تشهد العاصمة المصرية القاهرة تحركات سريعة استعداداً لاتخاذ خطوات أكثر جدية في ملف تبادل السفراء مع تركيا، بما يتماشى مع الرغبة المصرية في تسريع وتيرة التقارب والاستفادة من الحالة الإيجابية التي تركتها التهنئة التي تلقاها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من نظيره المصري الرئيس عبد الفتاح السيسي، بعد ساعات قليلة من فوز أردوغان في الانتخابات الرئاسية.
وقالت مصادر دبلوماسية مصرية على صلة بملف إعادة تسمية السفير المصري الجديد إن النوايا المصرية جادة نحو تسريع وتيرة إجراء لقاء مرتقب بين زعماء البلدين، من المتوقع أن يشهد وضع الرتوش الأخيرة على ملفات لم يتم غلقها نهائياً، للوصول إلى مرحلة تطبيع العلاقات، وفي القلب منها ملف ترسيم الحدود البحرية وإنهاء القلاقل الأمنية في منطقة شرق المتوسط، للاستفادة من عوائد حقول الغاز الطبيعي.
وأضاف المصدر ذاته لـ"عربي بوست" أن مصر لم تقطع العلاقات مع تركيا، ولكنها سحبت سفيرها عبد الرحمن صلاح، وهناك علاقات قوية بين الدبلوماسيين الذين مثلوا مصر في أنقرة، أو الذين جاؤوا من تركيا إلى مصر، ما يجعل ملف اختيار السفير الجديد يخضع لدراسة جديدة من نواحٍ مختلفة، بما يعزز من فاعلية التقارب، ويسهل في تقريب وجهات النظر بين البلدين.
مواصفات السفير المصري في تركيا
أوضح المصدر أن القاهرة استقرت تقريباً على سفيرها الجديد إلى تركيا– دون أن يُفصح عن هويته- وأنه من ضمن الفريق المصري الذي شارك في مباحثات التقارب بين البلدين، وقام أخيراً بعدة زيارات إلى أنقرة، وتعول على خبرته في مجال ترسيم الحدود البحرية، وكذلك القدرة على التواصل مع دوائر اقتصادية وتجارية عديدة، بما يخدم تطوير الملف الاقتصادي الذي يحظى بأولوية قصوى لصانع القرار المصري والتركي أيضاً.
وأشار إلى أن السفير المصري الجديد ستكون مهمته الأولى إعادة روابط التواصل مع الجانب التركي في ملفات سياسية واقتصادية مهمة، على أن يكون ذلك من خلال شركات عربية وإقليمية، مع دول أخرى صديقة ولديها علاقات تقارب وتعاون مشترك مع أنقرة.
القائم بالأعمال التركي في #القاهرة صالح موطلو شن: سنشهد في المستقبل القريب تعيين سفيري #تركيا و #مصر https://t.co/J5C7GCdDOw pic.twitter.com/vHA7fTwiFu
— Anadolu العربية (@aa_arabic) June 5, 2023
وأوضح أن القاهرة تنوي إعادة إحياء مجموعة الدول الثماني الإسلامية النامية، والتي يقع مقرها في إسطنبول، ولم يتم تفعيل التعاون المشترك في إطارها جراء الخلافات المتصاعدة بين القاهرة وأنقرة.
وتضم مجموعة الدول الثماني الإسلامية النامية التي تشكلت داخل إطار منظمة التعاون الإسلامي ثماني دول وهي: (تركيا ومصر ونيجيريا وباكستان وإيران وإندونيسيا وبنغلاديش وماليزيا)، يبلغ عدد سكان دول المنظمة مليار نسمة، أي ما يوازي 14% من سكان العالم. وتهدف المنظمة إلى تدعيم العلاقات الاقتصادية والاجتماعية بين دولها، تأسست المنظمة في العام 1997.
