نشأ الابن الصاعد بنيامين لدى أبيه على قناعة لطالما سمعها منه، مفادها أنه "طالما بقي يوم استقلالنا نحن اليهود، هو نفسه يوم نكبة للفلسطينيين، فلن يحلّ هذا الصراع بيننا وبينهم"، والقائل هو بنتسيون نتنياهو أحد مؤرخي الحركة الصهيونية، والمساعد الشخصي لزئيف غابوتنسكي الزعيم الصهيوني التاريخي الذي سعى في أوائل القرن العشرين لتأسيس "إسرائيل الكبرى". مر نتنياهو بمراحل عديدة في حياته كوّنت شخصيته وشكّلت مفاهيمه، نستعرض في هذا التقرير أبرزها.
ظهر حجم تأثر نتنياهو الابن، بنتنياهو الأب، من خلال بيان التأبين الذي ألقاه في وداعه عام 2012، وقد توفي عن عمر ناهز 102 عام، وفضلاً عن كونه مؤرخًا إسرائيليًا، فقد عمل أستاذاً للتاريخ في جامعة كورنيل، وناشطًا في الحركة الصهيونية التي ضغطت بالولايات المتحدة لدعم إنشاء الدولة اليهودية.
كشف الرئيس الإسرائيلي السابق، رؤوفين ريفلين، أن "نتنياهو تعلّم الصهيونية الخالصة من أبيه، ولذلك فهو نشأ في بيت ينظّر للصهيونية، باعتبارها لا تقبل الحلول الوسط". أما نتنياهو الابن ذاته، فقد اعترف في احتفال بمناسبة بلوغ عمر والده مئة عام، بأنني "تعلمت منك أن أنظر إلى المستقبل"، ولعله ترجم ذلك في سياسته ضد الفلسطينيين.
يرى الرجل أن "الفلسطينيين واليهود أشبه بماعزَين يواجه كل منهما الآخر على قنطرة ضيقة، وهذه المواجهة لا بُد أن تسفر عن أن أحدهما سيقفز، أو يقع في النهر، وأي حرب بين الفلسطينيين واليهود -والحديث على لسان نتنياهو- ستجعلنا نمنع وصول الطعام للمدن الفلسطينية، ومنعهم من التعليم، وقطع الكهرباء عنهم، وأكثر من كل هذا، وعندها لن يكونوا قادرين على البقاء، وسيضطرون إلى الهرب والنزوح".
بيئة سياسية مؤدلجة بامتياز
في مثل هذه البيئة السياسية الصهيونية المؤدلجة نشأ بنيامين المولود بعد عام واحد على قيام دولة إسرائيل على أنقاض أرض فلسطين، وبدأ بتشرب المفاهيم المتشددة، التي ترى أن مآلات الصراع مع الفلسطينيين محصورة بين "إما نحن وإما هم"، بزعم أن فلسطين لا تتسع لشعبين، وإذا كان اليهود قد اجتمعوا من كل أقاصي الأرض لإقامة دولتهم الوحيدة، فإن لدى الفلسطينيين أكثر من عشرين دولة عربية يستطيعون العيش في أي منها، متى أرادوا ذلك.
النشأة والتكوين
درس نتنياهو المرحلة الثانوية في الولايات المتحدة، بسبب إقامة والده بها في مهمة علمية، وبعد عودته التحق بالجيش عقب حرب 1967، وخدم في وحدة نخبة "سييريت متكال" المرموقة، وشارك في عمليات خاصة لإنقاذ المختطفين من طائرة "سافانا" عام 1972، وهي تلك التي استولت خلالها إسرائيل على باقي الأراضي الفلسطينية، ومعها الجولان السوري وسيناء المصرية، في الحرب التي يطلق عليها الإسرائيليون حرب الأيام الستة، للإشارة إلى أنهم احتلوا كل هذه الأراضي العربية في أيام ستة، لا سابع لها!
ليس هناك كثير مما قد يقال عن خدمة نتنياهو العسكرية، باستثناء أنه خدم في وحدة النخبة، وبعد انتهاء خدمته الأساسية فقط، اتجه للدراسة الجامعية، فحصل على شهادة البكالوريوس في التخطيط المعماري، ثم الماجستير في إدارة الأعمال، ودرس العلوم السياسية بجامعة هارفارد
يحتمي نتنياهو دائماً بالسيرة الذاتية العسكرية لشقيقه يوناثان الذي قُتل عام 1976، أثناء مشاركته في عملية لإطلاق سراح رهائن محتجزين على متن طائرة، خطفتها منظمتان فلسطينية وألمانية في أوغندا، زاعماً أن مقتله جعل من ملاحقة المقاومة الفلسطينية أحد أبرز محاور مسيرته السياسية في فترة لاحقة.
