في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تمر بها مصر حالياً ولجوئها لصندوق النقد الدولي للحصول على قرض جديد، وما تبع ذلك من تحرير سعر صرف الجنيه وصعود الدولار لقرابة 25 جنيهاً مصرياً، تدور الكثير من الأسئلة حول حالة الاقتصاد المصري، والأسباب التي أدت إلى وصول الوضع لهذه الحالة، والتأثيرات الحالية والقادمة لهذه الأوضاع على حياة المصريين.
ذهب "عربي بوست" بهذه الأسئلة إلى المفكر وأستاذ الاقتصاد وعضو مجلس أمناء الحوار الوطني، جودة عبد الخالق، ليجيب لنا عنها، ويوضح رؤيته فيما يحدث حالياً.
جودة عبد الخالق حالياً هو عضو المكتب السياسي لحزب التجمع اليساري، وعضو مجلس أمناء الحوار الوطني، والذي يرى أن الاقتصاد المصري حالياً، في وضع شديد الصعوبة، ويعاني من أمراض عديدة، و"قد ينتقل إلى غرفة العناية المركزة مصاباً بالسكتة الاقتصادية في أي لحظة، ولن يخرج منها حياً"، على حد تعبيره.
هذا ما لم تقم الحكومة باتخاذ الإجراءات الكفيلة بحمايته، عبر تغيير السياسات الاقتصادية الخاطئة، وتوقف الحكومة عن القيام بدور "المطور العقاري" من خلال ما يسمى بالمشروعات العملاقة، ومنها مشروع بناء العاصمة الإدارية الجديدة التي تستنزف أموالاً هائلة، دون أي مردود اقتصادي يذكر، وترشيد الاستهلاك، وتخفيض الإنفاق الحكومي، والالتفات إلى تطوير مجالي الزراعة والصناعة، وتشغيل المصانع المغلقة.
وعن قروض صندوق النقد الدولي لمصر، يرى عبد الخالق أنها لن تغير شيئاً من واقع الوضع الاقتصادي السيئ الذي تعيشه مصر حالياً، وأنه لا يمكن لبلد يريد أن يزدهر اقتصادياً الاعتماد على قروض هذا الصندوق، ودليلنا على ذلك أنه وبعد مرور 6 سنوات على قرض الصندوق الأول عام 2016، لم يطرأ أي تحسن يذكر على الاقتصاد المصري، بل تفاقمت أزماته.
وفي تعليقه على المؤتمر الاقتصادي الذي عقد مؤخراً، قال إن مصر كانت في حاجة ماسة لمثل هذا المؤتمر، لمناقشة الوضع الاقتصادي المأزوم، والبحث عن الحلول المناسبة، لكن تم إهدار هذه الفرصة الثمينة، بعدما تبين للجميع أن كل شيء كان معداً مسبقاً، والأمور مرتبة سلفاً، ولم يتحدث في المؤتمر سوى هؤلاء الذين يأتمرون بأوامر الحكومة، ويروجون لها، ولا يمكن لأي أحد منهم أن يخرج عن النص والدور المرسوم له، على حد قوله.
وعن رؤيته للحوار الوطني، أكد عبد الخالق أن على الجميع إبداء حسن النوايا، والتعامل مع المسألة بالجدية اللازمة، فلربما أفاقت الحكومة أخيراً، وأدركت خطأ سياساتها، وقررت إصلاحه.
لكنه في نفس الوقت يتفهم هواجس وشكوك البعض، الذين يرون أن الحوار الوطني لن يخرج عن كونه "فاترينة" أو ديكوراً لتجميل وجه الحكومة القبيح، أو "تمرير" الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لفترة رئاسة ثالثة، مشيراً إلى أنه إذا ساورته أي شكوك تتعلق بعدم الجدية في إجراء إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية حقيقية، فسيعلن انسحابه على الفور.
وإلى نص المقابلة:
لماذا عدلت وكالة "فيتش " للتصنيف الائتماني، نظرتها المستقبلية لمصر من مستقرة إلى سلبية؟
التصنيف يقوم على أكثر من أساس، منها قدرة البلد على سداد ديونها، وهذا يسمى التصنيف الائتماني، فهل تستطيع مصر تسديد ديونها، أم أنها لا تملك القدرة على ذلك.
