أثار المقترح الذي قدمه عضو البرلمان المصري ورئيس الهيئة البرلمانية لحزب التجمع اليساري النائب عاطف مغاوري إلى البرلمان، وحظر من خلاله استقالة الأطباء من القطاع العام إلا بعد دفع ثلاثة أضعاف ما تكلفته الدولة في تعليمهم، غضباً واسعاً في صفوف الأطباء في مصر.
ويأتي هذا المقترح وسط ترجيحات من قطاع واسع من الأطباء بأن الحكومة تسعى للاستفادة منهم مادياً بكافة السبل دون أن تفكر في تحسين أوضاعهم التي تدفعهم للهجرة إلى الخارج.
استقبل طبيب المخ والأعصاب محمود عبد النعيم هذا المقترح بحالة من الاستياء، قائلاً لـ"عربي بوست" إن الحديث عن وضع قيود جديدة على الأطباء جاء في الوقت الذي يحاولون فيه بشتى الطرق البحث عن أية آليات تشجعهم على البقاء.
وأشار إلى أن الاستجابة لمغريات الهجرة تدفع أعداداً أكبر من الأطباء لسرعة تقديم استقالاتهم خشية تحويل المقترح إلى تشريع برلماني، ومن ثم إقراره بشكل رسمي ليكون واقعاً، كاشفاً عن أن عدداً من زملائه يفكرون البدء في إجراءات الاستقالة عقب الانتهاء من إجازة العيد.
ويخشى عبد النعيم وزملاؤه أن يجدوا أنفسهم مجبرين على دفع مئات الآلاف من الجنيهات، مشيراً إلى أن خالد عبد الغفار، وزير التعليم العالي والبحث العلمي السابق، صرح بأن تكلفة طالب الكليات الحكومية العلمية كالطب والهندسة والصيدلة وطب الأسنان للدولة خلال السنة الدراسية الواحدة هو 60 ألف جنيه.
وأشار إلى أن الطالب الذي يدرس بالكليات العملية الحكومية يقوم بدفع 1000 جنيه فقط في السنة. أما تكلفة طالب الكليات النظرية كالحقوق والآداب خلال السنة الدراسية الواحدة من 25 إلى 30 ألف جنيه.
استقالات جماعية إذا تحوّل المقترح إلى تشريع
وأضاف الطبيب: "ذلك يعني أن من يريد السفر منا عليه دفع مليون و239 ألف جنيه، أي ما يقرب من 40 ألف دولار"، متعجباً "إذا كان خريج الطب معه تلك الأموال فلماذا يسافر؟".
وأوضح الطبيب الذي يعمل بإحدى المستشفيات الحكومية أن هناك استحالة في تطبيق مثل هذا المقترح الذي يكون مجرد التفكير في تحويله إلى تشريع تحت قبة البرلمان بمثابة استقالة جماعية من عشرات الآلاف من الأطباء الموجودين حالياً، وهو أمر يجعل جهات حكومية تفكر كثيراً قبل اتخاذ قرار بشأنه.
ويتوقع عبد النعيم أن يكون ما تمت إثارته مجرد جس نبض للأطباء بعد أن فشلت مبادرات عديدة هدفت إلى دفعهم للعودة إلى مصر مرة أخرى أو حاولت من خلالها الحكومة المصرية إثناءهم عن الهجرة.
وشكلت وزارة الصحة المصرية لجنة حكومية لحل أزمة هجرة الأطباء الشهر الماضي برئاسة وزير الصحة خالد عبد الغفار، تستهدف القيام بثلاث مهام رئيسية، هي تحسين الوضع المادي، والتدريب والتعليم، والوضع القانوني بهدف توفير حياة كريمة للأطباء.
لكن "عربي بوست" علمت من مصدر مطلع بوزارة الصحة المصرية أن اللجنة التي تضم في عضويتها وزراء صحة سابقين، ووزير التعليم العالي الأسبق، ونقيب الأطباء، وأحد أعضاء مجلس النقابة، والمستشار القانوني لوزير الصحة، واثنين من شباب الأطباء يرشحهم مجلس النقابة، إضافة إلى ممثلين عن وزارتي العدل والمالية، لم تعقد اجتماعاتها بعد، وأن تشكيلها جاء ترضية للأطباء فقط و"نوع من المسكنات حتى لا يخرجوا عن صمتهم كما يفعل البعض منهم بين الحين والآخر".
قبل هذه التحركات التقت وزيرة الهجرة المصرية سها جندي بعدد من الأطباء المصريين في الخارج لبحث الاستفادة منهم، وحاولت تقديم مغريات مادية ومعنوية إليهم للعودة مرة أخرى، لكن محاولاتها باءت بالفشل، وفقاً للمصادر ذاتها.