بدأت سيرته الذاتية في مجال الأعمال والسياسة منذ أواسط السبعينيات، حيث عمل مستشاراً بمجموعة بوسطن للاستشارات، ثم مديراً لمعهد يوناتان لبحث الإرهاب، ثم انتقل للمجالين السياسي والدبلوماسي، وكان أول منصب تولاه هو مندوب إسرائيل في واشنطن، ثم صار مندوباً لها لدى الأمم المتحدة، وكان الناطقَ الإعلامي باسم الوفد الإسرائيلي لمؤتمر مدريد للسلام عام 1991، حيث يتقن الإنجليزية والفرنسية، ثم عُيّن نائباً لوزير الخارجية، حتى ترأس الليكود للمرة الأولى في 1993، وهو العام الذي شهد توقيع اتفاق أوسلو مع الفلسطينيين.
قد لا تكون هناك صلة مباشرة بين عمل نتنياهو في مجال المال والأعمال والشركات والفساد الشخصي والعائلي والحكومي، على اعتبار أن هناك العديد من المسؤولين الإسرائيليين الذين يتقاعدون مؤقتاً من العمل الرسمي ويتوجهون للعمل في القطاع الخاص وإدارة الشركات الكبرى، لكنهم لم يتورطوا في ما تورط فيه نتنياهو، الذي كان مهيأً شخصياً للانزلاق إلى مربعات الفساد، سواء بسبب رغبته في الاستحواذ على مزيد من المال والثروة، أو زوجته سارة التي عكفت على الحصول على الهدايا الشخصية من أصدقاء زوجها، وضمن ذلك العطور الفاخرة والسيجار العالمي والمجوهرات الثمينة.
بجانب عمله الحكومي وأشغاله السياسية، وجد نتنياهو وقتاً للكتابة والتأليف، فأصدر خمسة كتب عبّرت في مجموعها عن أيديولوجيته السياسية، ومنها "الإرهاب الدولي: التحدي والرد"، و"الإرهاب: كيف سينتصر الغرب؟"، و"مكان تحت الشمس"، و"الحرب على الإرهاب"، ترجم بعضها للغات الروسية، الفرنسية، العربية، اليابانية.
زوجة بنفوذ سياسي
على الصعيد العائلي تزوج نتنياهو بسارة، ذات النفوذ الذي فاق كل سابقاتها من الاإسرائيليات، فلم يُعرف عن أي رئيس حكومة سابق أن برزت زوجته، وظهرت في المحافل الرسمية، بل تدخلت في مختلف قراراته الحكومية، وضمنها الأمنية والعسكرية
ذكر بن كاسبيت، مؤلف سيرة نتنياهو الذاتية، أنه يخشى منها لدرجة أنه يتحدث مع بعض وزرائه ومساعديه الذين لا يروقون لها وهو في "الحمام"؛ كي لا تسمعه، كما أن ابنه يائير له مكانة كبيرة في حياته، حيث بات يسمى تندُّراً "أبو يائير"، ولا يظهر كثيراً مع ابنته من زواجه الأول، وهي فتاة متدينة، ولا يشركها معه في لقاءاته العائلية أسوة بأخويها.
على الصعيد الأيديولوجي يعتبر نتنياهو علمانياً، لكنه في الوقت ذاته يستخدم مفردات توراتية تلمودية، ودأب في جميع تحالفاته الحكومية على اصطحاب المتدينين من الحاخامات وخريجي المدارس الدينية، مستعيداً في ذلك سيرة مؤسس الحركة الصهيونية تيودور هرتزل العلماني، الذي وظّف الصهيونية الدينية لتنفيذ مخططاته السياسية من خلال مؤتمر بازل التأسيسي في العام 1897.
السيرة الحكومية
تولى نتنياهو رئاسة الحكومة للمرة الأولى بين 1996-1999، عندما تفوق في عمر الـ47 على شمعون بيريز، وصار أصغر رئيس حكومة في تاريخ إسرائيل، لكنه بعد هزيمته أمام خصمه الجنرال إيهود باراك في 1999، أخذ استراحة من العمل السياسي ليعمل مستشاراً لشركة هايتك.
وما لبث أن عاد للعمل الحكومي عام 2002، وزيراً للخارجية في الحكومة التي ترأسها الجنرال الراحل أريئيل شارون، فوزيراً للمالية، وحين نفذ الأخير خطة الانسحاب من غزة في 2005، وانشق عن الليكود، وأسس حزب كاديما، وجد نتنياهو الطريق معبداً أمامه ليترأس الليكود وسط غياب أي منافس له. وفي انتخابات 2009، فاز فيها أمام منافسته وزيرة الخارجية السابقة تسيبي ليفني، وبقي رئيساً للحكومة بصورة متواصلة حتى العام 2021.
