فجأة خيم صمت مطبق على المكان بعدما كانت أصوات الناس والآلات تصدح في المنطقة. لم نفهم للوهلة الأولى كيف حدث ذلك. تلفتنا حولنا باستغراب ودهشة، لنسمع كلمة "سكوت" بصوت عالٍ لمرة واحدة، ثم استمر الصمت المطبق على أحد مناطق مركز مدينة كهرمان مرعش.
تهلل وجه امرأة خمسينية بجوارنا، وأشار لنا أحد المسعفين بإشارة التزام الصمت التام. بعد بضع دقائق سمعنا كلمة "استمرار" بصوت عالٍ، ليتجهم وجه المرأة ويعود هدير الجرافات التي تقوم بإزالة أنقاض عدة مبانٍ مهدمة. شرح لنا المسعف ما حدث بالقول: "يطلب عمال الإنقاذ السكوت التام لشكهم في إمكانية وجود أحياء تحت الأنقاض واستخدامهم أجهزة تحاول التقاط أية أصوات قادمة من تحت الأنقاض".
كان ذلك أحد المشاهد التي واجهت فريق "عربي بوست" في مدينة كهرمان مرعش التركية، التي ضربها زلزال قوي يوم الإثنين 6 فبراير/شباط 2023، في واحدة من أقوى الكوارث الطبيعية التي ضربت تركيا في العصر الحديث. فكيف كان شكل المدينة يوم 12 فبراير/شباط، اليوم السابع من وقوع الزلزال؟
دمار خارج المدينة
انطلق فريق "عربي بوست" من مدينة إسطنبول التي تبعد قرابة أكثر من 1000 كيلومتر عن مدينة كهرمان مرعش. الثلوج تغطي الطريق من كل جانب ودرجات الحرارة تحت الصفر. قبل حوالي 70 كيلومتراً من مدينة كهرمان مرعش، توقفنا في إحدى محطات الوقود، لنلاحظ وجود مبانٍ مهدمة وأخرى متصدعة حولنا. كانت تلك أولى مظاهر الدمار التي بدأنا نراها.
عندما اقتربنا من المدينة، لاحظنا وجود بعض الأفراد على الطريق السريع المؤدي للمدينة الذين يقومون بتنظيم الطريق عند التقاطعات وإعطاء الأولوية لسيارات الإسعاف والإغاثة. من هنا، لم تفارقنا أصوات سيارات الإسعاف حتى بعد أن دخلنا المدينة.
داخل المدينة.. الصدمة
بعد دقائق، بدأت تظهر معالم المدينة. للوهلة الأولى شعرنا كما لو أنها مدينة تركية عادية بلا مشاكل. فالمباني قائمة على مد البصر بشكل طبيعي. لكن كل شيء تغير بعدما دخلنا المدينة. حركة لا تتوقف، الجرافات وأوناش إزالة الأنقاض لا تهدأ، رجال الجيش في كل مكان ينظمون حركة المرور ويمنعون الوصول لبعض مناطق عمل رجال الإنقاذ الذين يتحركون بنشاط في كل المواقع.
لكن المشهد الصادم كان حجم الدمار؛ مربعات سكنية بالكامل مهدمة أو لم يتبق منها سوى مبنى أو اثنين. والمباني التي لم تقع تشعر كما لو أنها على وشك السقوط بسبب التصدعات وسقوط بعض واجهاتها. كل هذا وسط غبار يملأ الأجواء بسبب عمليات رفع الأنقاض التي لا تهدأ.
أحد المواقع كان يضم أكثر من 8 بنايات مهدمة، هناك كان يعمل رجال الإنقاذ بنشاط وحركة كبيرين، على أمل الوصول إلى أناس لا يزالون على قيد الحياة. قابلنا فريقاً من المسعفين المتطوعين القادمين من ألمانيا، أحدهم كان طبيباً ألمانياً سوري الأصل، بالإضافة إلى طبيبة ألمانية تركية الأصل.
الطبيب السوري يدعى عمار غوزي من مواليد مدينة حلب، قال لنا إنه لم يأتِ إلى تركيا من خلال جهات حكومية أو منظمات إغاثية، بل تجمع هو وبعض الأطباء الألمان من أصول تركية وعربية وقرروا السفر إلى تركيا لتقديم العون.
شرح لنا عمار صدمته مع أصدقائه من هول ما رأوه هنا من دمار. ذكر لنا واحدة من أصعب اللحظات التي مرت عليه، عندما نزل تحت الأنقاض ليفحص أحد الأشخاص الذين عثر عمال الإنقاذ عليهم. زوجة الرجل كانت تنتظر أمام المنزل المهدم على أحر من الجمر، لكن عمار وجد الرجل وقد فارقته الحياة، ليقوم بتصويره وعرض الصورة على زوجته للتأكد من هوية الشخص، لتنفجر المرأة بالبكاء بشكل لا ينساه عمار حتى الآن.
بينما كان يحكي لنا عمار ما يحدث، فجأة سكت، وساد الصمت في أرجاء المكان. تلفتنا حولنا في محاولة لفهم ما يحدث، فوجدنا سيدة تركية في الخمسينيات من عمرها وقد ملأت السعادة تجاعيد وجهها. لم نستوعب ما يحدث، فتوجهنا بنظرنا إلى عمار وعلى لساننا سؤال كاد يخرج لولا أن قطعته إشارة عمار لنا، والتي طلبت منا الصمت.
