اللحوم للأغنياء! والفقراء يتخذون البيض بديلاً.. كيف يتعامل المصريون مع أزمات الغذاء المتفاقمة؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/10/27 الساعة 10:49 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/10/27 الساعة 11:57 بتوقيت غرينتش

لم يعد الذهاب إلى محل الجزارة أمراً معتاداً أو هدفاً سهل المنال بالنسبة لمحمد عادل، وهو رب أسرة يعمل في إحدى الشركات الحكومية العامة، والسبب يرجع لأن راتبه الذي لا يتخطى 5000 آلاف جنيه لا يكفي لتدبير تكاليف الحياة اليومية لأسرته، المكونة من خمسة أفراد، ولديه ثلاثة أبناء في مراحل التعليم المختلفة، ما جعله يعتمد على بدائل أخرى لا تجعله بحاجة لأن يقترض أو يستلف مزيداً من الأموال قبل نهاية كل شهر للوقوف في وجه أزمات الغذاء المتفاقمة.

يعمل عادل، البالغ من العمر 52 عاماً، في شركة مطاحن ومخابز شمال القاهرة، وهي إحدى الشركات الحكومية التي قاربت على تصفية العاملين فيها أو طرحها للبيع، كغيرها من شركات القطاع العام؛ ما يجعل موظفيها يعانون من مشكلات عدم زيادة رواتبهم لسنوات طويلة.

زيادات الحد الأدنى للأجور لا تكفي لحل أزمات الغذاء

حركت الحكومة المصرية الحد الأدنى للأجور للعاملين في الدولة بنسبة 125% على مدار الأعوام الثمانية الماضية، حيث زاد من 1200 جنيه (62.64 دولار أمريكي) عام 2014 إلى 2700 جنيه (141 دولاراً أمريكياً) في 2022، لتصل القيمة الإجمالية للزيادات حتى الآن إلى نحو 1500 جنيه (75 دولاراً أمريكياً).

على مدار ثلاث سنوات ماضية لم يحصل الموظف على زيادة سوى 500 جنيه، أي 10% من إجمالي راتبه البالغ 5000 جنيه، في حين أن أسعار السلع تضاعفت أكثر من مرة خلال تلك المدة، ويشير إلى أن سعر اللحوم قبل ثلاث سنوات كان يتراوح ما بين 120 إلى 140 جنيهاً، والآن وصل إلى 220 جنيهاً، أي بزيادة قدرها أكثر من 60%، وبالتالي هناك فجوة يصعب التعامل معها.

يؤكد الموظف ذاته أنه كان يلجأ إلى الاستعانة بالمجمدات قبل زيادة أسعارها هي الأخرى، وفي كثير من الأحيان كانت تتكون وجبة الغداء الرئيسية من البروتين، متمثلاً في كبدة الدجاج، إلى جانب البيض، مع بعض النشويات، سواء أكانت أرزاً أو مكرونة، واللحوم المفرومة المجمدة التي تباع في منافذ تابعة لوزارة الزراعة بأسعار مخفضة، أو سيارات تابعة للجيش والشرطة.

لكن الأزمة تكمن في شحّ اللحوم المستوردة هي الأخرى، والمتوفرة تزداد أسعارها كل يوم تقريباً. 

اللحوم خارج اهتمامات الطبقات المتوسطة والفقيرة

لم يختلف الوضع كثيراً بالنسبة لحسن أحمد، وهو موظف يعمل بإحدى الهيئات التابعة لوزارة الصحة المصرية، يقول لـ"عربي بوست"، إن اللحوم لم تعد ضمن اهتماماته من الأساس، فهناك حاجات معيشية أخرى مثل التعليم، والحصول على خدمة صحية لائقة، والقدرة على دفع إيجار شقته الذي يزيد بمعدل 10% كل عام، وغيرها من أساسيات الحياة، مقدمة على الغذاء.