وهناك أساس آخر وهو "الملاءة الاقتصادية أو المالية"، وهي القدرة على الوفاء بالالتزامات المالية المطلوب سدادها. كما هناك أساس ثالث وهو "التصنيف الائتماني السيادي".
هذه الأسس الثلاثة تقول إن مصر لا تملك القدرة على الوفاء بسداد التزاماتها المالية، وأن أداء الاقتصاد المصري، والظروف المحيطة به تشير إلى أن "غداً أسوأ من اليوم"، وعلى هذا الأساس، هبط تصنيف مصر من مستقر إلى سلبي.
هل يعني ذلك أن الاقتصاد المصري دخل "غرفة العناية المركزة"؟
الاقتصاد المصري في وضع شديد الصعوبة، لأنه اقتصاد ريعي وهش ومناعته ضعيفة. لكن يمكن إخراجه مما تسميه غرفة العناية المركزة الاقتصادية، لكن بشروط منها نوع السياسات الكلية، وهي السياسات التي تكفل للاقتصاد درجة من الاستقرار، واستقرار قيمة العملة، والمستوى العام للأسعار.
كيف يمكن توصيف حالة الاقتصاد المصري حالياً؟
الحقيقة أن الاقتصاد المصري شديد الهشاشة، وغير قادر على تحمل الصدمات، وهو أشبه بإنسان مناعته ضعيفة، يمكن أن يصيبه المرض لأي سبب بسيط.
المسؤول عن ذلك هم القائمون على وضع السياسات الاقتصادية الفاشلة، ومنها إقامة الطرق والكباري والعقارات والعاصمة الإدارية الجديدة، وهي كلها أمور لا تخلق قيمة مضافة، بدلاً من الاستثمار في القطاعات الإنتاجية، التي يمكنها أن تضيف كثيراً للاقتصاد، مثل الزراعة والصناعة وتشغيل المصانع المغلقة.
ما الحل إذاً؟
الحل يكمن في التوقف الفوري عما يسمى بالمشروعات العملاقة، مثل العاصمة الإدارية الجديدة وإقامة الطرق والكباري وغيرها، التي تستنزف أموالاً هائلة دون قيمة مضافة تذكر، أو مردود على حياة المواطن العادي.
يجب العمل بجدية على ترشيد الاستهلاك، وتخفيض الإنفاق الحكومي، وتطبيق حالة تقشف في المصروفات الحكومية، كل ذلك بالتوازي مع العمل على زيادة الإنتاج عبر تطوير قطاعي الزراعة والصناعة تحديداً، مع تطبيق مفهوم العدالة الاجتماعية، التي تضمن حقوقاً متساوية للجميع.
ما رأيك في التعويم الأخير للجنيه؟ ألم تكن هناك حلول بديلة؟ وإلى أي مدى ستتراجع قيمة الجنيه أمام الدولار؟ هل ستشهد موجات هبوط تالية؟
أؤكد أن تعويم الجنيه والخضوع لشروط صندوق النقد الدولي وتنفيذ الحكومة "الأعمى" لشروطه ليست الحل المناسب لإخراج الاقتصاد المصري من محنته، والاتفاق الأخير مع صندوق النقد الدولي لا يختلف عن الاتفاقات السابقة بدءاً من الاتفاق الأول المبرم عام 2016.
لن يؤدي هذا إلى تحسين الوضع الاقتصادي السيئ، بل سيؤدي لمزيد من الفشل الاقتصادي، وعدم قدرة الحكومة على تأمين الاحتياجات الأساسية من المواد الغذائية، وارتفاع تكلفتها.
أؤكد للمرة الألف أنه ما لم تتغير السياسات الاقتصادية الخاطئة، فسيزداد الوضع سوءاً، ولن تنفع معه أي قروض جديدة.
ماهي مميزات وعيوب قرض صندوق النقد على الاقتصاد المصري؟ وهل القروض هي الطريقة الصحيحة لتعافي الاقتصاد المصري؟
ليس هناك أي مميزات يمكن أن تعود على الاقتصاد المصري من قروض صندوق النقد الدولي، والتعويل عليه لن يفيد، ولن يخرج الاقتصاد من محنته، ولا يمكن لبلد يريد أن يزدهر اقتصادياً، الاعتماد على قروض صندوق النقد الدولي، والخضوع لسياساته.