وأكدت المصادر أن الحكومة لن تستطيع الاستجابة لمطالب الأطباء التي تتطلب موازنات مالية مرتفعة للغاية، وتعمل تارة على زيادة أعداد المقبولين، وأخرى من خلال إصدار قرارات إدارية من شأنها تعقيد عملية الاستقالات.
الأطباء في مصر.. أساليب عقابية لعلاج مشكلة الهجرة
وجاءت التحركات الحكومية بعد أن أرسل الأطباء في مصر خطاباً جماعياً الشهر الماضي إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي حمل توقيعات أكثر من ستة آلاف طبيب، طالبوا فيه بتطبيق قانون المسؤولية الطبية أسوة بدول العالم المختلفة التي شرّعت قوانين عادلة تنظم فحص شكاوى الخطأ الطبي والتقاضي في القضايا المهنية الطبية، والتي كانت أحد العوامل لاستقرار المنظومات الصحية في هذه البلاد وجذب الأطباء للعمل بها، وهو القانون المعطل في البرلمان نتيجة اعتراض الأطباء على بعض بنوده.
وقال مصدر مطلع بنقابة الأطباء، إن الحكومة دائماً ما تفكر في حلول بعيدة عن جوهر الآليات السليمة لحل مشكلات الأطباء، وحينما ظهرت مشكلات الهجرة فكرت في زيادة أعداد طلاب كليات الطب بدلاً من معالجة الأوضاع الصعبة التي يعمل فيها الأطباء.
"بعد أن تضاعفت هجرات الطلاب، فكرت الحكومة في أساليب عقابية بدلاً من كسبهم إلى صفها، وهو ما يشير إلى أن مصر ستشهد مزيداً من الهجرات خلال الأشهر المقبلة"، بحسب المصدر.
ولفت إلى أن علاج مشكلة وقف الهجرة معروف للجميع ويتلخص في حل مشكلات الأجور المتدنية للأطباء الذين يهاجرون، كما قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بسبب أنه "لا يستطيع إعطاءه مرتب كويس".
ويؤكد المصدر على ضرورة وضع آليات قابلة للتطبيق لزيادة المرتبات، مثل: تطبيق نظام العلاج الاستثماري بالمستشفيات التي لم يطبق بها التأمين الصحي بعد، وأن يحصل الطبيب على نسبة ثابتة لا تتدخل فيها الإدارة أو المديريات، كما أنه يمكن مساعدة الأطباء في مصر من خلال تسهيل إجراءات ترخيص العيادات الخاصة وإزالة العراقيل الشديدة التي يواجهونها.
وكشف لـ"عربي بوست" أن المقترح البرلماني استكمال لحالة العداء من جانب عدد من نواب البرلمان الذين حاولوا تمرير قانون المسؤولية الطبية وفقاً لرؤيتهم التي تحمّل الطبيب مسؤولية نقص المستلزمات الطبية في المستشفيات.
وأشار إلى أن تعطيل القانون رغم مناقشته في مجلس النواب منذ ما يقرب من 6 سنوات غير مبرر، بسبب "وجود أصابع خفية ترفض تغليظ عقوبة التعدي على المستشفيات والطواقم الطبية ويحفظ للطبيب الحد الأدنى من الكرامة والأمان والمعاملة الآدمية، وبالتالي تستمر الفجوة بين الأطباء والحكومة"، على حد تعبيره.
اقتداء بقانون أكاديمية الشرطة
تضمن المقترح الذي تقدم به نائب رئيس حزب التجمع، وهو موالٍ للحكومة، بأن يتم تطبيق الشروط الجديدة لاستقالة ضباط الشرطة على الأطباء والمعلمين الجدد الراغبين في الاستقالة، والتي تنص على عدم ترك الخدمة بعد التخرج إلا بمرور 10 سنوات أو دفع 3 أضعاف تكاليف ما تم صرفه على تعليمه.
ووجد النائب فرصة مناقشة تعديلات قانون أكاديمية الشرطة أمام مجلس النواب، حجة للحديث عن حظر استقالة الأطباء، واعتبر أنه مقترح اقتداءً بقانون أكاديمية الشرطة، مشيراً إلى أن هناك مدرسين يستقيلون من عملهم للتفرغ والعمل بالدروس الخصوصية، بعد استغلال وجودهم بالمدارس كدعاية لهم قبل الاستقالة.
وتابع: "طالب الطب يكلف الدولة مصاريف طوال 7 سنوات، وتكلفته على الدولة تتضح بمقارنته بطلاب الطب في الجامعات الخاصة، ولذلك يجب أن يخدم في وظيفته لمدة زمنية محددة ويكون ذلك شرطاً".
