تعم حالة من الارتباك المشهد السياسي المصري، بعد أيام قليلة من انطلاق الجلسة الأولى للحوار الوطني، والتي أعقبتها حالات القبض على عدد من أقارب ومؤيدي المعارض المصري أحمد الطنطاوي، الذي كان مقرراً أن يصل إلى القاهرة قادماً من بيروت، السبت الماضي، والذي ألمح من قبل لإمكانية ترشحه في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وهو ما أرسل إشارات متضاربة بشأن جدية الحكومة نحو إنجاح الحوار، في الوقت الذي تتأرجح فيه مواقف المعارضة بين الانسحاب والمشاركة.
وأعلنت الحركة المدنية الديمقراطية، التي تضم في أعضائها أحزاباً وشخصيات معارضة، تفكيرها جدياً في الانسحاب من الحوار، وأنها سوف تراجع مواقفها من استكمال المشاركة من عدمه، وأرجعت ذلك لأخبار الحبس التي تطارد يومياً أعضاء الأحزاب وأصحاب الرأي وأقارب السياسيين، واعتبرت أن تلك الأجواء لا يمكنها إنجاح الحوار.
وأوضحت الحركة المدنية أنه لم يتم الإفراج بعد عن معظم أعضاء الأحزاب الذين تلقت الحركة وعوداً بالإفراج عنهم، بجانب معتقلين آخرين تم التوافق على خروجهم مع بدء الحوار الوطني، وأنها سوف تدرس بعناية "التطورات المعيقة لنجاح الحوار، لكي تحدد مدى جدوى استمرارها في المشاركة، وستتحلى في هذا الصدد بأقصى درجات ضبط النفس. ولكنها تؤكد مجدداً أن الاستمرار في ظل هذه الأجواء أمر بالغ الصعوبة".
أطراف لديها مصلحة في إفشال الحوار
وكشف مصدر مطلع بالحركة المدنية لـ"عربي بوست"، كواليس ما يدور بين أعضائها، مؤكداً على أن الانقسام يسود مواقف الأحزاب المشاركة في التحالف، بين من يرون أن هناك ضرورة للضغط على الحكومة المصرية بإعلان الانسحاب من الحوار، باعتبار أن ذلك يصاحبه انتقادات داخلية وخارجية، وقد تجد الحكومة نفسها مضطرة لإتاحة الحريات العامة على نطاق أوسع.
وترى وجهة النظر هذه أن الاستمرار في الحوار دون أن تكون هناك أجواء ملائمة للتجهيز لانتخابات الرئاسة المقبلة لن يكون منطقياً، لأن الهدف من الحوار من الأساس إجراء إصلاح سياسي تأخر كثيراً.
وأضاف المصدر ذاته، أن التيار الآخر يرى أن القبض على عدد من مؤيدي وأنصار المرشح أحمد طنطاوي لا يعني ترك الساحة سريعاً، لأن الملفات الرئيسية التي من المقرر التباحث بشأنها، وعلى رأسها تعديل قانون الحبس الاحتياطي، وقوانين الانتخابات، وإجراءات فتح المجال العام مازالت طور النقاشات الأولى قبل انعقاد الجلسات المباشرة.
وهؤلاء، وفقاً للمصدر ذاته، لمسوا في النقاشات السابقة مواقف إيجابية يمكن التعويل عليها، وأن التلويح بالانسحاب مع عقد اتصالات غير معلنة مع الحكومة المصرية وأطراف داعمة لإنجاح الحوار يقود لتحقيق مكاسب سياسية، في حين أن الانسحاب لن يؤدي لتغيير يُذكر مع عدم اكتراث الحكومة بمواقف الأحزاب المختلفة.
وأشار المصدر إلى أن قيادات فاعلين داخل الحركة المدنية لديهم رؤية بأن ما يحدث من حالات قبض على عدد من المعارضين خلال الأيام الماضية لا يعبر عن موقف مؤسسة الرئاسة المصرية، التي تبدو حريصة على إنجاحه، وأنه يجب تفويت الفرصة على أطراف- لم يُسمها- قد تكون لديها مصلحة في إفشاله، خاصةً أن الأحزاب ليس لديها الجماهيرية أو الشعبية التي يمكنها الضغط على السلطة.
