لم تهدأ وتيرة الغضب التي انتابت النقابات المهنية في مصر بسبب تطبيق منظومة "الفاتورة الإلكترونية" على أصحاب المهن الحرة، ورغم أن الحكومة المصرية اتخذت قراراً بمد فترة تسجيل الكيانات الفردية بالمنظومة حتى نهاية أبريل/نيسان المقبل بدلاً من منتصف الشهر الجاري، إلا أن المظاهرات والاعتصامات التي تقودها نقابة المحامين وتحظى بدعم وتأييد من نقابات الأطباء والصيادلة والمهندسين مازالت مستمرة وترفع شعار "إلغاء لا تأجيل".
هذا الإجراء يُلزم 135 ألف شركة مسجلة بالمركز الضريبي لكبار الممولين بالانضمام إلى المنظومة، ومع نجاحها في إخضاع الشركات الكبرى اتجهت نحو الكيانات الفردية والمهن الحرة، والتي لا يدخل معظمها في إطار الاقتصاد الرسمي، وتقول إن ذلك يستهدف إلغاء فواتير الضرائب الورقية بشكل كلي.
تسعى الحكومة من خلال هذه الإجراءات إلى السيطرة على حركة الأموال في مصر، حتى تلك المدفوعة خارج إطار الفواتير الرسمية والبنوك، لتتمكن من رصدها.
وثيقة رقمية موحدة لكافة الحرف والشركات تثير زوبعة في مصر
وينص قانون الإجراءات الضريبية في المادة 35 على أنه يجب على الشركات وغيرها من الشخصيات الاعتبارية والطبيعية التي تحددها اللائحة التنفيذية للقانون، ممن يبيعون سلعة أو يقدمون خدمة، تسجيل جميع مشترياتهم ومبيعاتهم من السلع والخدمات على النظام الإلكتروني وفقاً للائحة التنفيذية.
وتعد الفاتورة الإلكترونية، وفقاً للتعريف الذي أعلنته مصلحة الضرائب المصرية، "وثيقة رقمية موحدة تعترف مصلحة الضرائب بها لإثبات عمليات بيع السلع والخدمات، وتشتمل الوثيقة الإلكترونية على توقيع إلكتروني يؤكد هوية الموقع لمنع التزييف وضمان الخصوصية".
يقول مصدر مسؤول بوزارة المالية لـ"عربي بوست" إن الهدف الرئيسي من تطبيق المنظومة القضاء على الاقتصاد غير الرسمي ودمجه بالقطاع الرسمي، و"سهولة تبادل البيانات، وتخفيف عبء الكتابة وجمع البيانات ورقياً، والحفاظ على السجلات وانخفاض التكاليف، بجانب سهولة الفحص، وسهولة الاستعلام عن الفاتورة الإلكترونية".
ويشير مصدر مطلع بنقابة المحامين، التي ينوي أعضاؤها الدخول بإضراب عام عن العمل في حال لم يتم التراجع عن تطبيق الفاتورة الإلكترونية، إلى أن الحكومة في ظل مساعيها لدمج الاقتصاد غير الرسمي فإنها تُفجع أصحاب تلك المهن بخسائر فادحة سيكون لها تأثير سلبي على الاقتصاد القومي بشكل عام.
إذ إن أحد أبرز أسباب الاعتراض على التسجيل الإلكتروني يتمثل في ارتفاع رسوم التسجيل التي تتراوح سنوياً ما بين 10 آلاف إلى 20 ألف جنيه، وقد تكون رسوم التسجيل أضعاف القيمة الضريبة السنوية التي يدفعها محامٍ أو طبيب مبتدئ.
خسائر فادحة لأصحاب المهن الحرة بسبب قيمة التسجيل الإلكتروني
يضيف المصدر أن إجراءات التسجيل معقدة بصورة كبيرة، وستكون بحاجة لشراء جهاز ماكينات الدفع باستخدام الفيزا لتكويد الخدمات والمنتجات التي قدمها كل صاحب حرفة على حدة، والتعاقد على نظام لربطه بمصلحة الضرائب.
ما يحتاج إلى آلاف الجنيهات، في حين أن أصحاب المهن الحرة يتأثرون بتقلبات السوق وتراجع أوضاع الاقتصاد بوجه عام، إلى جانب أن المحامين على وجه التحديد لا يمكن حساب إجمالي ما يقدمونه من خدمات.
ويستكمل "إن إصرار الحكومة على تسجيل كافة المحامين المسجلين في كشوف النقابة في منظومة الفاتورة الإلكترونية، باعتبارهم أصحاب أعمال حرة، أمر غير منطقي". ولا يمكن تنفيذ الأمر على أرض الواقع، وهناك آلاف المحامين مسجلين في كشوف النقابة لكنهم لا يمارسون المهنة، والبعض الآخر ليس لديه الحق في أن يرفع دعاوى قضائية باسمه ويعملون كموظفين لدى مكاتب المحاماة.
