جولة في أعرق مساجد الجزائر.. قصة “الجامع الكبير” من عهد المرابطين حتى مقاومة الاستعمار الفرنسي (صور)

عربي بوست
تم النشر: 2023/03/29 الساعة 12:55 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/02/24 الساعة 05:57 بتوقيت غرينتش
الجامع الكبير في العاصمة الجزائر يحظى بشعبية كبيرة - عربي بوست

يتمتع "الجامع الكبير" في الجزائر برمزية كبيرة تاريخية، مع ما يلخصه من عراقة وتراث عتيق على مدار قرون عدة، فكان حاضنة للدين والتراث والعلم من جهة، وواجهة لمقاومة الاحتلال الفرنسي من جهة ثانية، فحمى السكان وحموه من براثن وخطط هدمه.

يقع الجامع بالقرب من القصبة السفلى في الجزائر العاصمة، ويوصف كذلك بـ"المسجد العتيق" بسبب ثباته لنحو أكثر من ألف سنة، شهد فيها مختلف الحقب التي مرت على البلاد، الأمر الذي يدفع مسؤولي الدولة بالحرص على استمرار تأدية عيدي الفطر والأضحى فيه، بصفته أعرق مساجد البلاد.

"عربي بوست" غاص في تاريخ هذا الجامع العتيق، ونقل أهم معالمه في هذا التقرير.

واجهة العاصمة الجزائرية

تجولت كاميرا "عربي بوست" في الجامع الكبير بهدف التعرف على هذا الصرح الديني عن قرب. 

"الجامع الأعظم" هو الاسم الذي كان يسمى به في العهد المرابطي. ويقع في القصبة السفلى لشارع المرابطين، وبني على أنقاض كنيسة رومانية بحسب بعض المراجع، حيث أمر ببنائه يوسف بن تاشفين حوالي سنة 1072، لينتهي تشييده سنة 1097، بحسب التاريخ المسجل بالخط الكوفي على منبره المصنوع من خشب الأرز.

يتربع الجامع الكبير المحاذي لشاطئ الميناء، والقريب من مدينة القصبة العريقة، على مساحة حوالي 2000 متر مربع بشكله المستطيل القائم على عرض 46.30 متر، وعمق 20.38 متر.

ويمكن لزائر هذه التحفة الدينية-التراثية أن يلجه من 6 أبواب، مصنوعة من الخشب، ولكل منها اسم، أشهرها باب الجنينة المقابل لساحة الشهداء، يليه باب البواقل ثم باب الفوارة، بالإضافة إلى باب الصومعة المحاذي للمئذنة، وصولاً لباب الطحطاحة، وآخرها باب الجنائز.

عند دخولك إلى الجامع، سيلفت انتباهك الدعائم الهائلة التي يقوم عليها "بيت الصلاة" (أحد الأماكن المخصصة للصلاة)، وهي 72 دعامة، المسافة بينها 3.4 متر، مبنية بالحجارة والآجر، تغطيها طبقة من الجبس والجير، وتعلوها العقود الحدوية أو المفصصة.

الجامع الكبير في العاصمة الجزائر
(1/9)
الجامع الكبير في العاصمة الجزائر
(2/9)
الجامع الكبير في العاصمة الجزائر
(3/9)
الجامع الكبير في العاصمة الجزائر
(4/9)
الجامع الكبير في العاصمة الجزائر
(5/9)
الجامع الكبير في العاصمة الجزائر
(6/9)
الجامع الكبير في العاصمة الجزائر
(7/9)
الجامع الكبير في العاصمة الجزائر – عربي بوست
الجامع الكبير في العاصمة الجزائر
(8/9)
الجامع الكبير في العاصمة الجزائر
(9/9)

أقدم المنابر الإسلامية 

لا تتوقف كنوز هذا الجامع عند هذا الحد، فهو يحتضن أحد أقدم المنابر الإسلامية، ومصنوع من الأرز الصلب بعرض 60 سم، وعمق 2,60 متر، ويتألف من 7 درجات.

أما المئذنة، فهي مربعة الشكل، وترتفع لـ15 متراً، وتنتهي بقبة صغيرة تعلوها 3 تفافيح من النحاس. 

بحسب الكتابة المنقوشة على لوحة من الرخام مثبتة على يمين الباب المفضي إلى المئذنة، فهي ترجع إلى فترة الحكم الزياني.

