تشهد الضفة الغربية منذ أسابيع تصعيداً أمنياً إسرائيلياً، يُترجم على شكل اقتحامات يومية وحصار مشدد فرضه الجيش الإسرائيلي على مدن ومخيمات نابلس وجنين وشعفاط في القدس المحتلة لليوم التاسع على التوالي.
وأقر وزير الدفاع بيني غانتس أن نصف قوات الجيش من المشاة تتمركز حالياً في مناطق شمال الضفة الغربية، ويعكس هذا الإقرار من رأس الهرم في إسرائيل بصعوبة الحالة الأمنية السائدة، التي لم تشهدها الضفة الغربية منذ سنوات انتفاضة الأقصى قبل عقدين من الآن.
كما أقر قادة الجيش بأنهم يعانون صعوبة في احتواء الوضع الراهن في مدينة نابلس على وجه الخصوص، فبالرغم من فرض حظر التجوال على المدينة، وتقييد حرية الحركة لما يزيد عن 400 ألف فلسطيني، في واحدة من أكبر المدن الفلسطينية، لم تتوقف عمليات إطلاق النار التي تتبناها جماعة "عرين الأسود"، التي أدت لمقتل 4 جنود إسرائيليين خلال الشهر الأخير.
أدى الواقع الجديد الذي تشهده الضفة الغربية إلى حالة من الارتباك داخل المؤسسة السياسية والعسكرية التي تجد صعوبة في تقدير الموقف الراهن، وكيفية التعامل معه، خصوصاً في هذه الفترة التي تستعد فيها إسرائيل لإجراء انتخابات الكنيست مطلع نوفمبر/تشرين الثاني 2022.
خلافات بين كوخافي وغانتس
شهدت الساحة الإسرائيلية سجالاً داخلياً من نوع آخر، فبعد أن أعلن قائد الأركان أفيف كوخافي عن منح قواته الضوء الأخضر لاستخدام الطائرات المسيرة لتنفيذ عمليات اغتيال ضد الناشطين الفلسطينيين، سارع وزير الدفاع بيني غانتس لنفي الموافقة على هذا الإجراء.
وقال غانتس إن رئيس الأركان ليس مخولاً بتنفيذ عمليات اغتيال، فهذا ليس من صلاحياته، أنا وزير الدفاع وأنا المسؤول عن أي إجراء بهذا الخصوص.
يعكس هذا السجال الذي يُسجل كسابقة في تاريخ إسرائيل الحديث، بين قائد الأركان ووزير الدفاع حالة من الارتباك في تقدير الموقف بشأن ما يجري على الأرض، كما يعبر عن فشل من قِبل مؤسسة الاستخبارات العسكرية بشأن تنبؤاتها وتوقعاتها لمستقبل الضفة الغربية، وهل يمكن احتواؤه خلال وقت قصير.
كوخافي تحت الضغط
وفقاً لمايكل ميلشتاين، رئيس منتدى الدراسات الفلسطينية بمركز دايان في جامعة تل أبيب، في مقاله للقناة الـ12 العبرية، فإن تهديد كوخافي بالتلويح بخيار الطائرات المسيرة، يأتي من منطلقات عسكرية بحتة.
وأضاف المتحدث أن مؤسسة الجيش تخشى من أن ينتقل نموذج حرب العصابات التي تقوم بها جماعة "عرين الأسود" إلى مناطق أخرى، وبالتالي سيضطر الجيش للدخول في معركة استنزاف طويلة لن يكون مستعداً لها.
اعتبار آخر ينظر إليه كوخافي من منطلقات شخصية، وهو تسجيل إنجاز عسكري يسجل في سيرته الذاتية، خصوصاً أن ولايته قد شارفت على الانتهاء، مطلع يناير/كانون الثاني 2023، تكرار لنموذج سلفه قائد الأركان غادي آيزنكوت حينما أطلق عملية "الدرع الشمالي"، لتدمير أنفاق حزب الله في الأيام الأخيرة لولايته، في ديسمبر/كانون الأول 2018.
إبراهيم حبيب، أستاذ الدراسات الأمنية في أكاديمية فلسطين للعلوم الأمنية بغزة قال لـ"عربي بوست" إن "كوخافي يتعرض لضغط كبير، فهو يدرك أن استنفار نصف قواته وانتشارهم على بقعة جغرافية تزيد عن 6 آلاف كيلومتر مربع في الضفة الغربية، يعني الدخول في حرب استنزاف طويلة، لن يكون الجيش في وضع يسمح له بالاستمرار بهذه الوتيرة من القتال لفترة أطول، دون ابتكار أساليب جديدة، لأن السياسة المتبعة حالياً من الاقتحامات المركزة أثبتت فشلها".