تصويت جديد على الاستمرار في الحوار
تعمل أحزاب منضوية داخل الحركة المدنية على إجراء مشاورات داخلية- بحسب ما أوضح المصدر- قبل الاضطرار لعقد تصويت جديد على الاستمرار في الحوار من عدمه، مثلما جرى الوضع قبل انطلاق الجلسة الأولى.
لكنه شدد على أن الأقرب في تلك الحالة سيكون الانسحاب، لأن بعض من تبنوا رؤية مؤيدة للاستمرار في السابق راجعوا مواقفهم الآن، والأمر يتوقف على ما ستسفر عنه الاتصالات التي يجريها عدد من القيادات الفاعلة بالحركة، وعلى رأسهم مؤسس حزب تيار الكرامة حمدين صباحي، ورئيس الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي فريد زهران.
وبعد ساعات من انطلاق الحوار الوطني، أعلن الحقوقي المصري البارز حسام بهجت، أن اثنين من أقارب النائب البرلماني السابق، أحمد الطنطاوي، ومجموعة من أنصاره، تم القبض عليهم والتحقيق معهم في نيابة أمن الدولة، وهو ما كان دافعاً نحو إعلان طنطاوي إرجاء عودته، التي كانت مقررة إلى مصر السبت الماضي لعدة أيام، لكنه لم يحدد موعداً جديداً لعودته.
وقال الطنطاوي في مقطع فيديو نشره عبر حسابه على فيسبوك، الليلة "إنه لا يدعو لقطيعة مع مؤسسات الدولة، وإنه منفتح على الجميع".
جهات حكومية لديها تحفظات على طريقة تعامل المعارضة مع الحوار
وأكد مصدر أمني رفيع، تحدث إليه "عربي بوست"، أن القبض على أقارب طنطاوي ليس له علاقة بالحوار الوطني، وقد تكون هناك أسباب أمنية دفعت لاتخاذ القرار، وأن تمثيل المعارضة في الحوار، وكذلك ما تمخضت عنه جلسات النقاش السابقة في أثناء الجلسات التمهيدية للإعداد للحوار، يثبت أن هناك رغبة لإنجاحه، وأن مخرجاته ستكون بمثابة تمهيد جيد لأجواء سياسية مناسبة لإجراء انتخابات الرئاسة.
وأوضح أن جهات حكومية لديها تحفظات على طريقة تعامل المعارضة مع الحوار، لأنها وضعت في البداية شروطاً للمشاركة فيه، وفي المقابل فإن الحكومة كانت أكثر انفتاحاً على أحزاب عديدة، بل إن الدعوة للحوار من الأساس جاءت بدعوة من رئيس الجمهورية، ولم تكن في ذلك الحين ضغوط تمارسها المعارضة لإطلاقه.
كما أن الحكومة أطلقت سراح آلاف المحبوسين على ذمة قضايا رأي، ولا يعني عدم الاستجابة لإطلاق سراح أسماء بعينها أنها تعمل على إفساد الحوار الوطني، لأن هناك شروطاً عديدة وأبعاداً أمنية تسبق اتخاذ قرار العفو الرئاسي، أو الإفراج عن المحبوسين احتياطياً من جانب النائب العام، على حد قوله.
بدائل الحركة المدنية
ولفت إلى أن الحكومة هي الأخرى سيكون عليها أن تكون أكثر حسماً في التعامل مع ملفات عديدة، بما لا يجعلها تحت ضغط الانسحاب بشكل مستمر، وهو ما بدأت تتيقن له بعد أن وسعت دائرة التشاور مع أطراف معارضة من خارج الحركة المدنية الديمقراطية، وأن حضور أعضاء حركة 6 أبريل، وعدد من النشطاء البارزين في ثورة يناير، وكذلك قيادات حزب مصر القوية الذي يرأسه الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، المحبوس حالياً، يستهدف ضمان وجود معارضة ممثلة في الحوار، حتى وإن اتخذت الحركة المدنية قرارها النهائي بالانسحاب.
