وأنت تستمتع بمقاطع أغنية "الزينة" بمعنى "الجميلة" التي اكتسحت بها فرقة "راينا راي" عالم فن الراي منذ سنة 1983، تستدعي ذاكرتك مدينة سيدي بلعباس، التي قدمت عبر حقبها التاريخية صوراً بديعة من التراث المحلي الذي عانق العالمية عدة مرات.
وتحتضن محافظة سيدي بلعباس، المتربعة على مساحة 9150 كيلومتر مربع، جملة من العادات والتقاليد الجزائرية تحييها بصفة دورية في أفراحها ومناسباتها.
"عربي بوست"، بغية الوقوف على تلك المدينة الشامخة، يرافقكم في هذا التقرير إلى محافظة قلب القطاع الوهراني.
"الفن والراي" خارجان من بلعباس
التراث البلعباسي ما فتئ يعانق العالمية، على رأس ذلك نجد فن الراي الذي تعود أصوله إلى الأغنية البدوية، حيث كانت تحمل قصائد تمثل الذاكرة الشعبية، لتُلقى بطريقة الشعر الملحون من طرف "الشيخ" وجمعه "الشيوخ".
أولئك الأعلام الذين تعد محافظة سيدي بلعباس وما جاورها منشأهم، فنجد الشيخ مصطفى بن براهم المولود حوالي سنة 1800، ليصبح لاحقاً شاعر القطاع الوهراني الذي يضم معظم محافظات غرب الجزائر اليوم.
ويتواصل ترديد أغانيه لليوم بعدما حفظها الأولون والمحدثون، ونجد من بينهم الشيخ الخالدي وأحمد وهبي وبلاوي الهواري.
بالمقابل جاءت مرحلة أوج الراي مع بزوغ أسماء نسوية بطابع "القصبة"، وهي آلة نفخية، فبرزت عرابة الراي الشيخة الريميتي وكذا الشيخة الجنية، واكتسحتا الساحة بمواضيع وصفت بالجريئة، وتوسعت شهرتهما إلى بلاد المهجر، بالخصوص فرنسا، لتضاف إلى إسهامات المدّاحات اللواتي أحيين المناسبات آنذاك.
فلعب الراي البلعباسي آنذاك الراوي والمؤنس، وفي ذلك تخلّده فرقة "راينا راي" بعبارة "الفن والراي خارجان من بلعباس"، ضمن رائعة "الزينة".
محافظة احتضنت الأمير عبد القادر
تلقب مدينة سيدي بلعباس بقلب القطاع الوهراني، وتنسب للولي الصالح سيدي بلعباس، حيث يتباهى به بنو حميد المنحدرون من قبائل بني عامر الذين قطنوا المنطقة بداية من القرن الرابع عشر.
وعلى غرار معظم المحافظات الجزائرية مرت على سيدي بلعباس عدة حقب، وتشهد على ذلك الآثار والنقوش وحتى التسميات المتعددة للمدينة، إذ تعرف بـ"معسكر سيدي علي بن يوب"، و"حصن تنيرة"، إضافة إلى الآثار الرومانية بمكرة.
كما احتضنت عدة معسكرات مثل قلعة دار الكمندار التي تدل زخرفتها على الطراز العثماني، والأمر نفسه بالنسبة لمربط الفرسان، وهو الذي استعمله الاحتلال الفرنسي لاحقاً كمستشفى.
وبايع أهل المنطقة من تجمع القبائل الأمير عبد القادر، وشاركوا في ثورته ضد الاحتلال الفرنسي الذي كرس في حقهم المصادرة والطرد مقابل الاستيطان الأوروبي.
رقصة العلاوي.. رمز الفرح والانتصار
ولأن محافظة سيدي بلعباس تحمل من التراث الفني الكثير، فإن رقصة العلاوي جزء من هذا التراث الذي تمتاز به هذه المحافظة، فهي تعد رقصة ونمطاً موسيقياً شعبياً تؤدى في الأعراس والمناسبات.
وتتميز بأنغام الغايطة وقرع البندير والدربوكة والقلال، تؤدى في شكل صفوف حيث يهز الرجال أكتافهم خلال الحركات، ومن حين لآخر يتوقفون عن الحركة ويركزون على دك الأرض بأرجلهم، والتمسك بالوسيلة التي تكون في أيديهم -غالباً عصا- في حركة رمزية عن الصلابة.
وكثيراً ما يكون هذا النمط الفني حاضراً في الأفراح، وكذا في الوعدات المنظمة سنوياً في عدة محافظات عبر الغرب الجزائري، منها محافظة سيدي بلعباس.