وحين أخفق نتنياهو في تشكيل حكومته الخامسة في 2021، عاد ليترأس المعارضة، لمدة عام ونصف العام، حتى أعيد انتخابه هذه المرة في جولة مبكرة خامسة بفوز فاجأ كل الأوساط الإسرائيلية، مما يجعله رئيس الحكومة الأكثر مكوثاً في موقعه، بما يتجاوز ديفيد بن غوريون ذاته، مؤسس الدولة، حيث زادت فترات ترؤسه للحكومة على ثلاثة عشر عاماً.
ملفات الفساد
أظهر أحد استطلاعات الرأي أن غالبية الإسرائيليين متيقنون من أنه شخصية سياسية فاسدة، وتسبب بتدمير مؤسسات إنفاذ القانون والقضاء والشرطة والتحقيق، وشراء ذمم كبار الصحفيين والكُتاب، وتوريط كبار رفاقه في قضايا فساد كي يبتزّهم، ويشتري سكوتهم عن مخالفاته القانونية، بل الإطاحة بكل من تتلوث سيرته بالفساد والرشاوى وخيانة الأمانة وتضليل المحققين، وهذه أربع جنايات اتهم بها نتنياهو، أطلق عليها الإسرائيليون ملفات "1000، 2000، 3000، 4000".
ورغم هذا التورط في قضايا الفساد، فقد حافظ نتنياهو على ما يمكن تسميتها "كاريزمته" الشخصية، مما تجلى في استطلاع للرأي العام الإسرائيلي أجري في يناير/كانون الثاني الماضي، وجاء فيه أن نتنياهو متورط في أعمال فساد لكنه لا يزال يتصدر رجال السياسة في إسرائيل من حيث التأييد الشعبي، وقد حصد على تأييد بنسبة 34%، مقابل 17% حصل عليها رئيس الحكومة المنتهية ولايته يائير لابيد، ولم يتجاوز التأييد لرئيس الحكومة السابق نفتالي بينيت 6%.
هذه الأرقام ربما تتعارض مع القناعات الإسرائيلية ذاتها التي تؤكد أن نتنياهو شخصية فاسدة، وأن التحقيقات التي أجريت بشأنه واقعية، وهناك قطاعات واسعة من الإسرائيليين لا يساورها الشك بأن عائلة نتنياهو تمارس نفوذها في الملفات السياسية والأمنية
ورغم ذلك لا يزال الرجل يتصدر قائمة الساسة الإسرائيليين الأجدر بقيادة الدولة، وهذه قد تكون معضلة تكشف عن تناقض في توجهات الإسرائيليين، لكنها في الحقيقة تشير إلى قدرة نتنياهو اللافتة على استغلال ما يصفها الإسرائيليون بـ"أزمة غياب جيل التأسيس"، بعد وفاة آخرهم وهم أريئيل شارون في 2014.
مع العلم أن نتنياهو في قيادته للدولة تفوّق على فترة الرئيس المؤسس لإسرائيل وهو ديفيد بن غوريون، بأكثر من خمسة آلاف يوم، من وجود إسرائيل البالغ 25981 يوماً، أي ما نسبته 20% من تاريخها، لكن المحافل الإسرائيلية تستدرك بالقول إن الأخير كان قاسيًا، براغماتياً، اشتراكياً، وعاش حياة مقتصدة، غير مبذر، أما نتنياهو فهو قاسٍ وبراغماتي، لكنه رأسمالي بشدة، ويعيش حياة رغيدة.
الأنا الكبرى
عاشت إسرائيل خلال سنواتها الأخيرة، لاسيما بين 2019-2022، حالة من الإرباك الحكومي والفوضى السياسية غير المسبوقة بسبب نتنياهو، ورغبته الجامحة في البقاء بصدارة المشهد السياسي، الأمر الذي دفع الإسرائيليين إلى خوض خمس جولات انتخابية خلال أقل من أربع سنوات، كلّفتهم، فضلاً عن خلافاتهم البينية وتجاذباتهم السياسية، مئات الملايين.
تركز الخلاف الأساسي بين الأحزاب الإسرائيلية على بقاء أو غياب نتنياهو، رغم أن معظمها اعتبر أنّ وضع حدّ لهذه الفوضى يتمثل بتنحّيه عن قيادة الليكود، وتولّي أي خليفة بدلاً منه، حينها ستجد هذه الأزمة السياسية طريقها إلى الاختفاء التدريجي، بل إن عدداً من زعامات الليكود ذاته لم يخفوا رغبتهم في أن "يُضحَّى" بزعيمهم مقابل استقرار الدولة.
