انتشرت حوادث تسمّم جماعية لطالبات مدارس في المراحل الدراسية المختلفة بشكل متزامن في محافظات إيرانية، على نحو مثير للريبة، بحسب السلطات في البلاد، التي توصلت إلى حقيقة مَن يقف خلفها، بحسب ما كشفته مصادر خاصة لـ"عربي بوست"، أكدت وجود حالة من التعتيم على هويتهم، رابطة أيضاً بين حالات التسمم ومشاركتهن في الاحتجاجات.
خلال الأيام الأخيرة الماضية، انتشرت تقارير في وسائل الإعلام المحلية الإيرانية تفيد بأن عدداً كبيراً من طالبات المدارس الابتدائية، والإعدادية، والثانوية، تعرضن للتسمم، في محافظات إيرانية عدة، وتم نقلهن إلى المستشفيات، وهن يعانين من أعراض الغثيان، وضيق التنفس، وعدم القدرة على الحركة.
وسط مطالبات أهالي الطالبات بمعرفة الجاني، ودوافعه وراء تسميم بناتهم، جاءت تصريحات المسؤولين متضاربة، لتزيد من غضبهم، فيما حاول فريق "عربي بوست" التواصل مع العديد من المصادر داخل إيران لمعرفة ملابسات القصة، ومن الذي يقف خلف تسمم الطالبات في المدارس الإيرانية، خاصة بعد انتشار الكثير من التكهنات.
"شبان متطرفون"، بهذه العبارة كشفت المصادر الأمنية الخاصة لـ"عربي بوست"، الأربعاء 8 مارس/آذار 2023، عمن يقف وراء حوادث التسمم، لتنفي بذلك فرضيات أمنية أخرى كانت متصدرة منذ بداية الحوادث، بأن جهات خارجية معادية لإيران وراء تسميم الطالبات.
يأتي ذلك في حين تصدرت الطالبات الاحتجاجات الأخيرة التي شهدتها البلاد منذ وفاة الشابة مهسا أميني بعد توقيفها لدى "شرطة الأخلاق" بدعوى لباسها غير المحتشم، ما أدى إلى خروج احتجاجات غاضبة مستمرة حتى الآن ببعض المحافظات منذ 16 سبتمبر/أيلول 2022.
على إثر المشاركة الواسعة للطالبات، انتشرت تقارير تفيد باعتقال عدد كبير منهن، وإجبارهن على دورات تأهيلية، بسبب مشاركتهن في الاحتجاجات، الأمر الذي أكده لاحقاً وزير التعليم الإيراني يوسف نوري بشكل علني.
انتشار حالات التسمم
بداية ظهور حالات التسمم بين طالبات المدارس كانت من مدينة قُم الإيرانية المقدسة، عندما كتب الصحفي الإيراني مهدي حسيني، المقيم فيها، عن تسمم ما يقرب من 18 طالبة في مدرسة ثانوية في المدينة.
تواصل "عربي بوست" مع الصحفي حسيني، الذي قال إن أكثر حالات التسمم في البلاد كانت بين طالبات مدارس المدينة.
روى كذلك أن "الأمر كان مقتصراً في البداية على مدرسة واحدة، ما أعطى انطباعاً بأن الأمر غير متعمد، لكن بعد أسبوعين، تعرضت حوالي 60 طالبة للتسمم من مدارس أخرى، وتم نقلهن إلى المستشفى بأعراض شبيهة للحادثة الأولى، وهي: الغثيان وضيق التنفس وعدم القدرة على الحركة".
انتشرت بعد ذلك حالات التسمم بين الطالبات لتسجلها السلطات في مدن أخرى مثل: طهران، بروجرد، أردبيل، مشهد، أصفهان، وغيرها.
أضاف حسيني أن المسؤولين الإيرانيين أصروا في بداية الأمر على أن حوادث التسمم غير متعمدة، لكن بعد اتساع رقعة المدارس التي تعرضت للتسمم، بدأ الحديث عن أن هناك من يقف وراء هذه الحوادث بشكل متعمد.