وأضاف: "علينا الاجتهاد لخروج تشريع قانوني يلزم الأطباء والمعلمين بالعمل لمدة محددة، من خلال إقرار الطالب وولي أمره على الشرط السابق قبل الالتحاق بكليات الطب والتربية، وهو مقترح يمكن تطبيقه لضمان حق الدولة على الأطباء والمعلمين".
مقترح غير دستوري
وتبرّأ العديد من البرلمانيين المحسوبين على الحكومة، وكذلك نواب المعارضة، من المقترح الذي تقدم به نائب حزب التجمع، وهو ما يشير إلى أن حالة الغضب التي عمت المستشفيات الحكومية خلال الأيام الماضية ستدفع نحو التراجع عن مناقشته.
وأكد مصدر آخر بنقابة الأطباء المصرية أن عموم الأطباء في مصر كانوا ينتظرون أن يبادر مجلس النواب بإقرار حلول حقيقية لها، ويلزم الحكومة بها، ولكننا نفاجأ كل فترة بمقترح غير دستوري لا يحل المشكلة بل يزيدها تعقيداً.
وأشار إلى أن الطبيب الذي يفكر في الهجرة ويقتنع بأهمية اتخاذه لتلك الخطوة لا توجد أي قوة تمنعه من التراجع عنها، وفي تلك الحالة فإن ترك العمل والسفر في أي مهمة خارجية سيكون سبيلاً لكثير من الأطباء حتى في حال رفض الاستقالات التي يتقدمون بها، والبعض قد يفكر في الحصول على إجازات دون راتب لفترة قبل العودة مرة أخرى.
وتتغافل جهات حكومية أن الأطباء في مصر يتحملون نتيجة سوء المنظومة الطبية وتردي بيئة العمل بسبب ضعف الميزانية وارتفاع الأسعار ونقص المستلزمات الطبية وعدم توفر العمالة ونقص التمريض والسكرتارية الطبية، التي تعتبر غير موجودة في مصر رغم أهميتها، لأنها أساس كتابة التقارير الطبية والعمل الإداري، وتذهب باتجاه تصدير صورة تؤكد من خلالها أنها تسعى للتضييق بشكل أكبر عليهم، سواء كان ذلك من مبادرات يتم إطلاقها في الهواء لكنها تعبر عن رغبة داخلها قد تذهب باتجاه تنفيذها في أي وقت.
ويشير إلى أن البرلمان دائماً ما يتحامل على الأطباء فى أمور عديدة، وفي بعض الأحيان يدافع النواب عن الأشخاص الذين يعتدون على الأطباء في المستشفيات الحكومية ويتدخلون لعقد جلسات عرفية تمنع المخطئ من توقيع العقاب القانوني عليه، ليبقى الطبيب ضحية جهات عديدة، لأنه عندما يأتي المريض في حالة طارئة ويبحث عن غرفة في العناية المركزة ولا يجدها، لا يجد في وجهه سوى الطبيب ليصب غضبه عليه، ويصل الوضع في بعض الأحيان إلى التعدي بالضرب، وبعدها قد يتعرض الطبيب نفسه للحبس.
وتكشف أرقام نقابة الأطباء في مصر أن الاستقالات تضاعفت خلال السنوات الأخيرة، إذ بلغ إجمالي المستقيلين 11 ألفاً و536 طبيباً منذ أول 2019 حتى 20 مارس 2022، وفي عام 2016 كان عدد الأطباء المستقيلين من الحكومة 1044 طبيباً، وفي 2017 وصل عددهم إلى 2549 طبيباً، وفي عام 2018 أحصت 2612 طبيباً، وعام 2019 بلغ 3507 أطباء، وفي 2020 كان العدد 2968، أما في عام 2021 فبلغ 4127 طبيباً وطبيبة.
وبالإضافة إلى أرقام الأطباء المستقيلين فإن هناك ما يقرب من 2000 طبيب من حديثي التخرج لم يستلموا العمل بالقطاع الحكومي ووزارة الصحة لم تمنحهم قرارات إنهاء الخدمة حتى الآن ولم يستطيعوا أن يستخرجوا شهادة "طبيب حر" بنقابة الأطباء، طبقاً لمحضر النقابة.
وفاقمت هجرة الأطباء في مصر النقص الكبير الحاصل في أعداد الكوادر الصحية في البلاد، وتكشف بيانات منظمة الصحة العالمية أن معدل الأطباء في البلاد لا يتجاوز 7 لكل 10 آلاف شخص، وهو معدل أقل بكثير من الحد الأدنى الذي توصي به (10 أطباء لـ10 آلاف شخص).