وصلت حالة التماهي بين نتنياهو "الزعيم" وإسرائيل "الدولة"، إلى نموذج مكرر من لويس الرابع عشر القائل: "أنا الدولة، والدولة أنا"، وبات لا يرى في خصومه من الأحزاب الأخرى المنافسة، بل حتى من داخل الليكود، من هو أكثر جدارة بقيادة الدولة منه هو، وهو فقط!
يصعب إيجاد فروق ملموسة بين تطلعات نتنياهو الشخصية، ونظرته لمستقبل الدولة، على اعتبار أنه تقمص شخصية الزعيم الأوحد لها، والأكثر جدارة بقيادتها، وقدرة على إدارة شؤونها، والتعامل مع تحدياتها الداخلية والخارجية، مما جعل بعض الإسرائيليين يتهكّم عليه بالقول إنه أصيب بالعدوى من الزعماء العرب الذين يصادقهم من حيث طول فترة ولايته الرئاسية من جهة، ومن جهة أخرى ما يعيشونه من انتحال صورة الزعيم الملهم المبعوث من السماء، وبدونه فإن مصير الدولة إلى الزوال.
بمزيد من القراءة الموضوعية المجردة، فإن إجراء مسح متعمق للقادة الإسرائيليين المرشحين لقيادة الدولة، لا يمنحهم كثيراً من النقاط التي تجعلهم يتغلبون على نتنياهو، الذي استطاع بعد سنوات طويلة من الحكم أن يدفع الإسرائيليين إلى الاقتناع بأهليته للحكم.
كان ذلك رغم اعتقادهم بفساده، لكنه في ظل "شحّ" الزعامات والقادة، فإنهم يذهبون لاختياره مجدداً؛ لما أظهره من قدرة بنظرهم على قيادة الدولة وسط التحديات والتهديدات التي تعصف بها، رغم أن أداءه في كثير منها لم يكن على ما يرام.
هذا التماهي والتقمص وانتحال شخصية الدولة دفعت حتى رفاق نتنياهو إلى اتهامه بأنه حوّل حزب الليكود، بل الدولة بأسرها، إلى إمبراطورية خاصة سميت باسمه، ويجلس مثل فنان يدير الدمى على خيط، وكل من تجرأ على رفع رأسه، ولا يوافق على عظمة القائد وتصريحاته وطريقته، يتم التخلص منه على الطريق، لأن نتنياهو يجد نفسه مدعوماً بشهادة من المعجبين، الكفيلة بإسكات أي انتقاد ضده، ولا توجد طريقة لتغيير أي شيء هنا.
الصراع مع الفلسطينيين
منذ وصوله للحكم في المرة الأولى عام 1996، أظهر نتنياهو قناعة حقيقية بما لقّنه إياه والده المؤرخ، ومفادها أن حلّ الصراع مع الفلسطينيين ليس وارداً في هذه المرحلة التاريخية، مما دفعه إلى تبني فرضية أساسية تفيد بالانتقال إلى "إدارة الصراع، وليس حلّه"
الأمر الذي يعني التعامل مع الفلسطينيين بمنطق "المياومة" و"المفرّق"، وهو ما تجسد في بعض الاتفاقيات التي أبرمها مع السلطة الفلسطينية، لكنه حين أتى في حقبته الثانية منذ عام 2009 وحتى 2021، انتهج سياسة "السلام الاقتصادي"، القائمة على إمداد الفلسطينيين، لاسيما في الضفة الغربية، بالمشاريع الاقتصادية والتجارية، بعيداً عن أي آفاق سياسية، وعدم التعامل مع السلطة الفلسطينية باعتبارها كياناً سياسياً مقدمة لدولة، بل كجهاز إداري ينسق تلك المشاريع.
أما في قطاع غزة، فقد واجه نتنياهو سيطرة حماس عليه من خلال شن عدد من الحروب والعداوات في أعوام 2012، و2014، و2021، صحيحٌ أنه أسقط آلاف الشهداء والجرحى، لكنه لم يفلح في إسقاط حماس، والقضاء عليها، بل تقليص قدراتها العسكرية.
أكثر من ذلك، أجبرت حماس نتنياهو على إدخال المنحة القطرية المالية منذ انطلاق مسيرات العودة في مارس/آذار 2018، بما قيمته ثلاثون مليون دولار شهرياً إلى غزة، ورغم "معايرة" خصومه له بأنه خضع لـ"حماس"، وأدخل هذه الأموال بالحقائب إلى غزة، فإنه لم يتراجع عنها؛ خشية الدخول في مواجهة عسكرية جديدة مع الحركة التي قصفت للمرة الأولى تل أبيب في عهد نتنياهو.