وكان رئيس مجلس أمناء الحوار الوطني، ضياء رشوان، قد عقد جلسة تشاورية عشية انطلاق الحوار مع عدد من قيادات أحزاب الحركة المدنية ممن لديهم رغبة في المشاركة بالحوار، كما أنه استقطب مجموعة من قيادات حزب مصر القوية، والتقى بأعضاء حزب المحافظين الذين تقدموا باستقالة جماعية؛ احتجاجاً على مواقف حزبهم الرافض للمشاركة في الحوار، وهو ما جرى فهمه على أنه رسالة للحركة المدنية بأن الحكومة ستجد طرفاً معارضاً تتفاوض معه إذا ما قررت الانسحاب.
وانطلقت، الأربعاء الماضي، أولى جلسات الحوار الوطني، بحضور رئيس الوزراء مصطفى مدبولي وعدد من الوزراء، وشخصيات معارضة بعضها كانت في السجون خلال السنوات الأخيرة.
وشهدت الجلسة الافتتاحية انتقادات لإدارة بعض الملفات، وأبرزها ما جاء على لسان وزير الخارجية المصري الأسبق، عمرو موسى، الذي طالب بمزيد من الشفافية في التعامل مع المواطنين، وخصوصاً في الملف الاقتصادي، بجانب حل أزمة المحبوسين احتياطياً دون محاكمة في مصر.
وتطرق موسى، وهو الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية، إلى ما وصفها بالسياسات الأمنية، وهل "سيطرت على حركة مصر الاقتصادية فأبطأتها أو قيدتها؟"، ودعا إلى إنهاء أزمة المحبوسين احتياطياً دون محاكمة في مصر قائلاً: "آن الأوان في الواقع للتعامل المباشر والفوري والشامل مع هذا الملف، لنغلقه نهائياً ونتوجه إلى ما هو أهم وأبقى".
خطوط حمراء في النقاشات
وقال مصدر آخر بالحركة المدنية، إن المعارضة تصلها يومياً رسائل سلبية بشأن إمكانية إنجاح الحوار الوطني، وإن الأجواء الإيجابية التي سادت الجلسة الافتتاحية سرعان ما تحولت إلى مؤشر سلبي، وإن تلك الرسائل لم يكن لديها انعكاسات سلبية فقط على الأحزاب المدنية، لكنها أيضاً على الرأي العام في مصر، والذي يتوجس منذ البداية من مدى قدرته على إحداث إصلاح سياسي واقتصادي حقيقي.
ويرى أن الحركة المدنية تحاول أن تفوت الفرصة على مسألة إبعادها من الحوار، واستئثار أحزاب أخرى محسوبة على الحكومة بمجرياته، وتنتظر لتعرف دوافع السلطة نحو استمرار حالات القبض على معارضين، وأن قيادات الحركة تواصلوا مع المنسق العام للحوار ضياء رشوان، الذي لديه صلات مباشرة مع الجهة الداعية للحوار، وهي مؤسسة الرئاسة، لإبلاغها بموقف المعارضة.
لا يعول المصدر ذاته كثيراً على إحداث تحول جذري يُسهم في تحقيق أجواء أكثر إيجابية، كاشفاً لـ"عربي بوست" أنه منذ اليوم الأول للدعوة للحوار كانت هناك أطراف داخل الدولة متحمسة له.
في المقابل، فإن أعضاء في البرلمان وأحزاباً سياسية تحقق مكاسب مجانية على الأرض، ترى أن الحوار يخصم من رصيدها المستقبلي لصالح المعارضة، وهو ما كان أحد العوامل المهمة التي تسببت في تأخير انطلاقه لمدة عام كامل.