أؤكد أنه كي يكون الاقتصاد المصري صلباً وقادراً على مواجهة الأزمات، لا بد أن يقوم بالاعتماد على قطاعات الإنتاج الحقيقية وبالتحديد الزراعة والصناعة. طوال السنوات الأخيرة الماضية اعتمدت الحكومة على قطاع التشييد والتعمير، حتى أصبحت تعمل كمطور عقاري، وهو قطاع ليس إنتاجياً، ولم يضف شيئاً لحياة المواطن، ولا للاقتصاد المصري.
لذلك سنعمل فى الحوار الوطني على صياغة استراتيجية إعطاء أولوية لإحداث طفرة في قطاعي الزراعة والصناعة، وهما قطاعان إنتاجيان بامتياز.
هل يمكن أن ينجح قرض صندوق النقد الدولي الأخير في تحقيق الأهداف الاقتصادية التي تتحدث عنها الحكومة المصرية؟ وهل الموافقة دليل على ثقة الصندوق في الاقتصاد المصري؟
عندما بدأت مصر ما أطلقت عليه برنامج الإصلاح الاقتصادي عام 2016، سميته أنا الإفساد الاقتصادي، لأنه هوى بالدولار من 5 جنيهات إلى 18جنيهاً، فكيف نطلق عليه برنامج إصلاح اقتصادي وقد وصل معدل التضخم ساعتها إلى أكثر من 30%، ودفع الفقراء وحدهم الثمن، وما زالوا يدفعون.
أنا لا أتوقع أن يحقق قرض الصندوق الأخير الأهداف الاقتصادية التي تتحدث عنها الحكومة، لسبب بسيط ولكنه واضح جداً، وهو استجابة الحكومة لكل شروط الصندوق دون نقاش أو مراجعة، طمعاً في الحصول على القرض بشكل سريع.
باختصار، قرض الصندوق لن يحقق شيئاً للاقتصاد المصري، وكلنا رأينا أنه بعد مرور 6 سنوات على قرض الصندوق الأول، حدث التدهور الحاد في قيمة العملة المحلية، واتجهت الحكومة لبيع الأصول لمستثمرين خليجيين، ما يعني فشل عملية الاقتراض من الصندوق في تحقيق أي أهداف اقتصادية.
هل يمكن أن تؤدي الإجراءات الاقتصادية الأخيرة إلى تحسن الاقتصاد المصري وجلب الاستثمارات والتدفقات المالية العربية والأجنبية؟
الاقتصاد المصري لا يدار بالطريقة الصحيحة، والسياسات الاقتصادية خاطئة، وتنفيذ الحكومة "الأعمى" لكل قرارات الصندوق دون نقاش أو مراجعة لن يسهم في تحسين الاقتصاد المصري.
كان على الحكومة -كما أسلفت- التركيز على قطاعي الزراعة والصناعة وتطويرهما، وتشغيل المصانع المغلقة، بدلاً من قيامها بدور "المطور العقاري".
هل يمكن للحكومة احتواء تداعيات التعويم الأخير للجنيه؟
هناك عدة شروط لتحقيق ذلك الهدف، يأتي على رأسها، العمل من الآن على وضع سياسات اقتصادية سليمة، والتدرج في تحديد المستهدفات، فمن المستحيل تحقيق ثلاثة مستهدفات في وقت واحد، وهذا ما أسميه "الثالوث المستحيل".
الحكومة -وهذا خطأ كبير- تسعى نحو تحقيق ثلاثة أهداف في وقت واحد. الأول هو استقرار سعر صرف الجنيه، والثاني ضمان حرية دخول وخروج الأموال، أما الهدف الثالث فهو ضمان استقلالية السياسة النقدية، وهذا هو المستحيل بعينه.
على الحكومة -إن أرادت النجاح- العمل على تحقيق هدفين في البداية، وعندما تنتهي منهما، نبدأ العمل على تحقيق الهدف الثالث. بهذا الشكل المتدرج، ومع البدء في تطبيق سياسات اقتصادية سليمة وحقيقية، يمكننا احتواء التداعيات التي نتجت عن التعويمات المتتالية للجنيه.