اليوم لا يبدو أن نتنياهو بصدد التراجع عن سياسته هذه إزاء حماس، للأسباب السابقة نفسها، وفي الوقت ذاته للتفرغ لتحديات أمنية وتهديدات عسكرية أكثر خطورة على إسرائيل.
صدام الحلفاء مع بنيامين نتنياهو
انتهج الساسة الإسرائيليون منذ بداية تأسيس الدولة مدماكاً رئيسياً في سياستهم الخارجية يتمثل بالحفاظ على علاقاتهم الاستراتيجية مع حليفهم الأول والأهم والأكبر وهي الولايات المتحدة، ونادراً ما عارضت تل أبيب واشنطن في مواقفها السياسية، باستثناء محطات معدودة، لعل أبرزها رفض رئيس الحكومة الراحل إسحاق شامير الانضمام إلى مؤتمر مدريد للسلام مع الفلسطينيين والعرب في 1991، حتى أوقف الرئيس الأمريكي حينها جورج بوش الأب، ضمانات إنشاء مشاريع استيطانية، مما دفعه إلى الموافقة والعودة للمشاركة في المؤتمر.
تجدر الإشارة إلى أن نتنياهو كان حينها الناطق الإعلامي للوفد الإسرائيلي، ولعل رؤيته عن قرب لهذا "التحدي" الإسرائيلي للراعي الأمريكي، دفعته إلى محاكاة ما هو أصعب من سلوك شامير، حين أقدم على خطوة لم يفعلها أي رئيس حكومة إسرائيلية منذ العام 1948.
توجه حينها للكونغرس في 2015، وألقى خطاباً نارياً يهاجم فيه الاتفاق النووي الإيراني الذي كانت تهمّ واشنطن لتوقيعه مع طهران، مما أشعل أضواء حمراء في البيت الأبيض، ودفع الرئيس باراك أوباما، ونائبه آنذاك، الرئيس الحالي جو بايدن، إلى اعتبار ما أقدم عليه تجاوزاً لأعراف دبلوماسية معهودة بين هذين الحليفين.
فقد ظهرت أصوات إسرائيلية آنذاك تطالب نتنياهو وفريقه الدعائي بوقف التحريض ضد أوباما وإدارته، لأن محاولات تحويله عدواً لإسرائيل ترتكز على ادعاءات كاذبة حمقاء وعديمة المسؤولية ومدعاة لحدوث المصائب، بسبب قصر نظر نتنياهو، لكن إظهاره كشخص مُعادٍ لإسرائيل مسألة لا أساس لها، حتى لو شبّه معاناة اليهود في أوروبا بمعاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي.
منذ اليوم الأول لفوز أوباما في 2009، بدا أن رياح واشنطن لم تأتِ على ما يوافق سفن تل أبيب، ولعل وقف الحرب الأولى على غزة قبيل تنصيب الرئيس شكل أول الشواهد على ذلك، وهو ما تكرر، ويا للمفارقة! مع بايدن هذه المرة حين أجبر نتنياهو على وقف حرب غزة الأخيرة في 2021.
مضى أربعة أشهر على تنصيبه دون أن يتحدث ببنت كلمة معه، التاريخ ذاته يتكرر، مع نتنياهو مع رئيسين أمريكيين، دفع بايدن إلى بذل جهود لم تخفَ على أحد لعدم تمكين نتنياهو من الفوز مجدداً في الانتخابات الأخيرة، وهو ما كشفته مباحثات الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هرتسوغ مع أقطاب البيت الأبيض قبل أيام قليلة فقط من ذهاب الإسرائيليين لصناديق الاقتراع.
مع العلم أن أوساط البيت الأبيض ليست مرحبة بفوز نتنياهو ألبتة، وهو ما تجلى في اتصال وزير الخارجية أنتوني بلينكن مع رئيس الحكومة الخاسر يائير لابيد، وشكره على التعاون الثنائي خلال الشهور الخمسة الماضية من ولايته، دون أن يرنّ هاتف نتنياهو لاستقبال أي اتصال من واشنطن لتهنئته بهذا الفوز الكاسح، إلا بعد مرور ستة أيام على فوزه، مما حمل إشارات تصريحية أكثر من تلميحية، إلى أن هذا الفوز لم ينزل برداً وسلاماً على سيد البيت الأبيض ومساعديه.
