمر أشبه بفيروسٍ يتفشى. ولا يبدو أنهم يخططون للرحيل. بل يخططون للاستمرار"، وفق ما نقلت الغارديان.
وقد تركّز الاهتمام على الدور القتالي لـ"فاغنر" في المقام الأول، خاصةً داخل أوكرانيا في الأشهر الأخيرة. لكن المحللين والمسؤولين الاستخباراتيين في الغرب يقولون إن أنشطة فاغنر السياسية والاقتصادية بإفريقيا هي ما يهم نظام بوتين.
حيث أوضحت جوليا ستانيارد، خبيرة شؤون فاغنر في المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية: "أصبحت فاغنر أكثر انتشاراً وأرفع شأناً اليوم مقارنةً بما كان عليه الوضع عند نشر قواتها لأول مرةٍ عام 2017. ويبدو من المؤكد أن الكرملين يحاول تأكيد استمرارية تلك العمليات اليوم، بل ربما يرغب في توسيع نطاقها على الفور".
عمليات فاغنر التجارية في إفريقيا الوسطى
وتقع أكثر العمليات التجارية التي تديرها فاغنر تطوراً داخل جمهورية إفريقيا الوسطى، حيث وصل مرتزقة المجموعة إليها عام 2018 من أجل دعم نظام الرئيس فوستان آرشانج تواديرا، الذي كان يكافح لصد هجوم من متمردين.
وقد أدارت فاغنر عملية تعدين مكثفة بطول البلاد من مختلف قواعدها داخل العاصمة بانغي وما حولها. وبدأت المجموعة كذلك في صنع وبيع الجعة والمشروبات الروحية، كما حصلت على امتياز مربحٍ جداً لاستغلال الغابات المطيرة في جنوب البلاد.
ويُعَدُّ منجم ذهب نداسيما الضخم أكبر مشروعات المجموعة في البلاد، حيث استحوذت عليه فاغنر ويجري تطويره حالياً. لكن يُعتقد أن سوء البنية التحتية كان السبب في تقييد الإنتاج بمنجم نداسيما، ما دفع فاغنر إلى البحث عن الأرباح في أماكن أخرى. لهذا استولت المجموعة على مناجم أصغر بطول الجبهة الشرقية النائية لجمهورية إفريقيا الوسطى. وفي العام الماضي، داهم مقاتلو فاغنر سلسلةً من مناجم الذهب متسببين في مقتل العشرات، بحسب مقابلات الصحيفة البريطانية مع شهود عيان.
ويعتقد البعض أن تلك العمليات جاءت على يد مفرزة صغيرة من مقاتلي فاغنر، وهي المفرزة نفسها التي تُشرف على تهريب الذهب وكثير من الأشياء الأخرى إلى السودان.
الصراع في السودان قيّد تجارة فاغنر
وتمتلك مجموعة فاغنر علاقات وثيقة في السودان مع قوات الدعم السريع، التي يقودها محمد حمدان دقلو الذي يُقاتل من أجل السيطرة على الدولة حالياً.
حيث ظل عملاء فاغنر يديرون مكتباً بالقرب من مطار العاصمة الخرطوم حتى اندلاع القتال بين الفصائل المتحاربة بالسودان في شهر أبريل/نيسان الماضي.
بينما صرح مسؤولون ودبلوماسيون محليون للصحيفة البريطانية، العام الماضي، بأن السبائك كانت تُنقل بالطائرات، وذلك من قاعدةٍ جوية تقع على مسافةٍ قريبة في الصحراء، ويتم إرسال السبائك إلى الإمارات وموسكو من أجل بيعها في الأسواق الدولية.
ومن المُعتقد أن الصراع في السودان قيّد عمليات فاغنر الموسعة هناك، لكنه لم يعطلها بالكامل، إذ تُركز العمليات في السودان على تعدين وتنقية الذهب بالتعاون مع قوات الدعم السريع شبه العسكرية.
وكانت مفرزة فاغنر الصغيرة في السودان على تواصل متقطع بقوات الدعم السريع في الأشهر الأخيرة، ومن المحتمل أن تكون الأولى قد زودت قوات الدعم السريع بالأسلحة وفقاً للمصادر المحلية، لكن المفرزة نأت بنفسها عن التورط في القتال بدرجةٍ واضحة.
ولخص الوضع مصدر أمني غربي، اضطر إلى مغادرة الخرطوم مؤخراً بسبب القتال، قائلاً: "الأولوية هنا هي الحفاظ على حركة الذهب".
وفي عطلة الأسبوع الماضي، قال مراقبون لديهم عدة مصادر على الأرض، إنه ليست هناك أدلة على أي حركة لأفراد فاغنر في جمهورية إفريقيا الوسطى، سواءً على الطرق الرئيسية القليلة في الدولة الفقيرة أو داخل مطارها الرئيسي.
فيما تقول إنريكا بيكو، مديرة وسط إفريقيا في International Crisis Group، إن "العمل يسير كالمعتاد" على الجبهة السودانية.
"تأميم" فاغنر!
لكن أي عملية "تأميم" للمجموعة ستُسفر عن توترات بحسب المحللين، إذ قالت علياء براهيمي، خبيرة شؤون المرتزقة في Atlantic Council: "من المُفترض أن تكون العملية مباشرةً من الناحية النظرية بفضل طبيعة فاغنر، باعتبارها منتجاً من صُنع الكرملين. لكن القادة الذين يديرون العمليات اليومية في إفريقيا، مثل إيفان ماسلوف في مالي، تمت ترقيتهم بواسطة بريغوجين نفسه".
وأردفت: "سيتعين على هؤلاء تسوية دَينهم الشخصي لبريغوجين، والتنازل عن هويتهم القبلية باعتبارهم عملاء خاصين وليسوا جنوداً عاديين يخضعون لسيطرة الكرملين الأكثر مركزية".
ثم أضافت: "وبالنسبة للكرملين، كان الغرض الأساسي من إطلاق يد فاغنر في إفريقيا هو اعتبارها قوةً يُمكن التنصل منها. أما الآن، فستُصبح هناك جهة واضحة تتحمل المسؤولية عن الجرائم والانتهاكات البشعة، وكذلك سياسات النهب الاقتصادي".
وقبل أربعة أشهر فقط، كانت فاغنر تنظم حملات تجنيد لعملياتها في إفريقيا تحديداً، بالتزامن مع ظهور أدلةٍ حول تعزيزات للقوات المنتشرة في جمهورية إفريقيا الوسطى ومالي وغيرها من الدول.
فيما يقول المحللون إن عمليات فاغنر لطالما كانت متوافقةً بشدة مع أهداف السياسة الخارجية لروسيا على المدى البعيد.