لدى أصحاب المهن الحرة، خاصة الخاضعين للنقابات المهنية، قناعة بأن الحكومة تسعى لتحميلهم رسوم تشغيل المنظومة بدلاً منها، وأنها تحملهم قيمة ضريبية مضافة في حين أنهم يدفعون الضرائب لدى جهات حكومية يتعاملون معها في أنشطتهم اليومية، وأن الشركات المسؤولة عن تحصيل الضرائب إلكترونياً وليس مصلحة الضرائب الحكومية هي المستفيدة من تلك الأموال التي يتحملها أصحاب المهن الحرة، وسيكون لديها تأثير مباشر على أنشطتهم.
احتجاجات واعتصامات في وجه منظومة الضرائب الإلكترونية
ونظم المئات من المحامين وقفة احتجاجية ثانية أمام نقابتهم العامة بوسط القاهرة، الخميس الماضي، بعد أسبوع من اندلاع أولى مظاهراتهم، اعتراضاً على قرار وزير المالية بتطبيق الفاتورة الإلكترونية عليهم، وذلك بالتزامن مع احتجاجات مماثلة في النقابات الفرعية بمحافظات "الإسكندرية، كفر الشيخ، السويس، البحيرة، المنوفية، أسوان"، ومن المقرر أن يحتشد الآلاف من المحامين، الخميس المقبل، أمام مقر مجلس الدولة بالتزامن مع نظر القضاء الإداري دعاوى تطالب بإلغاء القرار بصورة نهائية.
ورفعت نقابة الأطباء مجموعة من المطالب للحكومة المصرية، عبر بيان أصدرته، الخميس، وجددت رفضها للمنظومة الإلكترونية لما لمهنة الطب من خصوصية، ورفضت تحمل الأطباء أية أعباء مالية وإدارية نظير تطبيق أي نظام إلكتروني، وطالبت برفع حد الإعفاء الضريبي السنوي للأطباء نظراً لزيادة تكلفة تقديم الخدمات الصحية.
ويضم الاقتصاد الرسمي الذي انتبهت إليه الحكومة المصرية منذ عام 2018، بعد أن وجدت أن إجراءاتها الاقتصادية التي اتخذتها قبل عامين من ذلك التاريخ لم تحقق نتائجها المرجوة، كلاً ممن يعمل في عمليات البيع والشراء والتصنيع أو العمل الحر دون ترخيص أو تصريح بمزاولة العمل، وكذلك كل الباعة الجائلين وغير المرخصين والمحال غير المرخصة، وكذلك العمال الذين يعملون كأفراد بالأجر اليومي وغيرهم.
مساعٍ حكومية لإنقاذ الاقتصاد عبر مضاعفة الضرائب
يقول خبير اقتصادي لـ"عربي بوست"، إن الاقتصاد المصري يقوم بالأساس على تحصيل الضرائب وتوجيهها لسد عجز الموازنة، ما يجعل الحكومة تتعامل مع أصحاب المهن الحرة على أنهم اقتصاد موازٍ بحاجة لإخضاعه إليها للحد من التهرب الضريبي.
وفي ظل عدم قدرتها على تحديد حجم هذا الاقتصاد بشكل كلي وعدم معرفتها بنواتجه المادية، إلى جانب إدراك الحكومة بأن المسجلين في الكشوف الرسمية لمصلحة الضرائب يمثلون نسبة قليلة من إجمالي النشاط التجاري الدائر في البلاد.
وتمثل الضرائب، منذ سنوات، ما يتراوح بين 75% إلى 80% من إيرادات الحكومة المصرية، وتشهد نمواً سنوياً بشكل مطرد، حيث نمت في موازنة العام المالي 2021/2022 بمعدل 17.3% وسجلت 978.4 مليار جنيه، وفقاً لتقديرات حكومية.
ويضيف المتحدث ذاته، أن الحكومة تلحظ أن هناك نشاطاً ملحوظاً عبر المنصات الإلكترونية دون أن يكون لدى هؤلاء سجلات ضريبية، وهي غير معلومة الهوية بالنسبة لها، كما أنها تجد صعوبة في التعرف على حد التعاملات المالية للمواطنين، ما يجعلها تتجه على نحو أسرع لتنفيذ الشمول المالي، في ظل حالة انعدام الثقة بينها وبين المواطنين الذين يلجأون إلى سبل عديدة للتهرب الضريبي، ولا يقدمون على عملية التسجيل بأنفسهم على الرغم من صرف ملايين طائلة على حملات التوعية التي تستمر لمدة عقد تقريباً دون أن تحقق نتائج مرجوة.