الاستثناء الأمريكي مع نتنياهو جاء مع الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي بدا صهيونياً أكثر منه، سواء بمواقفه المؤيدة لإسرائيل على طول الخط، من خلال صفقة القرن، والتطبيع العربي الإسرائيلي، ومعاداة إيران بانسحابه من الاتفاق النووي، ووقوفه على يمين تل أبيب، مما شكّل ثنائيّاً خليطاً من المسيحية الصهيونية الذي لم يكتمل مع هزيمتهما في الانتخابات لديهما، لكن من يعلم فقد يعيد التاريخ دورته، فها قد عاد نتنياهو الذي سيسعى بكل ثقله، وبعلاقاته مع دوائر القرار والتأثير ومجموعات الضغط، لإعادة ترامب من جديد إلى البيت الأبيض.
لم تتوقف صدامات نتنياهو عند الأمريكان، بل امتد الأمر إلى الأوروبيين أنفسهم، الذين ضاقوا ذرعاً به، حتى أقدموا على تجميد مجلس الشراكة مع إسرائيل في 2012، بسبب سياساته التعسفية ضد الفلسطينيين، ولم يتم استئنافه إلا قبل أسابيع فقط أوائل أكتوبر/تشرين الأول، مما سيطرح تساؤلات عديدة حول مستقبل هذا المجلس، وإمكانية انفراط عقده في قادم الأيام في حال عاد نتنياهو لسياسته القديمة تجاه الفلسطينيين، وهو ما بات في شبه المؤكد.
وصلت صدامات نتنياهو إلى الجار الشرقي لفلسطين حيث الأردن، الذي ارتبط بعلاقات تاريخية وثيقة مع جميع القادة الإسرائيليين باستثناء نتنياهو الذي أمعن في توتير العلاقات معها، سواء بسبب نظرة الليكود التقليدية إلى الأردن باعتباره "الوطن البديل" للفلسطينيين، أو تقليص تمويل الأونروا التي تشرف على إعانة ملايين اللاجئين الفلسطينيين في الأردن.
كانت إهانة كبيرة برأي الأردنيين تمثلت في استقبال نتنياهو لحارس السفارة الإسرائيلية الذي قتل اثنين من الأردنيين، بـ"الأحضان"، وقد تلقى القصر الأردني هذا الاستقبال بكثير من الحدّة والغضب، لأن مكان هذا القاتل هو السجن، وليس منزل رئيس الوزراء، حتى تبين لاحقاً أن من أشار على الأخير بهذه الوصفة غير الدبلوماسية ألبتة، هو ابنه يائير، ولا أحد سواه، حتى شكلت ذروة التوتر الأردني الإسرائيلي، ولم يعد سراً أن الملك ومساعديه اليوم ليسوا في أحسن أحوالهم مع عودة نتنياهو.
جمع المتناقضين
منحت السيرة الذاتية لنتنياهو القدرة على أن يمتلك في هاتفه الشخصي أرقام هواتف للعشرات من الرؤساء ورؤساء الحكومات ووزراء الخارجية على مستوى العالم، سواء منذ عمله مندوباً في الأمم المتحدة، أو ترؤسه للحكومة طوال أكثر من ثلاثة عشر عاماً، وضمن ذلك عمله وزيراً للخارجية خلالها، ولم يمنح أياً من وزرائه هذا الموقع، بجانب ترؤسه للحكومة.
تجلى ذلك أكثر ما يمكن في تدشين نتنياهو لعلاقات استراتيجية وثيقة ومتينة مع الهند والصين على حد سواء، فالحديث يدور عن دولتين جارتين متناقضتين، ويمكن القول إنهما متعاديتان، بانتمائهما إلى محورين مختلفين، وتتبنيان سياستين أبعد ما يكونان عن التوافق، حتى جاء نتنياهو واستطاع إقامة علاقات بهذه المتانة بينهما، وفي الوقت ذاته.
اللافت أن البعد الشخصي كان حاضراً في علاقات نتنياهو مع الهند مثلاً، من خلال نظيره الهندي مودي، حيث امتلكا تماثلاً في العديد من المفاهيم والرؤى، وضمنها الدينية أيضاً، فالقوميتان الصهيونية والهندية اقتربتا من بعضهما البعض بصورة وصلت لذروتها بالزيارات المتبادلة بين نتنياهو ومودي إلى دلهي وتل أبيب.
وقفزت علاقاتهما لتشمل صفقات عسكرية وأمنية، وتورطاً إسرائيلياً في عدوان الهند على إقليم كشمير من خلال تزويدها بالمعدات التسليحية التي تستخدمها ذاتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
لم يمنع هذا التقدم في العلاقات الإسرائيلية مع الهند نتنياهو من تطوير العلاقات مع الصين، لاسيما على صعيد الصفقات التقنية وعالم التكنولوجيا، وضمن ذلك العسكرية والأمنية، حتى وصل الأمر إلى استفزاز الحليف الأكبر، حتى في عهد ترامب صديق نتنياهو.