لكن، من هو الجاني؟
حول هوية من يقف وراء هذه الحوادث، قال مصدر أمني رفيع المستوى في شرطة مدينة طهران، لـ"عربي بوست"، دون الرغبة في الكشف عن هويته: "لم نستطِع في البداية تحديد من المسؤول عن هذه الحوادث، في حين جرى اعتقاد من مسؤولين بأن الأمر مدبَّر من المنظمات المعادية للجمهورية الإسلامية المقيمة في الخارج. لكن منذ أيام قليلة، تم التوصل إلى الجاني الحقيقي".
استجاب المصدر الأمني لطلب "عربي بوست" بالكشف عن نتائج التحقيقات، ليقول إنه "بعد البحث والتحقيق، وبعد أوامر مشددة من القيادة العليا بضرورة معرفة الجاني بأسرع وقت، وبعد تفريغ الكاميرات، وجدنا أن من قاموا بهذا الفعل هم مجموعة من الشباب الإيرانيين المتطرفين".
وأوضح أن المسؤولين عن حوادث التسمم "هم جماعة من الشباب المتشددين، جميعهم لا تزيد أعمارهم عن 30 عاماً، تم إلقاء القبض على 10 منهم حتى الآن، ويتم البحث عن مزيد من المتورطين".
ولم تذكر المصادر مزيداً من التفاصيل المتعلقة بهوية الشبان المتشددين الذين ذكرتهم.
حالات التسمم وعلاقتها بالاحتجاجات
مسؤول بارز في الحكومة الإيرانية على صلة بوزارة المخابرات الإيرانية، قال في تصريحات لـ"عربي بوست"، دون الرغبة في الإشارة إلى هويته: "نحن على علم بوجود مثل هذه المجموعات من الشباب، لكن لم يصدر منهم أي شيء في الماضي، لكن بعد التحقيقات والتحريات، والتوصل إلى العديد منهم، فقد بات جلياً أنه كان لديهم بعض الدوافع".
على إثر حوادث التسمم، انتشرت التكهنات التي تقول إن ما حدث لطالبات المدارس في إيران كان نتيجة لمشاركتهن في الاحتجاجات الأخيرة المناهضة للمؤسسة السياسية في البلاد، خاصة بعد أن لعبن دوراً كبيراً فيها.
انتشرت منذ بداية الاحتجاجات في سبتمبر/أيلول 2022، العديد من المقاطع المصورة تظهر فيها الطالبات داخل المدارس بدون حجاب، أو يرددن شعارات ضد المرشد الإيراني، علي خامنئي.
رداً على هذه التكهنات، قال مصدر مقرب من المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، لـ"عربي بوست": "هناك بعض الفئات داخل المجتمع الإيراني لا توافق على ما يحدث حالياً في الشوارع، لا سيما من انتشار النساء في الأماكن العامة بدون حجاب، والبعض من هؤلاء شباب متدين غاضب مما حدث في الآونة الأخيرة، ومن التجرؤ على المرشد الأعلى".
حول افتراض علاقة مباشرة بين الاحتجاجات، قال المصدر: "لا أستطيع قول هذا بشكل مطلق، لكن كما يوجد أناس مناهضون للحجاب الإلزامي في البلاد، ونزلوا إلى الشوارع، واشتبكوا مع القوات الأمنية وأحرقوا المباني والممتلكات العامة من أجل مطالبهم، هناك آخرون يرون عكس ذلك، لكنهم تصرفوا بتطرف غير مقبول لدى القيادة العليا للبلاد".
لكنَّ صحفياً إيرانياً يعمل في إحدى الصحف الإصلاحية في العاصمة الإيرانية طهران، قال لـ"عربي بوست"، دون الرغبة في ذكر اسمه لمخاوف أمنية: "هؤلاء المتطرفون مدفوعون برغبة في تأديب الطالبات المشاركات في الاحتجاجات الاخيرة، خاصة بعد صدمتهم من خلع الحجاب في مدينة دينية مثل مدينة قُم. وبالتأكيد هناك من يقف خلفهم ويدعمهم فيما فعلوا".