لدى حسين البالغ من العمر 45 عاماً أربعة أبناء، ثلاثة منهم في مراحل التعليم المختلفة، ولا يتجاوز راتبه 4300 جنيه، مع الزيادات الأخيرة التي أقرتها الحكومة على هياكل الأجور والرواتب، أكتوبر/ تشرين الأول الجاري مشيراً إلى أنه يضطر للعمل في فترة مسائية بائعاً في أحد محالّ الملابس، كما أن زوجته تبيع مستحضرات تجميل عبر صفحة خاصة بها على مواقع التواصل الاجتماعي، ومع ذلك فإن الجزء الأكبر من الدخل الشهري الذي يصل أحياناً إلى 10 آلاف جنيه يذهب لفاتورة الدروس الخصوصية.

تعد الدواجن المجمدة بديلاً مناسباً لأسرة حسين، لكنه يقول إنها هي الأخرى ارتفع سعرها، ويكتفي بشراء دجاجتين، حتى تكون حاضرة على المائدة مرتين خلال الأسبوع، وفي باقي الأيام تكون البقوليات بأنواعها طعامهم، مثل العدس والفول والفلافل، وكذلك النشويات، وفي القلب منها الخبز، وفي بعض الأحيان بيض المائدة الذي تقلّص وجوده أيضاً مع ارتفاع أسعاره، إلى جانب أنواع مختلفة من الخضراوات، وكذلك أكياس "الإندومي"، وهي عبارة عن شعيرية يصل سعر الكيس منها إلى ثلاثة جنيهات.

حين كان يحصل حسين على راتب لا يتجاوز 2000 جنيه قبل 10 سنوات، وكان يصل دخل أسرته الشهري إلى 5000 جنيه، كان يستطيع أن يشتري كيلو اللحم البلدي على الأقل مرتين خلال الشهر، وكان سعر الكيلو في ذلك الحين يتراوح ما بين 50 إلى 60 جنيهاً، فيما كان سعر اللحوم المستوردة لا يتجاوز 35 جنيهاً للكيلو، مشيراً إلى أن دخله في العام 2012 كان يساوي 100 كيلوغرام من اللحوم البلدية، أما الآن حينما وصل دخله الشهري إلى 10 آلاف جنيه فإنه يساوي فقط 45 كيلوغراماً من اللحوم البلدية، التي تباع لدى أغلب الجزارين بسعر يصل إلى 220 جنيهاً.

البقوليات والنشويات على رأس القيم الغذائية بمائدة المصريين

ووفقاً لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، تراجَعَ نصيب المواطن المصري من اللحوم الحمراء من 10.7 كيلوغرام في عام 2017 إلى 7.8 كيلوغرام في عام 2020، بينما ارتفع نصيب الفرد من اللحوم البيضاء والدواجن من 10 كيلوغرامات في عام 2017 إلى نحو 15.2 كيلوغرام في عام 2020.

لدى حسين قناعة بأن ارتفاع أسعار الغذاء جعله يستغني في كثير من الأحيان عن توفير القيم الغذائية التي يحتاجها أبناؤه، ويكتفي بتناول ما باستطاعته، ويكون مضطراً لأن تكون وجبة الإندومي حاضرة على مائدة وجبة الغداء، بالرغم من أضرارها السلبية التي يتحدث عنها الكثيرون، لكن توفيرها إلى جانب رغيف من الخبز لكل طفل يكون أمراً متاحاً في أيام الشهر الأخيرة قبل وصول الراتب الجديد.

ارتفعت أسعار اللحوم البلدية والمستوردة بالأسواق المصرية، بنسبة 10%، خلال الأيام الماضية، بسبب ارتفاع تكلفة النقل والأعلاف، ما دفع إلى ركود الأسواق بسبب التراجع الحاد في الشراء من الطبقتين المتوسطة والفقيرة، وفقاً لتقديرات شعبة الجزارين، وتراوحت أسعارها ما بين 195 جنيهاً إلى 220 جنيهاً للكيلوغرام الواحد، على حسب نوعية اللحوم المباعة، وكذلك المناطق التي تباع فيها.