هل الشروط والسياسات التي يمكن أن تؤدي إلى إخراج الاقتصاد المصري من أزمته مطبقة حالياً؟
للأسف لا تطبق ولا تنفذ، لأن الاقتصاد المصري، لا يديره اقتصاديون. معظم من أداروا الاقتصاد المصري هم مصرفيون مثل طارق عامر محافظ البنك السابق، وحسن عبد الله المحافظ الحالي. بل الأكثر من ذلك أن هناك من كان يدير الاقتصاد المصري، ولا علاقة له أساساً بالاقتصاد لا من قريب أو بعيد.
أحدهم كان متخصصاً في "الرياضة الإكتوارية" والآخر "بكالوريوس تجارة" ولم يكمل دراسته، أو يهتم بالبحث وتطوير ذاته. كل هؤلاء أفقهم محدود جداً، فكيف لهم أن يديروا اقتصاد دولة.
لماذا أصدرت الحكومة قرار "الاعتمادات المستندية" ولماذا ألغته؟ ما الفائدة التي كان يبتغيها المسؤولون من إصداره؟ وما الذي دفعهم إلى إلغائه؟
كان إصدار هذا القرار خطأً شنيعاً، فهناك سلع أساسية استراتيجية لا يمكن الاستغناء عنها، ولا يجب أبداً أن يبحث عنها المواطن ولا يجدها، مثل زيت الطعام والمسلي، والذرة، والقمح، والدقيق (الخبز)، والسكر والأرز والمكرونة والفول والملح والخل وغيرها.
لكن للأسف حدثت أزمة في توافر هذه السلع بسبب هذا القرار، فضلاً عن تسببه في ارتفاع أسعار المتواجد منها، وزيادات في أسعار سلع أخرى. كان قراراً معيباً عطل حركة الاستيراد، لعدم توافر الدولار لدى المستوردين، وخلق أزمة كبيرة، لذلك كان لا بد من التراجع عنه.
إذاً.. لماذا صدر من الأصل، ماذا هدفت الحكومة من إصداره؟
كان هدف إصدار هذا القرار هو المساهمة في توافر الدولار داخل البلاد، هكذا كان يعتقد من أصدروه، ولكنها كانت نظرة ناقصة ومعيبة، أدت إلى اختفاء عدد كبير من السلع، ومنها السلع الاستراتيجية، التي تحدثنا عنها.
يرجع البعض الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها مصر حالياً إلى التأثيرات السلبية لجائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية.. هل تتفق مع هذا الطرح؟
أتفق معه نسبيا أو جزئياً. لكن الأسباب الحقيقية التي أدت إلى انتكاس الوضع الاقتصادي المصري هي السياسات الاقتصادية الخاطئة التي اعتمدتها وتعتمدها الحكومة المصرية.
أما التحجج بجائحة كورونا أو الحرب الروسية الأوكرانية، فالأمر لا يعدو "شماعة" يعلقون عليها فشلهم. والدليل عدم تأثر اقتصادات كبيرة ومهمة، مثل الصين والهند.
المشكلة تكمن في أن الاقتصاد المصري "ريعي" يقوم على السياحة والنفط والغاز، ودخل قناة السويس، وتحويلات المصريين بالخارج، والمساعدات والمنح المالية العربية والأجنبية، وبالتالي لا يوفر أي قيمة مضافة للناتج المحلي.
هل يمكن أن تفيد الأموال الساخنة الاقتصاد المصري؟
بالطبع لا. الأموال الساخنة لا تضيف شيئاً للاقتصاد، ولا تخلق فرص عمل. هي مجرد استثمارات في أذون الخزانة والسندات، تمكن المستثمر الأجنبي من تحقيق مكاسب كبيرة وسريعة، ولا تعبر عن نمو اقتصادي حقيقي.
كلنا رأينا "هروب" ما بين 25 إلى 30 مليار دولار من مصر مؤخراً، بعد أن حقق أصحاب هذه الأموال هدفهم وهو الربح السريع.
كيف ترى تصريحات محافظ البنك المركزي بسعيه لتغيير "الثقافة والفكر" بشأن ارتباط سعر صرف الجنيه بالدولار، عبر استحداث مؤشر يقيس أداء العملة مقابل سلة من العملات بالإضافة إلى عناصر أخرى مثل الذهب؟
أراه اقتراحاً جيداً. سعر صرف الجنيه لا بد أن يواجه سلة من العملات، بخلاف الدولار، خصوصاً أن الولايات المتحدة، ليست الشريك التجاري الأول لمصر، ولا يزيد حجم التجارة الخارجية معها عن 16% من حجم تجارة مصر.