رغم أن الجامع الأعظم من العهد المرابطي (دولة إسلامية ظهرت خلال القرن الخامس والسادس الهجري في منطقة المغرب الإسلامي)، إلا أنه واصل ريادته خلال العهد العثماني، فكان أعظم مسجد في العاصمة خلال القرن الـ17 الميلادي، وامتاز بجماله ودقة بنائه، خاصة بالنسبة لقاعة الصلاة، إلى جانب الترتيب البديع للأقواس المصقولة والحادة، ما دفع العثمانيين إلى تدعيمه بنافورة رخامية في ساحة الوضوء.

ميّزه أيضاً خلال تلك الفترة ساعة شمسية من الرخام الأبيض على سطحه، استعين بها في ضبط أوقات الصلاة الشرعية، مدعوم بنبراس فخم بسطح المئذنة يستعمل في الإعلان عن دخول وقت الصلاة لا سيما في الليالي الرمضانية.

كما مثّل الجامع الكبير الذي كان يحوز أوقافاً ضخمة، خلال الفترة ذاتها، مقراً للمفتي المالكي وللمجلس الشرعي للفصل في القضايا الفقهية الشائكة، فمرّت عليه أبرز القامات الفقهية كعائلة قدورة، وابن جعدون وابن الشاهد وغيرهم من الأعلام.

كانت الأيام الأكثر ازدهاراً بالنسبة للجامع الكبير، بعدما تحول لصرح علمي وحضاري عقب تدعيمه بمدرسة وزاوية، ليصبح مقصداً لطلاب العلم وللمدرسين من مختلف الأصقاع والبقاع من داخل الجزائر وخارجها.

ساهم الجامع الكبير في تخريج جيل من العلماء المسلمين، أشهرهم محمد وأحمد ابنا سعيد قدورة، وأبو مهجي عيسى الثعالبي، ويحيى الشاوي، وأبو حفص عمر المانجلاتي.

رمزية تاريخية مستمرة

تواصل "عربي بوست" مع الأكاديمي المتقاعد المتخصص بالعمارة الإسلامية في معهد الآثار، محمد الطيب عقاب، الذي أشار في حديثه إلى نقاط مهمة تبين رمزية الجامع الأثري في نظر الجزائريين، لا سيما بما يتعلق بالرد على "ادعاءات متعلقة بحداثة تأسيس مدينة الجزائر". 

أوضح الأستاذ عقاب، أن الجامع يعد دليلاً ظاهراً على قدم مدينة الجزائر، إلى ما قبل الحقبة العثمانية. 

أضاف أن هناك "رمزية أخرى يجب التطرق إليها، وهي وجود مقومات الحضارة الإسلامية التي ظهرت، سواء في الجامع الكبير بالقرب من القصبة السفلى، أم في جامع آخر مماثل له يدعى جامع سيدي رمضان الموجود في القصبة العليا".

شدد المتحدث على أن الجامع يمثل الدولة الجزائرية عبر كل الأزمنة، وليس فقط في عهد المرابطين، الذين انطلقوا من جنوب موريتانيا ووصلوا حتى محافظة شرشال التاريخية (70 كيلومتراً غرب العاصمة الجزائرية). 

عن موقع الجامع، لفت الأكاديمي المتخصّص في الآثار الإسلامية، إلى أنه يقع في منطقة حيوية بالنسبة للبلاد، وهي ما كانت تسمى عند السكان (الوطى) التي تعني الأرض المستوية. 

بسبب مساحة الجامع الواسعة، يحدَّد عدد السكان لمدينة الجزائر في فترة بنائه بنحو 3 إلى 4 آلاف شخص، بحسب ما ذكره عقاب. 

محاولة هدم "الجامع الأعظم"

يقول الجزائريون إن الاستعمار الفرنسي سعى منذ دخوله الجزائر عام 1830، إلى طمس كل مقومات الشعب الجزائري، ولم يكن الجامع الكبير استثناءً، ليحاول هدمه بسبب الرمزية الكبيرة التي يحظى بها وسط الأهالي. 

يشير الأكاديمي عقاب، إلى أن فرنسا الاستعمارية جاءت بفتوى من "الأراضي المقدسة" -وهو الوصف الذي قصد به (مكة المكرمة)- من أجل هدم الجامع، وجعلتها ترخيصاً يجيز التخلص من هذا الصرح الديني الأثري، لكن الشيخ بن سمعية الذي كان يحظى بمكانة وشعبية بين الجزائريين، وقف ضد ذلك، وقاد الجهود لمنع هذه الخطوة. 