وتهدف مجموعة الثماني إلى تحسين موقف الدول النامية في الاقتصاد العالمي، لتكون نظيراً للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وتنويع وخلق فرص جديدة في العلاقات التجارية، وتعزيز المشاركة في صنع القرار على الصعيد الدولي، وتوفير أفضل مستويات المعيشة.
تقارب موازٍ
وبحسب المصدر المصري فإن التقارب بين القاهرة وطهران يتزامن مع تقارب موازٍ مع تركيا، يجعل هناك فرصة مواتية لتفعيل منظمة الثماني، ليكون التعاون الاقتصادي مدخلاً لتذليل مزيد من الملفات السياسية التي قد تكون عالقة حتى مع تطبيع العلاقات واستعادة السفراء بين البلدين، وأن قدرة كل من مصر وتركيا في الحفاظ على علاقات اقتصادية متطورة رغم القطيعة السياسية تعد أحد العوامل الإيجابية التي تبرهن على إمكانية تجاوز الخلافات، شريطة الوصول لنقاط مشتركة تحفظ مصالح كلا البلدين.
ولم تكن للأزمة السياسية والقطيعة الدبلوماسية بين البلدين خلال السنوات الماضية تأثير سلبي يذكر، بل على النقيض، بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين 7.7 مليار دولار خلال عام 2022، وارتفع من 753 مليون دولار عام 2006 إلى 4.675 مليار دولار عام 2020، فيما سجل إجمالي حجم التبادل التجاري بين عامي 2007 و2021 نحو 54.1 مليار دولار، وفق الأرقام الرسمية.
القائم بالأعمال التركي في #مصر، السفير صالح موطلو شن لـ"الشرق": 9.7 مليار دولار حجم التجارة بين مصر و #تركيا في 2022، وهو ما قد يصل إلى 20 مليار دولار سنوياً خلال الأعوام القليلة المقبلة، وحجم الاستثمارات التركية في السوق المصري يبلغ 2.5 مليار دولار #الشرق_مصر#اقتصاد_الشرق pic.twitter.com/97Tz4zq3of
— اقتصاد الشرق – مصر (@AsharqbEGY) May 31, 2023
تغيير موازين القوى الإقليمية
أشار أحد أعضاء المجلس المصري للشؤون الخارجية إلى أن مصر وتركيا تشكلان مركز ثقل واستقرار لشرق البحر الأبيض المتوسط، وتتقاسمان العديد من الملفات، وخطوات التوافق والتعاون في هذه الملفات من شأنها تغيير موازين القوى الإقليمية.
وبالتالي فإن ملف اختيار السفراء يكون بالغ الحساسية، ودائماً ما تختار القاهرة سفيراً يتم تصنيفه من الدرجة الأولى من حيث الكفاءة وعلى أعلى مستويات السفراء، ودائماً ما يتم الاستعانة بهؤلاء بعد الانتهاء من مهمة عملهم في مناصب دبلوماسية رفيعة في الدولة المصرية.
ولفت إلى أن السفير الجديد سواء من جانب مصر أو تركيا ستكون عليه مهمة مجاراة المتغيرات الإقليمية والدولية، الدافعة للمصالحات والتهدئة الإقليمية، وأن يكون لديه حنكة في احتواء أي خلاف أو مشكلة قد تنشب دون أن تأخذ مسارها في التصعيد الدبلوماسي على مستويات أعلى، والقدرة على المرونة الفائقة في مجالات التشاور التي من المتوقع أن تأخذ حيزاً واسعاً في مجالات عديدة في أعقاب إقدام البلدين على تلك الخطوة.
وكشف المصدر لـ"عربي بوست" عن أن ملف تبادل السفراء والاستقرار على الشخصيات التي ستقوم بالتمثيل الدبلوماسي قد جرى التفاهم بشأنه قبل إجراء الانتخابات التركية، وبالتالي فإن التسريع القائم من جانب مصر يشي بأنها اختارت بالتشارك مع تركيا تأجيل تنفيذ هذا الملف للصيف الجاري، وقد يكون هناك بعض التأجيل لحين إتمام اللقاء المرتقب بين الرئيسين المصري والتركي، لكن الأكثر بحثاً عن تبادل السفراء ستكون القاهرة التي تسعى لتحقيق مكاسب عديدة من وراء التطبيع.