بالتالي من الطبيعي أن يتم استحداث مؤشر خاص بالجنيه يضم سلة من العملات الدولية، تمثل أهم الشركاء التجاريين لمصر، على الأقل 4 عملات بخلاف الدولار بالإضافة إلى الذهب، الذي يتمتع بثبات نسبي. هذا الأمر في حال حدوثه، سيسهم في معالجة الكثير من الأوضاع الاقتصادية الهشة. ولكن أخشى -كما يقولون- من أن يسكن الشيطان في التفاصيل.
ماذا يقصد البنك المركزي المصري بأن سعر صرف قيمة الجنيه مقابل العملات الأجنبية سيتحدد بواسطة قوى العرض والطلب في إطار نظام "سعر صرف مرن"؟
مفهوم سعر صرف مرن، يعني تعويم كامل الجنيه، وارتباطه بآليات العرض والطلب في سوق العملات العالمية، وهو ما سوف يؤدي إلى زيادة العجز التجاري ورفع التكاليف والأسعار، وكذلك زيادة التزامات خدمة الدين الخارجي في الموازنة العامة للدولة بنفس النسبة، وبالتالي زيادة العجز المالي، مثلما حدث في اتفاق مصر مع صندوق النقد الدولي عام 2016، وهو ما يمثل عبئاً كبيراً على المواطنين.
هل كانت مصر بحاجة إلى "مؤتمر اقتصادي" أم سياسات اقتصادية رشيدة؟ وما المقصود بتوصية المؤتمر التي تنص على ضرورة تغيير "بيئة الاقتصاد الكلي"؟
نعم، كانت البلاد في حاجة ماسة لمثل ذلك المؤتمر، ولكن للأسف الشديد، تم إهدار هذه الفرصة الثمينة، فقد أرسل الحوار الوطني 8 أسئلة للرئيس السيسي للرد عليها، ولكن لم يرد لا من قريب أو بعيد، وهو ما أضاع فرصة التكامل بين الحوار الوطني والمؤتمر الاقتصادي.
تبين بعد ذلك أن الأمور كانت مرتبة مسبقاً ومعدة سلفاً، وتم اختيار المتحدثين في المؤتمر ممن لا يخرجون عن "نص الحكومة"، والدور المرسوم لهم، وبالتالي لم نستطع عرض وجهة نظرنا.
المقصود ببيئة الاقتصاد الكلي، ملاحظة التغيرات التي تطرأ على أسعار الصرف والفائدة، ومعدلات التضخم وأسبابه، وأسباب البطالة، أي توفير بيئة اقتصادية لتعزيز النمو الاقتصادي، بتطبيق سياسات نقدية ومالية سليمة، للحد من الفقر، وتحقيق العدالة الاجتماعية والنمو المستدام.
والسؤال هنا: هل ستنفذ الحكومة هذه التوصيات، أم ستبقى مجرد توصيات وحبر على ورق؟ لننتظر ونرَ.
ماذا عن المحورين الاقتصادي والاجتماعي في الحوار الوطني؟
الحوار سيناقش قضية انفلات الأسعار، ومحاولة إيقافها، ووضع آلية حقيقية قابلة للتطبيق، لضبط إيقاع السوق، وإصلاح أحوال الصحة والتعليم، وزيادة الميزانية المخصصة لهما، حتى يستطيع المواطن البسيط أن يجد مكاناً في أحد المستشفيات، ويستطيع الطالب الفقير، أن يجد مقعداً في مدرسته.
يرى البعض أن الحوار الوطني مجرد "فاترينة" لتجميل وجه النظام وتوفير البيئة المناسبة للرئيس السيسي كي يمر لفترة رئاسية ثالثة.. كيف ترد على هذا الطرح؟
علينا أن نتعامل مع الموضوع بحسن نية، وبجدية شديدة، فربما كان هناك توجه من قبل السلطة لإجراء إصلاحات سياسية واقتصادية حقيقية.