ويُقدّر مصدر مطّلع بشعبة الجزارين التراجعَ في معدلات بيع اللحوم بـ60% خلال الشهرين الماضيين، ويُرجع ذلك إلى الارتفاعات المضطربة في أسعار مختلف السلع، وارتفاع معدلات التضخم التي أثرت بشكل مباشر على القدرات الشرائية للمواطنين من أبناء الطبقات الوسطى والفقيرة، دون أن تتأثر الطبقات الغنية بالأمر.

ويشير إلى الأسواق تعاني بشكل عام حالة من الركود، وهناك حاجة لزيادة أكبر في الأسعار، بسبب ارتفاع تكاليف العلف والنقل، وكذلك الطفرات الأخرى في كلفة الإنتاج، وصعوبة الحصول على الدولار لشراء الأعلاف اللازمة لتربية العجول، لكنْ هناك تخوف لأن يؤدي ذلك لمزيد من الركود، وفي تلك الحالة قد نضطر لغلق المحالّ والمزارع الصغيرة، مشيراً إلى أن استيراد اللحوم يواجه أيضاً مشكلات في الوقت الحالي بسبب شح الدولار، وهو ما يقلّص فرص المكسب لدى التجار.

ويستهلك المصريون ما يزيد على 1.2 مليون طن لحوم حمراء سنوياً، تتنج مصر منها نحو 40%، وتسد الفجوة الاستهلاكية باستيراد باقي الكمية من خارج البلاد.

موظفو القطاع الخاص أمام أزمات مضاعفة

وتكشف إحصاءات منظمة الزراعة والأغذية الدولية "فاو" عن فجوة كبيرة في استهلاك اللحوم بين المصريين، إذ يبلغ نصيب الفرد نحو 28 كيلوغراماً من اللحوم سنوياً، بينما يصل المعدل العالمي للفرد إلى نحو 42 كيلوغراماً.

لا تقف الأزمة في مصر عند موظفي الهيئات الحكومية، الذين لا تتخطى نسبتهم حاجز الـ20% من إجمالي قوة العمل في مصر، إذ إن هناك 24 مليون موظف من إجمالي 29 مليوناً و358 ألف شخص، وفقاً لإحصاءات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، يعملون في القطاع الخاص الذي لم تطبق هيئاته قرارات الحد الأدنى من الأجور الأخيرة وما قبلها، بل إن بعض الشركات تقف عند حد أدنى يصل فقط إلى 1500 جنيه.

أصبح من الصعوبة أن يوفر محمود حمدي- وهو موظف بإحدى شركات الأجهزة الكهربائية الخاصة ولا يتجاوز راتبه الثلاثة آلاف جنيه رغم أنه يعمل بالشركة منذ ثماني سنوات- أنواعاً عديدة من البروتين، وليس اللحوم فحسب، إذ إن الدواجن أيضاً أضحت من المحظورات، بعد أن ارتفعت أسعارها إلى 45 جنيهاً للكيلوغرام الواحد، وكذلك بيض المائدة، بعد أن تخطّى سعر البيضة الواحدة حاجز الثلاثة جنيهات، وكذلك أنواع مختلفة من الجبن، التي ارتفعت أسعارها بصورة كبيرة، ووصولاً إلى الألبان التي يشتريها على حسب حاجة طفليه (ثلاث سنوات وخمس سنوات).

ويشير إلى أنه يجد صعوبة في توفير القيم الغذائية التي تمنع إصابة أبنائه بنقص الكالسيوم، وفي الوقت ذاته لا يستطيع توفير ثمن أدوية الفيتامينات التي تضاعفت أسعارها خلال الأشهر الأخيرة، واعتماده الأساسي على البقوليات والنشويات والحديد المتوفر في العديد من الخضراوات، ومع ذلك فإن فاتورة الغذاء الشهرية التي تصل إلى 2000 جنيه، وهي قيمة راتب زوجته، التي تعمل بإحدى المدارس الخاصة، لا تكفي لتوفير الاحتياجات.

يبحث حمدي وغيره من ملايين المصريين عن الأماكن التي توفر السلع الأساسية بأسعار مخفضة، ودائماً ما تحظى السلاسل المنتشرة في مناطق شعبية بإقبال من جانب المواطنين الذين يبحثون عن توفير أي جنيه يمكن استغلاله في خدمات أخرى تضاعفت أيضاً مع اتجاه الحكومة المصرية لخفض ميزانية الدعم بوجه عام.