وأضاف المتحدث: "يرى كوخافي أن مسألة تكرار نموذج "عرين الأسود" في نابلس، وانتقالها لمدن ومناطق أخرى، يعني فقدان السيطرة الأمنية الإسرائيلية على خاصرة إسرائيل الضعيفة، وبالتالي سيكون قرابة نصف مليون مستوطن رهينة بيد المقاومة، ما سيترتب عليه ارتدادات ونتائج ستضر بالأمن القومي الإسرائيلي".
حسابات غانتس ومعركة الانتخابات
ظهر وزير الدفاع بيني غانتس في مقابلته في استوديو موقع Ynet وهو بارد الأعصاب، حينما حاول تشخيص الحالة الأمنية في نابلس، بالإشارة إلى أن ظاهرة "عرين الأسود" ستنتهي قريباً.
وقال غانتس إنهم "بضع عشرات من المسلحين لا يزيد عددهم عن 25 مقاتلاً، وبالتالي نحن نراقبهم ونتابع تحركاتهم، رغم أن الجيش كان قد أقر بتسجيل أكثر من 800 نقطة اشتباك خلال الشهر الأخير تركزت في مدن نابلس وجنين.
إلا أن ما جاء في تصريحات غانتس كان رداً على اتهامات من المعارضة، وتحديداً من بنيامين نتنياهو، الذي اتهم الحكومة الحالية بأنها منهارة وغير قادرة على منح الأمن لمواطني إسرائيل، وبالتالي حاول غانتس طمأنة الشارع الإسرائيلي عبر هذه الادعاءات، لضمان فرصه في الفوز بانتخابات الكنيست القادمة.
يفترض غانتس أن اللجوء لاستخدام الطائرات المسيرة يعني انعدام وفشل خياراته، وإقراراً منه بعدم قدرة الجيش على مواجهة ما يجري على الأرض، وبالتالي سيخفض الجيش من نشاطه العملياتي، عبر أسلوب الاقتحامات اليومية والاكتفاء بالضربات الجوية.
ويسعى غانتس إلى تضليل الرأي العام، فبالرغم من رفضه الإقرار بوجود نشاط للطائرات المسيرة في الضفة الغربية، فإن الحقيقة على الأرض تشير عكس ذلك، إذ أكد مواطنون من مخيم حوارة في نابلس لـ"عربي بوست"، أن الطائرات المسيرة لا تفارق المدينة، وهي تعمل على مدار الساعة ليل نهار، وهذه الطائرات تكون مرافقة لجنود الجيش على علو منخفض أثناء نشاطهم الأمني داخل المدينة.
عصمت منصور، الخبير في الشؤون الإسرائيلية، من مدينة نابلس، قال لـ"عربي بوست": إن "هنالك رغبة من غانتس بعدم إظهار الأمور بأنها خارج السيطرة، وهي سياسة ذكية منه لأن عدم إقراره بوجود نشاط للطائرات المسيرة في الضفة الغربية يعني منح نفسه وسياسته الراهنة هامشاً جيداً من المناورة، وإبعاد حكومته عن أي ضغط قد يستغله خصومه للتأثير عليه في الانتخابات القادمة".
وأضاف: "هناك حسابات معقدة يراها غانتس في مسألة كيفية التعامل مع الوضع الراهن في الضفة، فتوسيع العملية واللجوء لأسلوب الاغتيالات أو تنفيذ عملية السور الواقي 2، يعني دخول غزة في مواجهة قد تكون نسخة مكررة لما جرى من أحداث في معركة سيف القدس، في مايو/أيار 2021، حينما اشتعلت الضفة وغزة والقدس والداخل في آن واحد".
وبالتالي "يريد غانتس خفض تكلفة المواجهة للصفر تقريباً، وهو يفترض أن أسلوب الحصار المتبع حالياً قد نجح ولو نسبياً في تقييد حركة المقاومين، لذلك هو يراهن على عامل الوقت، دون الاضطرار إلى مجازفة ليست مضمونة النتائج، قد تطيح به وتدفعه لإنهاء حياته السياسية".