لاحظنا أن أنظار الجميع توجهت إلى نقطة بعينها وحالة ترقب تملأ الوجوه. استمر الوضع لأربع دقائق تقريباً، ليرتفع صوت أحد عمال الإنقاذ قائلاً: "استمرار"، ليملأ الحزن وجه السيدة. شرح لنا عمار ما حدث قائلاً إنه إجراء معتاد يحدث عندما يشك عمال الإنقاذ في وجود أحد الناجين.
في ذلك الوقت، يستخدم عمال الإنقاذ أجهزة حساسة للصوت في محاولة لسماع أصوات أي حركة تحت الأنقاض. لكن للأسف، كانت النتيجة سلبية هذه المرة.
"هذا هو صندوق أمي"
تحركنا في شارع جانبي لنرصد بعض الأبنية المدمرة لكنها لم تسقط. هناك، وجدنا حركة غير مألوفة. شاب في الثلاثينيات من عمره ينزل من أحد البنايات السكنية المتصدعة حاملاً بعض الأثاث. اقتربنا منه، فبادرنا بالسؤال: "هل أنتم صحفيون؟". أجبنا بنعم. سألنا عن اسم الشبكة الإعلامية التي نعمل بها، فعلم أننا صحفيون عرب ولسنا أتراكاً. لاحظنا أنه تنفس الصعداء.
سألنا نحن هذه المرة: "ماذا تفعل؟"، فأجاب أنه كان يسكن في شقة بهذه البناية، وأنه يقوم الآن بإنزال بعض الأثاث. أشار إلى صندوق كبير وسط مجموعة من الأثاث، قائلاً: "هذا صندوق أمي"، لتظهر على وجهه ملامح التأثر والحزن.
شرح لنا الرجل أنه ضابط شرطة في المدينة، وأنه استغل وقت راحته ليحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أثاث عائلته؛ لأنه يعلم أن البناية ستهدم كونها لم تعد صالحة للسكن. كان الرجل يخشى أن نكون رجال أمن أو صحفيين أتراكاً لأنه ممنوع على أي أحد دخول البنايات المتصدعة.
رأينا دراجة صغيرة تخص طفله، وأريكتين وبعض السجاد، ومرتبة. سألناه: "هل تستحق هذه الأشياء مغامرتك بدخول مبنى متصدع؟"، فأجاب "هذا كل ما تبقى لي وأسرتي". أسرته حالياً توجد بمكان آمن في إحدى المخيمات. طلبنا من الرجل أن ينتبه إلى نفسه، فابتسم ابتسامة باهتة وأعطانا لوح شوكولاتة صغيراً. قلنا له إنك أنت من تحتاج إليه، لكنه أصر على أن نأخذه لأننا جميعنا نقوم بعملنا وسط الكارثة.
الكل يساعد والأموال النقدية بلا معنى
عدنا إلى منطقة الأبنية المدمرة، فوجدنا هناك امرأة ورجلاً يقفان أمام سيارتهما على جانب الطريق، وقد وضعا مجموعة من زجاجات المياه والحلوى والبسكويت. كل ما يفعلانه كان توزيع هذه المياه والأطعمة البسيطة على كل شخص يمر، مسعفين أو عمال إنقاذ، أو حتى أشخاص عاديين.
في كهرمان مرعش، الكل يساعد. يمكنك أن ترى هؤلاء الأشخاص الذين يقومون بإعداد الشوربة في قدر ضخم وتقديمه لكل شخص. ستشاهد ذلك الرجل الذي يحمل علبة مليئة بالكمامات ويوزعها على الناس، فحجم الغبار في المكان يفوق الوصف ويؤذي الجهاز التنفسي بالفعل. ستجد من يقترب منك عندما يلاحظ أن في يدك كاميرا تصوير ليعرض عليك مساعدتك في أي شيء تريده.
الكل يقدم والكل يساعد. المرة الوحيدة التي طلب منا شخص شيئاً ما، كان في المساء بالقرب من مركز متنقل لتقديم الطعام تابع لإحدى هيئات الإغاثة التركية التي أغلقت الباب لفترة استراحة، عندما اقترب منا رجل كبير في السن طلباً للمساعدة.
أخرج أحدنا مبلغاً مالياً ليعطيه للرجل لنفاجأ بأنه يرفضه. أصابتنا الدهشة والخجل ظناً منا أن الأمر فيه إساءة ما لم نلتفت إليها. لكن الرجل فاجأنا بالقول: "ماذا أفعل بالمال هنا؟". الرجل رفض أخذ المال لأنه ببساطة بلا قيمة هنا. فوجبة طعام بسيطة تمثل للرجل كل كنوز الأرض في تلك اللحظة.
عندما بدأنا نتحرك في المساء، كانت المدينة بلا إضاءة تقريباً سوى أضواء الجرافات والأضواء التي يحملها عمال الإنقاذ. المنظر كان مهيباً ولا يوصف، ليتردد في أذهاننا ذلك السؤال طوال طريق العودة: "كيف يمكن لهذه المدينة أن تعود للحياة من جديد؟".