الفاتورة الإلكترونية توفر معلومات عن مُقدم السلعة والمستفيد منها
بحسب المصدر، فإن الفاتورة الإلكترونية توفر للحكومة معلومات عن المُنتج والمشتري، وتقوم بربط الضرائب وفقاً لعمليات البيع والشراء، وهو ما يحد بنسبة لا تقل عن 95% من عمليات التهرب الضريبي في حال نجحت بتطبيقها على كافة الشركات والمصانع وأصحاب المهن الحرة بمختلف أنواعها وأنشطتها.
وإن الحكومة ترى أنه في حال جرى التوصل إلى تفاهمات مع النقابات المهنية فإنها سوف تستطيع حصر الجزء الأكبر من الاقتصاد غير الرسمي، ما يجعلها منفتحة على أية حوارات مع مجالس النقابات للوصول إلى حلول تمكنها من تنفيذ المنظومة.
ستكون المهمة الأصعب، وفقاً للمصدر، بالنسبة لأصحاب المحال التجارية والباعة الجائلين ومن لديهم نشاطات عبر المنصات الإلكترونية، وغيرها من الحرف غير الخاضعة على سيطرة كيانات نقابية من الممكن التفاوض معها، وهو ما يدفع الحكومة نحو تحريك الشُّعَب المختلفة التابعة للغرف التجارية أو لاتحاد الصناعات للقيام بهذا الدور مع أصحاب المحال التجارية وأصحاب الشركات الصغيرة ومتناهية الصغر وغيرهم من أصحاب الحرف.
ويبلغ حجم الاقتصاد الموازي 55% من حجم اقتصاد مصر الرسمي، وهو غير مرخص وغير مسجل ضريبياً، بحسب وزير المالية محمد معيط، والذي يشير إلى أن نسبة ذلك الاقتصاد، ترتفع إلى 60% في بعض الدراسات، وهي نسبة مرتفعة مقارنة بالدول النامية الأخرى.
الاقتصاد الموازي يتخطى الرسمي
وتشير ورقة بحثية أعدها مركز المعلومات واتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء، العام الماضي، إلى أن النشاط الاقتصادي الموازي يستوعب نحو 50% من قوة العمل البالغة نحو 29.3 مليون فرد، كما يبلغ عدد وحداته الصغيرة والمتوسطة أكثر من 4 أمثال عددها في الاقتصاد الرسمي.
وتشير تقديرات حكومية إلى نحو 47 ألف مصنع لم تستخرج سجلاً صناعياً، كما أن هناك 8 ملايين مواطن يعملون في 1200 سوق عشوائية، إضافة للباعة الجائلين، وكل ذلك يدار بحجم تعاملات سنوية تتجاوز تريليون جنيه، وما يمثل ضرائب ضائعة تقدر بـ550 مليار جنيه.
ويستحوذ الاقتصاد غير الرسمي على نسبة 53% من إجمالي المنشآت في قطاعات الأنشطة الاقتصادية، وكانت له النسبة الكبرى في بعض القطاعات، حيث استحوذ على نسبة 73% من إجمالي منشآت قطاع الزراعة واستغلال الغابات وقطع الأشجار وصيد الأسماك، وعلى نسبة 60.5% من إجمالي عدد المنشآت في قطاع الإمداد المائي وشبكات الصرف الصحي وإدارة ومعالجة النفايات، وفقاً لبيانات مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار.
الحكومة تلجأ إلى لغة خشنة بعد فشل أساليب جذبها للقطاع الرسمي
يشير خبير اقتصادي إلى أن الحكومة المصرية عمدت إلى استخدام لغة هادئة مع أصحاب الحرف الحرة والمشروعات الصغيرة منذ عام 2018، وأعلنت عن مبادرات عديدة جرى طرحها في توقيتات مختلفة بالتزامن مع أزمة الركود التي سببها فيروس كورونا.
ووظفت حاجة البعض للمساعدات الحكومية لجذبه إلى الاقتصاد الرسمي، وقدمت في ذلك الحين تيسيرات مالية للتحفيز للانضمام للقطاع الرسمي، ومنح إعفاءات ضريبية لمدة خمسة أعوام لمن ينضم للسوق الرسمية وغيرها.
ويضيف أن الحكومة لم تكن جادة في تنفيذ وعودها؛ لأن البعض من أصحاب الشركات الصغيرة الذي حاولوا الحصول على أراضٍ مجانية أو بأسعار رمزية في المجمعات الصناعة جرى استنفاد طاقاتهم في إجراءات روتينية لا طائل منها، وفي النهاية لم يستطع هؤلاء تحديد الأماكن التي يرغبون بها لإقامة مشروعاتهم، كما أن الوعود التي تلقوها بتسويق منتجاتهم في المعارض المحلية وتعزيز مكاسبهم المادية لم تتحقق.