زيادة مضطربة في أسعار السلع الرئيسية.. الفول والسكر على رأسها

لكن هؤلاء يصطدمون الآن بزيادات مضطربة في الأسعار، تُرغمهم على التقشف حتى مع السلع الأساسية التي اتسمت في السابق بانخفاض سعرها، مثل الفول، الذي شهد ارتفاعاً ملحوظاً في سعر الطن منه، ووصل إلى 22 ألف جنيه، بعد أن كان قبل خمس سنوات فقط بـ7500 جنيه للطن الواحد، إلى جانب السكر، الذي وصل سعر الطن منه هذا الشهر إلى 16 ألف جنيه، بعد أن كان سعر الطن في ذروة ارتفاعه بالعام 2017 مع الأزمة الشهيرة آنذاك بـ8500 جنيه للطن.

يُذكر أن شهر سبتمبر/أيلول الماضي، شهد أعلى معدلات التضخم خلال سنوات الأربع الماضية، وتجاوز حاجز 15% خلال شهر سبتمبر/أيلول 2022، مقارنة بمعدل 14.6% خلال أغسطس/آب، ويتوقع أن يواصل مساره التصاعدي.

أظهرت بيانات للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر، أن التضخم السنوي لأسعار المستهلكين في المدن المصرية سجّل أعلى مستوياته في نحو أربعة أعوام، عندما سجل 15.7% في العام 2018.

وأوضح الجهاز أن أهم أسباب هذه الزيادة يرجع إلى ارتفاع أسعار مجموعة اللحوم والدواجن بنسبة 1.8%، وارتفاع مجموعة الألبان والجبن والبيض بنسبة 4.4%، فضلاً عن ارتفاع مجموعة الخضراوات بنسبة 6.2%، ومجموعة الدخان بنسبة 3.5%، ومجموعة السلع والخدمات المستخدمة في صيانة المنزل بنسبة 3.7%.

نقص الأرز يُنذر بأزمة شح غذائي مع نقص الدولار وتراجع قيمة الجنيه

وبالإضافة إلى ارتفاع الأسعار، فإن مشكلات شح السلع الأساسية تبدو واضحة، تظهر تجلياتها في الأزر، الذي اختفت بعض أنواعه من السوق خلال الأيام الماضية، إثر الأزمة التي نشبت بين الحكومة، التي فرضت تسعيرة جبرية لبيعه إلى المستهلك، بواقع 15 جنيهاً للكيلوغرام بحد أقصى، وبين عدد من الشركات المصرية، التي توقفت عن طرح الأرز المعبأ في الأسواق، وسحب منتجاتها من المحالّ والسلاسل التجارية.

ونشرت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية، تقريراً تحدثت فيه عن تزايد صعوبات المصريين في الحصول على الأدوية والجبن والأجهزة الأوروبية، حيث تقيّد الحكومة الواردات للاحتفاظ باحتياطياتها من العملات الأجنبية، رداً على ارتفاع قيمة الدولار الأمريكي.

ويجتاح نقص الأدوية والملابس والمواد الغذائية مصر؛ إذ تعد القاهرة من بين أكثر الدول تعرضاً للصدمات التي يشعر بها العالم، بسبب ارتفاع قيمة الدولار الأمريكي، والاضطرابات الناجمة عن الحرب في أوكرانيا، وفق التقرير. والسبب الرئيسي بحسب اقتصاديين أن الحكومة تضع عقبات أمام الواردات، في محاولة لتخزين احتياطياتها المتضائلة من العملات الأجنبية، بحسب ما ذكرت الصحيفة.

وتشير إلى أن مصر تحتاج إلى دولارات أمريكية لسداد نحو 158 مليار دولار من الديون الخارجية في السنوات المقبلة، لشراء الحبوب التي تشتد الحاجة إليها في الأسواق الدولية.

تحميل المزيد