أنا أفهم توجس البعض من الحوار الوطني، وتشككهم فيه، فربما كانت هناك أغراض خبيثة تحاول السلطة تمريرها من خلال الحوار، ومنها تمرير الرئيس السيسي لفترة رئاسية ثالثة.
قلت إن الحوار الوطني تجربة تستحق أن "نستميت" لإنجاحها، ما هي عوامل وفرص نجاح الحوار؟ وهل "التربة السياسية" مهيأة ومجهزة لذلك؟ هل يمكن أن تقدم الحكومة تنازلات مؤلمة سبق أن رفضت تقديمها على مدار ثماني سنوات؟
علينا -كما قلت- أن نأخذ المسالة مأخذ الجد ونرى، ربما استطعنا أن ننتقل بالبلد من نقطة متأخرة إلى أخرى متقدمة، من خط بعيد إلى آخر أقرب. على المشاركين في المناقشة التعامل على أساس أن المسألة "ليست صفرية"، وأن يبتعد الجميع عن النزعة العدمية ومنطق "يا قاتل يا مقتول".
علينا التعامل بمنطق "الكل يكسب" والبحث عن مساحة التقاء مشتركة، لأنه في حال فشل الحوار، ستكون التداعيات رهيبة.
ما الشروط المطلوب توافرها لضمان نجاح الحوار الوطني؟
يجب أن يكون هناك مساحة مشتركة بين الناس والحكومة بعيداً عن القرارات الفوقية التي تصدرها الحكومة، وإجبار الشعب على تقبلها، هذا خطأ كبير.
علينا أن نعيد ونحترم ثقافة الحوار الغائبة، خلينا نسمع بعض. أيضاً لا بد من العمل على إحياء الأحزاب من العدم، وإعادة النظر في قانون الأحزاب، والعودة إلى النظام الفردي والقائمة النسبية في انتخابات مجلسي النواب والشيوخ، وإلغاء القائمة المطلقة.
ولكن هل تتوقع أن تستجيب الحكومة لكل هذه المطالب والشروط؟
لابد أن تستجيب الحكومة لكل هذه المطالب وغيرها إن كانت جادة في الحوار. وليس هذه المطالب فقط، لكن أيضاً لا بد من إعادة النظر في الحبس الاحتياطي، وقانون المرافعات، وقانون مباشرة الحقوق السياسية، وقانون التظاهر، فهو مأساة حقيقية.
بل علينا أن ننظر في أمر تعديل الدستور نفسه، وتنقيته من المواد التي تقيد حرية التعبير، فضلاً عن إصلاح المحليات، فلن يكون هناك أي إصلاح، ولن يشعر المواطن بأي إصلاح حقيقي، إلا بإصلاح المحليات.
ماذا سيكون ردك لو اكتشفت أن هناك أهدافاً سياسية للنظام من الدعوة إلى الحوار الوطني، وأن الأمر لا علاقة له بإصلاحات سياسية أو اقتصادية أو غيرها؟
إذا ساورتني أي شكوك تتعلق بعدم جدية الحوار من قبل السلطة، أو انحرافه عن تنفيذ الأجندة المتفق عليها، أو وجود أهداف خفية، غير التي أعلن عنها، والتي تتعلق بالسعي نحو إجراء إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية حقيقية، فسأعلن انسحابي على الفور.
من هو جودة عبد الخالق؟
جودة عبد الخالق مفكر اقتصادي كبير وقامة سياسية رفيعة، عرف عنه انحيازه للبسطاء والمهمشين، والاصطفاف بجانبهم ضد تغول سياسات النظم الرأسمالية التي تعاقبت على حكم مصر منذ عام 1952.
عمل جودة عبد الخالق أستاذاً للاقتصاد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، ووزيراً للتضامن والعدالة الاجتماعية والتموين والتجارة الداخلية في تشكيلين وزاريين مختلفين بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011.
أصدر عبد الخالق أكثر من تسعة كتب، والعديد من الأوراق البحثية التي تعنى بالشأن الاقتصادي، وتسبر أغواره، وتفك ألغازه، وتقدم حلولاً تستهدف رفعة المواطن وتحسين جودة حياته.
كما حصل على جائزة الدولة للتفوق في العلوم الاجتماعية عام 2005، وجائزة النيل عام 2020.