لدى غالبية أصحاب المهن الحرة الذين تحدثت إليهم "عربي بوست" قناعة بأن الحكومة مصممة على إخضاعها للاقتصاد الرسمي ليس لتحسين موقفهم المالي أو التجاري، وإنما تستهدف بالأساس الجباية، ما يجعل الإجراءات الحكومية نحو دمجهم تسير ببطء شديد، بل تكاد تكون متوقفة.
وإن الأرقام التي أعلنت عنها الحكومة في عام 2018 بشأن الاقتصاد غير الرسمي لم تتغير، حتى الآن ما زالت عند حدود ما بين 55% إلى 60% من حجم الناتج الكلي للدخل القومي.
يقول الخبير الاقتصادي إن سياسة التهدئة وتقديم المغريات التي حاولت الحكومة التسويق إليها باعتبارها عناصر جذب للانضمام إلى القطاع الرسمي، لم تحقق أهدافها، ومن ثم اتجهت لاستخدام أساليب يمكن وصفها بأنها خشنة.
وإن التهديد بفرض عقوبات تتراوح ما بين 20 ألف جنيه إلى 100 ألف جنيه لمن يرفضون الانضمام لمنظومة الفاتورة الإلكترونية هي أولى القرارات، ومن المتوقع أن يستمر التضييق في ظل المشكلات الجمة التي يعانيها الاقتصاد المصري.
ستواجه الشركات أو الأفراد المتهربون من التسجيل على منظومة الفاتورة الإلكترونية بعد 30 أبريل/نيسان المقبل، عقوبات مثل استبعاد ملف الشركة من مركز كبار الممولين للضرائب، وكذلك الحرمان من دعم الصادرات، وعدم تمكن الشركة من التعامل مع الجهات الحكومية والقطاع العام.
مزيد من إجراءات الشمول المالي للتحكم في حركة الأموال ومراقبتها
ويكشف مصدر بوزارة المالية لـ"عربي بوست" عن أن الحكومة المصرية تنوي اتخاذ مزيد من الإجراءات التي تدعم توفير المعلومات لديه بشأن حركة الأموال داخل البلاد، وأن الخطوة التالية للفاتورة الإلكترونية تتمثل في التوسع في درجات الشمول المالي، وربط كافة المنظومات الحكومية والمالية ببعضها، بمعنى إدماج إدارة التأمينات الاجتماعية والتي لديها معلومات حول ضرائب كسب العمل والدخل إلى جانب الضرائب العامة التي لديها معلومات بكافة التعاملات الضريبية العامة والعقارية مع المنظومة البنكية.
ويؤكد أن ذلك الإجراء الذي تقوم الحكومة بدراسته في الوقت الحالي عبر دوائر مغلقة يساهم في أن تتعرف الحكومة في كافة التعاملات المالية، وبما لا يسمح بخروج التعاملات التجارية بعيداً عن المنظومة المالية، مشيراً إلى أن تنفيذ قانون المحال العامة في هذا التوقيت بعد عامين من إقراره يستهدف أيضاً مزيداً من الهيمنة على السوق الموازي.
وقبل أيام أعلنت وزارة التنمية المحلية تطبيق قانون المحال العامة رقم 154 لعام 2019، بدءاً من 11 ديسمبر/كانون الأول، ووجه اللواء هشام آمنة، وزير التنمية المحلية، جميع المحافظات بضرورة سرعة الانتهاء من حصر جميع المحلات التجارية المرخصة وغير المرخصة على مستوى الجمهورية، وإعداد بيان إحصائي بذلك لمتابعة الأثر التشريعي لتطبيق قانون المحال العامة الجديد.
شدد وزير التنمية المحلية في بيان له على أن الحكومة تسعى من خلال هذا القانون إلى توفيق أوضاع المحال غير المرخصة، ودمجها في الاقتصاد الرسمي للدولة، بما يساهم في دفع عجلة الاقتصاد، وفتح مجالات جديدة للاستثمار.
ووفقاً لقانون المحال العامة، يعاقب من قام بتشغيل محل دون ترخيص بغرامة لا تقل عن 20 ألف جنيه ولا تجاوز 50 ألف جنيه، وفي حالة العودة تكون العقوبة الحبس مدة لا تقل عن 6 أشهر ولا تجاوز سنة، والغرامة المشار إليها أو بإحدى هاتين العقوبتين، بالإضافة إلى غلق المحل على نفقة المخالف.