قمة لتدشين عودة العلاقات رسمياً
واتفق الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الأسبوع الماضي، على "البدء الفوري برفع مستوى العلاقات الدبلوماسية وتبادل السفراء".
وكان السيسي بعث رسالة إلى أردوغان بمناسبة فوزه بالانتخابات الرئاسية وإعادة انتخابه رئيساً لتركيا لفترة رئاسية جديدة، وفق بيان للرئاسة المصرية.
واتفقت مصر وتركيا خلال زيارة قام بها وزير الخارجية المصري سامح شكري إلى أنقرة، في أبريل/نيسان الماضي، على إطار زمني محدد للارتقاء بالعلاقات الدبلوماسية، لم يعلن عن تفاصيله، والتحضير لعقد قمة بين الرئيسين السيسي وأردوغان بعد الانتخابات، تدشن عودة العلاقات رسمياً، لكن ذلك جاء عبر اتصال هاتفي، ما يشي بالاستعجال.
وفي شهر مارس/آذار الماضي، قام وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو بزيارة إلى القاهرة، وعقد محادثات مع شكري للمضي قدماً في تعزيز العلاقات بين البلدين.
ومؤخراً كشف القائم بالأعمال التركي في القاهرة، صالح موطلو شن، عن عزم البلدين على تعيين سفيرين بشكل متبادل بينهما في المستقبل القريب.
وقال موطلو شن، في تصريحات صحفية، إن "الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره المصري عبد الفتاح السيسي أعربا عن رغبتهما في رفع العلاقات الدبلوماسية إلى أعلى مستوى"، مؤكداً "حرص أردوغان على تطوير العلاقات مع مصر".
وأشار إلى أن "العلاقات مع مصر ستشهد قريباً تعيين السفراء"
ولفت إلى "وجود زيارة رسمية لوزير الصناعة والتجارة المصري أحمد سمير إلى تركيا قريباً، وإلى زيارة وفدين تركيين من قطاعات مختلفة للقاهرة".
تنويع مصادر التقارب مع تركيا
يقول خبير مصري في الشؤون التركية، مقرب من الحكومة المصرية، لـ"عربي بوست"، إن مصر كانت في انتظار نتيجة الانتخابات التركية لإعادة العلاقات على مستوى تبادل السفراء، وقد تكون الأجواء ممهدة بعد إعادة ترتيب البيت التركي من الداخل خلال الأسابيع المقبلة.
وأوضح أن القاهرة تبحث عن تنويع مصادر التقارب مع تركيا، سواء كان ذلك عبر قنوات الاتصال الدبلوماسية العادية أو عبر تعزيز التبادل التجاري المشترك بين رجال الأعمال المصريين والأتراك، الذين لم تنقطع صلتهم خلال السنوات الماضية، إلى جانب تعزيز التعاون في الإطار الإقليمي والدولي في ملفات تتلاقى فيها مصالح البلدين.
وقد يأتي ملف الأزمة السودانية في مقدمة ملفات التشاور بينهما، إذ يتلاقى الموقف المصري مع التركي بدرجات مختلفة، وهناك رغبة من جانب الطرفين للوصول إلى حالة تهدئة تمنع انزلاق البلاد إلى أتون الحرب الأهلية، بما يحمل من ذلك من تأثيرات سلبية على مجالات التعاون الاقتصادي مع الخرطوم.
كما أن تركيا تعول على مصر في أن تكون بوابتها نحو تعزيز التبادل التجاري والاستثماري مع القارة الإفريقية، وفقاً لما أكده الخبير المصري.