وكان يمارس هذا الفن بحسب بعض المراجع عقب الانتهاء من المعارك والحروب، حيث يمسك الفرسان بنادقهم وسيوفهم لأداء هذه الرقصة تخفيفاً من عنائهم وللتعبير عن الانتصار.
الوعدة استذكار للدين وفرجة للدنيا
ويُحيي سكان محافظة سيدي بلعباس احتفالات شعبية تعرف باسم الوعدة أو الموسم أو الزردة، وتكون في مواعيد سنوية ثابتة، وتعد جسراً واصلاً بين الأجيال، منها نجد وعدة سيدي يحيى بسفيزف ووعدة تنيرة وغيرها.
وتتميز الوعدات بنصب الخيام وإطعام المساكين وتنظيم عدة تظاهرات تقليدية وتلاوة القرآن الكريم واستعراض الفروسية في استعراضات الفنتازيا الشعبية، والمبارزة بالعصا. كما تكون فرصة للحرف التقليدية على غرار الزرابي ومصنوعات الحلفة والدوم والفخار والفضة وغيرها.
"ديسكو مغرب".. المجد والشهرة
وغير بعيد عن محافظة سيدي بلعباس (436 كيلومتراً غرب الجزائر العاصمة)، تواصل "عربي بوست" مع مالك شركة إنتاج أشرطة "ديسكو مغرب"، بوعلام بن هوا، بغرض التوسع في الموضوع أكثر، لاسيما أن شركة الإنتاج الخاصة تعاملت مع العديد من مغني الراي من محافظات الغرب بالجزائر.
بوعلام بن هوا، والمعروف بلقب "بوعلام ديسكو مغرب"، يذكر أن أغنية الراي بصفة عامة كان لها صيت في محافظة وهران (423 كيلومتراً غرب العاصمة الجزائر) أكثر من محافظات الغرب بسبب كثرة المنتجين فيها منذ الثلاثينيات من القرن الماضي، ما جعلها قبلة لمغني هذا النوع من الغناء وغيره حتى من خارج الجزائر.
وبخصوص علاقة الراي بولاية سيدي بلعباس، يشير محدثنا إلى أنها تمثل انطلاقة هذا النوع من الغناء تحت مسمى المشايخ الذين كانوا موجودين في جل ولايات الغرب الجزائري.
وأضاف قائلاً: "الراي تطور بعد ذلك وأضحى يحمل طابعاً غنائياً خاصاً به، لكن اللهجة التي يتم اعتمادها في جل الأغاني هي لهجة سكان محافظة وهران".
وتابع في هذا السياق: "اللهجة الوهرانية (طريقة تحدث سكان محافظة وهران) تساعد شعراء هذا الطابع الغنائي في كتابة كلمات الأغنية لتتماشى مع متطلبات المجتمع الثقافية، وتكون سهلة الفهم لدى متلقيها".
وفي حديثه عن أهم مغني هذا الطابع الغنائي في الجزائر، يقول "بوعلام ديسكو مغرب": "لا يجب أن نتحدث عن الراي دون التطرق إلى الشيخ عبد المولى العباسي، (سمي بهذا الاسم نسبة إلى محافظة سيدي بلعباس)، الذي كان بارعاً في تأدية الطابع في بداياته قبل أن تطرأ عليه تحسينات موسيقية وتحديث في آلات العزف، لتكون مناسبة مع الكلمات المنتقاة بعناية وأمور أخرى".
ويشير محدثنا إلى أن شركة الإنتاج الخاصة به تعاملت مع العديد من مغني هذا الطابع الغنائي من مختلف محافظات الغرب الجزائري، ومن هؤلاء يتابع بن هوا قائلاً: "الشاب مامي الذي عملت معه إلى نهاية مسيرته والشاب خالد، إضافة إلى الزهرانية، صحراوي، الشاب الغازي، حسين الشاباطي، وفضيلة، ومغنين آخرين من سيدي بلعباس، عين تموشنت، مستغانم ووهران".
وفي ختام دردشته مع صحفي "عربي بوست" دعا بوعلام بن هوا الجهات الوصية إلى ضرورة العمل على ترقية والحفاظ على هذا الطابع الغنائي التاريخي المعترف به من قبل "اليونسكو" على أنه جزائري.
ويوضح محدثنا سبب دعوته أنه يوجد مغنون يعانون في ظل التراجع الكبير لشركات الإنتاج التي تعاني من القرصنة، ما جعل الجميع يفر من هذا الميدان لكون الاستثمار فيه أضحى خاسراً بسبب كثرة المطبات غير المساعدة على تقديم الأفضل، عكس ما كان عليه الأمر في بداية الثمانينيات، حيث كان الجميع من مغنين ومنتجين يسعى من أجل إنجاح العمل المنجز.