رغم أنه في العامين الأخيرين منذ وصول بايدن للحكم حازت العلاقات الإسرائيلية الصينية قلقاً بالغاً لدى إدارته؛ مما دفعه لإيفاد مبعوثيه إلى تل أبيب لبحث هذه المسألة، ومطالبتها بكبح جماح علاقاتها مع بكين، ومن ضمنهم وزير الخارجية أنتوني بلينكن ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان ورئيس الـ"سي آي إيه" وليام بيرنز، لاسيما بعد أن حددت الاستراتيجية الأمريكية الصين باعتبارها عدوها المركزي، ربما أكثر من روسيا، ومع ذلك واصل نتنياهو علاقته بالصينيين رغم غضب حلفائه الأمريكيين منه.
اليوم في عهده الجديد، لا يبدو أن نتنياهو بصدد التراجع عن مدّ علاقاته، بل تطويرها مع الصين، بإيجاد معادلة دقيقة تحافظ على علاقاته الاستراتيجية مع واشنطن، وفي الوقت ذاته لا يفرط في مكاسبه التجارية والاقتصادية مع بكين، رغم أن ذلك قد يلحق به توترات مستعادة مع إدارة بايدن، لكنه ليس بوارد التضحية بعلاقات بدأت مع الصين قبل قرابة ثلاثين عاماً.
صديق الدكتاتوريين
أظهر نتنياهو قطيعة مع عدد من الأنظمة الإقليمية والدولية، لكنه في الوقت ذاته نسج علاقات وثيقة مع أنظمة ظلامية في إفريقيا حيناً، وبعض الدول العربية حيناً آخر، ومع اليمين الأوروبي حيناً ثالثاً، وقد بدا واضحاً أن الجولة الانتخابية الأخيرة لم تقتصر على الإسرائيليين، بل وصلت أصداؤها لعدد من الدول العربية والإسلامية، على أمل استمرار التعاون مع نتنياهو لتقوية علاقاتهما.
وليس سرّاً أن عدداً ليس قليلاً منها تنفست الصعداء حين اتضحت النتائج النهائية للانتخابات، ربما لأنها تعلم أن نتنياهو يمتلك المفتاح السحري للرضا الأمريكي عنها، خاصةً أن بعض هذه الأنظمة تعيش حالة من عدم الاستقرار، وتعج بالفوضى، وغارقة في المشاكل، ولعل الحديث يدور عن مصر والسعودية والسودان وعدد من دول الخليج، ولعل علاقاته المريبة مع هذه الأنظمة دفعت يوفال ديسكين، الرئيس الأسبق لجهاز المخابرات الداخلية الإسرائيلي "الشاباك"، لتأكيد أن "نتنياهو شخصية جبانة، وبسببه فقدت الدولة بوصلتها، وأصبحت فاقدة للطريق، ولا تمتلك رؤية واضحة وأيديولوجيا محددة، وتفتقد للزعامة، وهذا مخيب للآمال".
الخطيب "الكاذب"
نتنياهو خطيب مفوّه، ويتحدث عدة لغات، وغالباً ما كان يلفت أنظار الحضور، لاسيما في المنصات الدولية، خاصةً على منابر الأمم المتحدة والكونغرس والاتحاد الأوروبي، وهو يميل عادة إلى الاستعراض، والاستعانة بلوحات إرشادية للفت الأنظار، ولعل ذلك جزء من شخصيته الإعلامية الدعائية، ويغلب عليه المبالغة والتضخيم، بجانب حالة التكبر التي يمتاز بها، لكن اللافت أن التصفيق لا يأتي له إلا من خلال المكان الذي يجلس فيه الوفد الإسرائيلي فقط.
لكن هذه الملكة في الخطابة لم تمنع الرئيس الفرنسي الأسبق، نيكولا ساركوزي، من نعته في 2011 بـ"الكاذب" خلال حديث منفرد مع الرئيس أوباما، قائلاً: "لم أعد أحتمل رؤيته، إنه كاذب"، حينها رد أوباما بالقول: "أنت سئمت منه، لكن أنا عليّ التعامل معه كل يوم"، فيما وصفه وزير الأمن الإسرائيلي، بيني غانتس، بأنه "كذّاب، ويعرّض إسرائيل للخطر، وغير قادر على أن يقول شيئاً حقيقياً"، أما زعيم "الصهيونية الدينية" بيتسلئيل سموتريتش، شريكه الأقرب، فوجه إليه سباباً قاسياً، ووصفه بأقذع الألفاظ، معتبراً أنه "كاذب، وابن كاذب".