لكن لم توافق أي من المصادر الأمنية والحكومية التى تحدثت لـ"عربي بوست" على اعتقاد البعض، مثل الصحفي الإيراني، بأن هناك شخصيات هامة أو جهات سياسية تقف خلف ما سمّوها جماعة من الشباب المتطرف الذين يقفون وراء حوادث تسمم الطالبات في إيران.
في هذا الصدد، قال مصدر مقرب من دوائر صنع القرار في طهران لـ"عربي بوست": "لا أعتقد أن هناك من يقف وراء المتسببين في هذه الحوادث من المسؤولين أو الجهات السياسية، لأن هذا غباء لا يليق بهم، وهم يعلمون جيداً أن مثل هذه الحوادث ستزيد من غضب الجماهير، وهذا الأمر لا يريده أحد في إيران الآن".
وأضاف: "التطرف موجود في كل البلدان.. مجموعة من الشباب الغاضب أخطأوا وسوف تتم معاقبتهم بالتأكيد، إذا ثبتت التهمة عليهم".
تعتيم على هوية الجناة
حديث المصادر لـ"عربي بوست" عن تحديد هوية الجناة وراء حوادث تسمم الطالبات في المدارس الايرانية، لم يتم نشره في وسائل الإعلام المحلية الإيرانية؛ "لأن الأمر سيزيد من سخط الشعب الإيراني"، بحسب المسؤول الأمني في شرطة طهران.
وقال لـ"عربي بوست": "بالطبع، ليس هناك نية لدى المسؤولين لإعلان المتسببين الحقيقيين في هذه الحوادث. بعضهم رأوا أن الأمر سيسبب فتنة بين الإيرانيين، وسيعيد الاحتجاجات إلى الشوارع مرة أخرى".
لكن خلال اليوميين الماضيين، أعلنت وسائل الإعلام الإيرانية أن الشرطة الإيرانية قد ألقت القبض على عدد من الأشخاص ثبت تورطهم في حوادث تسمم الطالبات في المدارس، مؤكدة أنهم على صلة بجهات معارضة في الخارج.
في هذا الصدد، يقول الصحفي الإيراني المقيم في العاصمة طهران، لـ"عربي بوست": "هناك محاولات حثيثة من المسؤولين الإيرانيين، لإلصاق التهمة بجهات معارضة خارجية، وهذا ما تم الإعلان عنه بالفعل من الشرطة، لكن الناس يعلمون أن الأمر عكس ذلك، وأن من يقف وراء تسمم أطفالهم موجود داخل إيران".
إلقاء مواد سامة على المدارس
"الناز" طالبة في مدرسة ثانوية بمدينة بروجرد، التي ظهرت فيها الكثير من حالات التسمم، قالت لـ"عربي بوست": "كنا في ساحة المدرسة، ثم شاهدنا شيئاً مثل القنبلة يُلقى من خارج المدرسة وداخلها، وبعدها انتشرت رائحة مثل رائحة الكلور".
فور استنشاقها الغاز وزميلاتها لرائحة الكلور كما وصفتها، شعرن بضيق في التنفس، ودوخة، وعلى الفور اتصلت مديرة المدرسة بالطوارئ، وتم نقلهن إلى المستشفيات.
في مدينة طهران، قال فرهاد رئيسي، والد إحدى الطالبات اللاتي تعرضن للتسمم، لـ"عربي بوست": "اتصلوا بي في العمل، وقالوا إن ابنتي نُقلت إلى المستشفى، وإنها غير قادرة على الحركة. وظلت هكذا لأيام، والآن تعاني من صعوبة في الأكل والرؤية، وذهبنا بها إلى المستشفى مرة أخرى".