الجامع الكبير في العاصمة الجزائر
(1/11)
الجامع الكبير في العاصمة الجزائر
(2/11)
الجامع الكبير في العاصمة الجزائر
(3/11)
الجامع الكبير في العاصمة الجزائر
(4/11)
الجامع الكبير في العاصمة الجزائر
(5/11)
الجامع الكبير في العاصمة الجزائر
(6/11)
الجامع الكبير في العاصمة الجزائر
(7/11)
الجامع الكبير في العاصمة الجزائر يحظى بشعبية كبيرة – عربي بوست
الجامع الكبير
(8/11)
الجامع الكبير في العاصمة الجزائر
(9/11)
الجامع الكبير في العاصمة الجزائر
(10/11)
الجامع الكبير في العاصمة الجزائر
(11/11)

قصبة السفلى ودلالات تراثية أندلسية

من أجل التوسع أكثر في موضوع الجامع الكبير المرابطي الأثري في المجال التراثي، تحدث "عربي بوست" مع الأستاذة في جامعة الجزائر فايزة رياش، التي أكدت أن الجامع يحمل دلالات تراثية عدة، لها علاقة مباشرة بهوية الجزائر الإسلامية ذات البعد المغاربي-الأندلسي. 

أشارت رياش، إلى أن للجامع أهمية أثرية كبيرة بالنسبة للجزائريين، لكونه كان يلقب أيضاً بـ"مسجد قرطبة" بسبب الشبه بينه وبين مسجد قرطبة في الأندلس، وهذا من حيث التصميم.

تابعت في هذا السياق بأن "الجامع الكبير، وصفه البكري في كتابه (المسالك والممالك) أنه من أهم المساجد التي كانت موجودة في الجزائر". 

عن اسم "الجامع الأكبر"، قالت الباحثة في التراث: "نجد هذا الاسم في كثير من الكتب والمؤلفات بحسب المؤرخين، مضيفة: "يقال إن الجامع أعيد بناؤه من قبل الحاكم حسن بوحنك سنة 1156 ميلادية". 

في خضم الحديث عن المقومات التراثية التي يمتاز بها "الجامع الكبير"، لفتت رياش إلى منارة الجامع التي بناها السلطان زياني أبو تاشفين في القرن الـ14 الميلادي، وكان طولها حوالي 25 متراً. 

تابعت في هذا السياق قائلة: "توجد تفاصيل أخرى مثل القبة والمحراب الذي يقال إن تاريخ بنائها يعود إلى 1732 ميلادية، دون نسيان أن الجامع يحوي 6 قباب والصومعة، ومن ملحقات المسجد المهمة جداً نجد الحديقة التي تقع في الجهة الجنوبية للمسجد". 

قيمة "الجامع الكبير" لدى الجزائريين 

لأن للجامع قيمة خاصة لدى المسلمين منذ بزوغ فجر الإسلام في جزيرة العرب، فإن للجامع الكبير مكانة خاصة عند الجزائريين عامة، وسكان مدينة الجزائر خاصة، وهو ما يظهره المسؤولون والعامة في الوقت الحالي. 

في هذا الصدد، تبرز الباحثة رياش، أن الجامع كان مقراً للمفتي المالكي قبل الوجود العثماني في الجزائر، مضيفة: "الجوامع والمساجد قبل الحقبة العثمانية كانت ذات بعد مالكي، إلى أن تحول مذهب البعض منها إلى المذهب الحنفي، وهكذا كان حال مسجد صفر ومسجد السيدة، وبعض مساجد القصبة مثل خيضر باشا، وغيرها من المساجد". 

خلال الفترة العثمانية، أضحى الجامع الكبير مقراً للمفتييْن المالكي والحنفي، في حين كان يحضر الاثنان مع القاضي المالكي والحنفي وكبار العلماء والباشا في مجلس خاص، يسمى بالمجلس الشريف، كان موعده كل يوم خميس، بحسب رياش. 

تشير الباحثة في التراث، إلى أن ما يظهر قيمة الجامع هو نظر المجلس في كل القضايا الفقهية الشائكة بين السكان التي تحتاج إلى فتاوى من العلماء، كما كانت تحل فيه كل القضايا والمنازعات، وكان أيضاً يشرف على توزيع المواريث على مستحقيها.

تحميل المزيد