ولم يكن مقرراً أن يتم استبعاد أي من الملفات في الحوار، وفقاً للمصدر ذاته، والذي أشار إلى أن القائمين عليه دائماً ما أكدوا على أنه لا خطوط حمراء في النقاشات، غير أن حديث المنسق العام بشأن تنحية بعض الملفات جانباً يُعد مؤشراً على ما سيحدث في أثناء الجلسات المقبلة، التي قد تكون أمام محاذير جديدة.
وقال ضياء رشوان في كلمة خلال الجلسة الافتتاحية للحوار الوطني، إنه لا مساس بالدستور المصري القائم الآن، بل هناك انصياع كامل لكل مواده، لذلك لن يتم التطرق للدستور ومواده في مناقشات الحوار.
هذا بالإضافة إلى ملف السياسة المصرية الخارجية، فأدواتها متفق عليها بالإجماع، ولا نقاش للسياسة الخارجية، لافتاً إلى أن الخارجية المصرية تتعامل مع كل القضايا بمحددات معروفة للجميع، وكذلك كل ما يتعلق بالأمن القومي الاستراتيجي، قائلاً: "جميعاً نعرف كيف يُدار هذا الملف من القوات المسلحة".
وخلال الساعات الماضية، أعلنت حركة "الاشتراكيين الثوريين"، وهي إحدى الحركات التي كان لها نشاط سياسي في أعقاب اندلاع ثورة يناير، قبل أن تتوارى عن الأنظار خلال السنوات الماضية، رفضها لـ"الحوار الوطني"، ودعت المشاركين فيه، وبخاصة "الحركة المدنية الديمقراطية"، إلى مراجعة موقفها، وإنشاء جبهة موحدة للمعارضة.
وبحسب الحركة، فإن الحوار غير متكافئ، وإن المناخ الحالي لا تؤمن عواقبه حتى على من قبلوا المشاركة فيه، إذ إن السلطة هذه هي ذاتها التي أغلقت المجال العام منذ ما يقرب من عشر سنوات، وحجبت المواقع الصحفية، وقمعت الأحزاب السياسية، واعتقلت كل من تفوه بكلمة نقد عن سياستها.
بذرة فشل الحوار قبل انطلاق جلساته المباشرة
ولفت محلل سياسي إلى أن كلاً من الحكومة والمعارضة لديهما مشكلات عميقة، تضع بذرة فشل الحوار قبل انطلاق جلساته المباشرة، لأن كلاً منهما لم يحسم مصير مستقبله، إذ إن الحكومة مازالت مترددة في مسألة إنجاح الحوار أو تحويله إلى أداة لكسب مزيد من الوقت، والتأكيد على أنها ماضية لإجراء إصلاح سياسي قبل انتخابات الرئاسة.
وكذلك المعارضة لا تستطيع اتخاذ قرار الانسحاب من الحوار، وليس لديها خطط بديلة بعد تلك الخطوة، وتنتظر تحركاً شعبياً من المواطنين يدعمها، لكنه لن يحدث.
وأشار إلى أن الحوار الوطني إذا حقق نتائج إيجابية على مستوى ملفات تعديل قوانين الانتخابات، وإقرار القائمة النسبية المغلقة، التي تسمح بتمثيل أكبر للمعارضة في مجلسي النواب والشيوخ، وإقرار قانون المحليات، وتقليص مدة الحبس الاحتياطي، وإدخال تعديلات جذرية على قانون الإجراءات الجنائية، وكذلك فتح المجال العام، والسماح بإقامة انتخابات رئاسية نزيهة، فإن ذلك يعد مكسباً مهماً للمعارضة، وفي تلك الحالة فإن استمرارها يكون أفضل إيجابية من انسحابها.
ومن المقرر أن يناقش الحوار الوطني ثلاثة ملفات رئيسية، وهي الملف السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وذلك من خلال 19 لجنة، ويتداخل بالملفات الثلاثة 113 قضية، تشمل تقريباً كل القضايا المطروحة لتحدد مسارات مستقبل المشهد العام في البلاد.