الصفة الملازمة لنتنياهو هي أنه يكذب، غافي فايمان أستاذ الإعلام بجامعة حيفا، ذكر أن نتنياهو وفريقه يستعينون لتبرير كذبه بعبارة الزعيم السوفييتي الشهير لينين وهي أن "الكذبة مبررة وفقاً لغرضها"، أو ما زعمه يتسحاق شامير أحد معلمي نتنياهو ورئيس الحكومة الراحل، بالقول إنه "من أجل إسرائيل يجوز الكذب"
لكن أكاذيب نتنياهو لا يبدو أنها لصالح الدولة، بل من أجل بقائه في السلطة، وثمنها أنها تهدد الدولة ذاتها، وتحرّض بين الإسرائيليين، وتقسّمهم، وتعرّض استقرار المجتمع والنظام السياسي للخطر، ورغم أن أرسطو سبق أن حذّر من أنه "لا أحد يصدق كاذبًا حتى عندما يقول الحقيقة"، لكن الإسرائيليين خالفوه عندما صدقوا نتنياهو الكاذب الأكبر!
رؤية استشرافية
الآن، وقد بدأ نتنياهو يشق طريقه نحو تشكيل حكومته السادسة، وهي الحكومة الإسرائيلية الـ37، ولديه شبكة أمان برلمانية مكونة على الأقل من 64 عضو كنيست من أصل 120، وربما تزيد على 70 مقعداً إن قام بتدوير بعض الزوايا، فإن أمامه جملة من التحديات التي قد ينجح في تخطيها والتعامل معها في ضوء خبرته الطويلة السابقة طوال أكثر من ثلاثين عاماً في العمل الحكومي، نصفها تقريباً قضاها في رئاسة الحكومة.
أول التحديات أن شريكه الأساسي في الائتلاف المقبل هو حزب الصهيونية الدينية الذي يتزعمه الثنائي اليميني المتطرف بيتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، وقد حازت كتلتهما الانتخابية 14 مقعداً، لتصبح القوة البرلمانية الثالثة، ولتشكل بالفعل مفاجأة الانتخابات الخامسة والعشرين في تاريخ الدولة، وهذا الحزب، بما يحمله من أفكار متطرفة ومواقف يمينية فاشية سيشكل عقبة كأْداء في تسويق حكومة نتنياهو أمام الرأي العام العالمي عموماً، والأمريكي خصوصاً، وقد أرسلت إدارة الرئيس بايدن رسائل تلميحية وتصريحية بأنها لن تتعامل مع وزراء هذه الكتلة البرلمانية، في حال أصبحوا وزراء، وسيصبحون كذلك.
لكن التغذية الراجعة التي يحوزها نتنياهو تشير الى أنه قد يكون قادراً على استيعاب هذه التوجهات اليمينية للصهيونية الدينية، من خلال إجبارها على التراجع عن بعض شعاراتها الانتخابية، على اعتبار أن ما يقال في الحملات الانتخابية لا يصلح للترجمة على أرض الواقع، فضلاً عن إرضائه لهم في بعض القضايا الإسرائيلية الداخلية التي قد لا يكون لها تأثير مباشر على التعامل مع السياسة الدولية.
وربما يذهب نتنياهو بعيداً باستبدال هذه الكتلة البرلمانية بالجنرالات السابقين من حزب "المعسكر الوطني" ممثلين بوزير الحرب الحالي بيني غانتس وقائد الجيش السابق غادي آيزنكوت، صحيحٌ أنهما يبديان تمنّعاً أولياً عن الانضمام إلى نتنياهو، لكن لعله بعد أن يجفّ حبر برنامجهم الانتخابي يعيدان النظر في مواقفهما، إن قدم لهما مواقع وزارية يسيل لها لعابهما!
عند الحديث عن مستقبل سياسة حكومة نتنياهو القادمة تجاه الفلسطينيين، فإن غالبية التقديرات تذهب باتجاه مزيد من التطرف والقمع والتعسف ضدهم، ولعل المواقف الأولية ظهرت مع تهديد "بن غفير"- في حال توليه وزارة الأمن الداخلي- بتشديد إجراءات اعتقال الأسرى الفلسطينيين.
فضلاً عن زيادة معدلات اقتحام المسجد الأقصى، وإجلاء مزيد من عائلات الفلسطينيين من حي الشيخ جراح، بجانب رفع مستوى ملاحقة "الوطنيين" من فلسطينيي 48، واعتبارهم "طابوراً خامساً" في الدولة لخدمة فصائل المقاومة الفلسطينية، وكل هذه الإجراءات من شأنها أن تسرّع من اندلاع موجة شعبية فلسطينية، بالتزامن مع مواصلة هجمات المقاومة الجارية منذ مارس/آذار الماضي.