وأوضح أن اندفاع القاهرة نحو مساعي تعيين السفراء يرجع إلى أنها تحتاج إلى علاقات مباشرة مع أنقرة، والوضع ذاته بالنسبة لإيران حتى تجد بدائل ملائمة لها من الممكن أن تساعدها في حلحلة أزمتها الاقتصادية، خاصة مع تراجع الدعم الذي كانت تحصل عليه من دول الخليج، ولديها رغبة في تعزيز سجل التبادل التجاري، والانخراط في أنشطة استثمارية أكبر تضمن من خلالها الحصول على موارد جديدة من العملة الصعبة، أو على أقصى تقدير الوصول إلى تفاهمات بشان تعزيز التبادل المشترك بالعملات المحلية، وهو ما يقلل من فاتورة الضغط على حصيلتها الدولارية الضعيفة.
وبحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر، حلت تركيا في المرتبة الأولى ضمن مجموعة العشرين استيراداً من مصر العام الماضي، بنحو 2.6 مليار دولار، في حين جاءت الصين أولاً بالصادرات إلى مصر بنحو 9.9 مليار دولار. في حين تشير مصادر تركية إلى أن الصادرات التركية إلى مصر زادت عن 3 مليارات دولار العام الماضي.
العلاقات الاقتصادية دافع نحو التقدم السياسي
وأشار مصدر دبلوماسي مصري في وزارة الخارجية المصرية إلى أن الاقتصاد سيكون محور اهتمام السفراء الجدد بين البلدين، وأن الملفات السياسية الشائكة قد تكون محل نقاش دوائر دبلوماسية ولجان مشتركة بين البلدين للتغلب عليها.
وأوضح أن الطرفين يعولان على أن يكون تقدم العلاقات الاقتصادية دافعاً نحو التقدم السياسي، وأن فوز الرئيس رجب طيب أردوغان بالرئاسة قادر على أن يذلل تلك العقبات، لأن الإرادة السياسية تتوفر نحو إحداث التوافق مع مصر، بعد أن قطعت أنقرة أشواطاً عدة على مستوى التقارب العربي مع دول الخليج، خاصة السعودية والإمارات.
وينعكس مستوى العلاقات الدبلوماسية على التطور في مستوى العلاقات. ووفقاً للمصدر فإنه من المتوقع الوصول إلى مستوى جيد من التفاهمات على صعيد الملف الليبي، إذ إن هناك شبه توافق بين البلدين على توحيد المؤسسة العسكرية وحماية الحدود والحفاظ على وحدة الأراضي الليبية، وبشأن ملف شرق المتوسط، فإن القاهرة تلعب دوراً مهماً في شرق المتوسط، ويمكن الاستفادة منها كوسيط لتهدئة العلاقات التركية مع اليونان وقبرص.
وكان الرئيس التركي قال الشهر الماضي إن "مصر وكل بلدان الخليج هي دول شقيقة لتركيا"، لافتاً إلى أنه "ليس من الصواب أن نكون نحن وهم مستائين ومتخاصمين، وقد تجاوزنا هذا الوضع، والآن بدأت الزيارات المتبادلة معهم جميعاً"، وتعهد "بنقل هذه العلاقات إلى نقطة متقدمة أكثر عقب الانتخابات الرئاسية".
واستغرقت المباحثات بين البلدين حتى وصلت لتلك الدرجة ما يقرب من عامين، بدأت بإرسال وفد تركي إلى مصر، وتبع ذلك زيارةُ وفد مصري إلى تركيا، تطورت العلاقاتُ باتجاه إعادة تطبيعها، وذلك بعد لقاء رئيسي البلدين على هامش افتتاح كأس العالم لكرة القدم بقطر، كما تحدث الرئيسان عبر الهاتف في أعقاب زلازل تركيا، في شهر فبراير/شباط الماضي، ثم زار وزير الخارجية المصري سامح شكري تركيا في أبريل/نيسان، حيث التقى نظيرَه التركي، واتفقا على إطار زمني محدد لرفع مستوى العلاقات الدبلوماسية والتحضير لاجتماع قمة بين البلدين.