على الرغم من تأكيدات وزارة الصحة الإيرانية مراراً على أن أعراض التسمم التي ظهرت على الطالبات، كانت خفيفة، وأنها نتيجة لسم خفيف، إلا أن طبيباً في مستشفى في مدينة قُم، أخبر "عربي بوست"، بأن ليس كل الطالبات ظهرت عليهن أعراض خفيفة.
قال الطبيب لـ"عربي بوست" مفضلاً عدم الإفصاح عن اسمه لمخاوف أمنية: "فوجئنا بمئات الطالبات في حالة إغماء وغثيان، وعدم القدرة على الحركة، وقالوا إنهن شممن رائحة مثل رائحة البرتقال الفاسد، والكثير منهن، عدن إلى المستشفى مرة أخرى، وبعضهن غير قادرات على الحركة، حتى بعد مرور أيام من العلاج".
أكثر من ألف طالبة تعرضن للتسمم
عن إحصائيات ضحايا حالات التسمم من الطالبات، قال المصدر الأمني في شرطة طهران لـ"عربي بوست"، إن الحصيلة الخاصة بالشرطة تقول إن عدد مَن تعرضن للتسمم من بين طالبات المدارس قد وصل إلى أكثر من ألف طالبة، بعد تعرض نحو 30 مدرسة في مدينة قُم لهجمات الغاز، و9 مدارس في مدينة أردبيل، و8 مدارس في طهران، إلى جانب محافظات أخرى تعرضت بشكل أقل لحالات مشابهة.
من جهته، قال فرهاد رئيسي، والد إحدى الطالبات المتسممات، لـ"عربي بوست": "اجتمعنا مع المسؤولين المحليين، وحاولوا طمأنة الأهالي بأن الشرطة قد ألقت القبض على الجناة، لكننا لا نصدق كلامهم، ونخشى أن تواصل بناتنا الذهاب إلى المدرسة مرة أخرى".
تحدث كذلك عن احتجاج الأهالي بسبب ذلك، قائلاً: "خططنا للاحتجاج أمام مباني المحافظات، التي تعرضت المدارس فيها للتسمم، من أجل الحصول على ضمانات قوية تطمئن الأهالي من عدم تكرار مثل هذه الحوادث".
في حين تقول بعض المصادر الصحفية التي تحدثت لـ"عربي بوست"، إن المسؤولين في المدن التي ظهرت فيها حالات التسمم بين الطالبات، قد عقدوا اجتماعات مع أولياء الأمور، لكنهم لم يبلغوا الأهالي بحقيقة الأمر، أو بنتائج التحقيقات التي توصلت إليها وزارة الصحة والشرطة الإيرانية، ما أثار سخطاً واسعاً بين أهالي الطالبات".
يُشار إلى أن إيران تشهد سلسلة حالات تسمم في مدارس الفتيات منذ نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2022، ويعتقد أنها ناجمة عن غاز النيتروجين، وكان آخرها تسجيل حالات قبل ثلاثة أيام الأحد 5 مارس/آذار 2023 في 6 محافظات، وفق وكالة أنباء فارس الإيرانية.
بموجب إرشادات موقع “عربي بوست”، نستخدم المصادر المجهولة فقط للمعلومات التي نعتقد أنها تستحق النشر والتي تأكدنا من مصداقيتها، لكننا غير قادرين على الحصول عليها بأية طريقة أخرى.
نحن ندرك أن العديد من القراء يشككون في مصداقية ودوافع المصادر التي لم يتم الكشف عن أسمائها، لكن لدينا قواعد وإجراءات لمعالجة هذه المخاوف، منها أنه يجب أن يعرف محرر واحد على الأقل هوية المصدر، ويجب أخذ موافقة مسؤول القسم قبل استخدام المصادر المجهولة في أية قصة.
نحن نتفهم حذر القراء، لكن يجب تفهم أن المصادر غالباً تخشى على وظائفها أو علاقاتها التجارية، وسلامتها.”