تخطى فن التصوير في مصر بأنواعه المختلفة كافة أنواع الجرائم الخطيرة، بنظر الأجهزة الأمنية والجهات الحكومية التي تحاصرها بقدر هائل من القوانين والقرارات، التي تقضي بـ"حظر التصوير في مصر".
لا تفرق الأجهزة الأمنية بين التصوير الذي يقوم به أشخاص عاديون في الأماكن العامة وبين السائحين الذين تكون لديهم الرغبة في توثيق رحلتهم، أما الصحفيون فهم يواجهون القدر الأكبر من التعنت والتوقيف والحبس حال إقدامهم على تلك الخطوة، ففي كل الحالات تعتبر السلطات المصرية من يرفع يديه ممسكاً كاميرا أو هاتفاً محمولاً متهماً يجب توقيفه وحذف ما قام بتصويره، وفي أحيان أخرى يتم إلقاء القبض عليه.
رصدت "عربي بوست" وقائع كثيرة قامت فيها السلطات باحتجاز مواطنين بسبب توثيق ما يحدث حولهم، إلى جانب القبض على عشرات الصحفيين بتهم واهية، أغلبها ارتبط بخرق حظر التصوير دون تصريح، ونشر الشائعات، والانضمام إلى جماعة إرهابية.
لا تفرقة بين أجنبي ومصري من حيث التصوير في مصر
تعاملت السلطات المصرية مع "اليوتيوبر" الأمريكي ويل سونبشر، الذي جاء إلى القاهرة مطلع العام الجاري لتصوير بعض المطاعم والترويج لبعض الأكلات المحلية، باعتباره أحد الخارجين عن القانون، بعد أن صادرت السلطات جميع معدات التصوير التي كانت بحوزته.
كانت الأزمة التي كشف عنها "اليوتيوبر" الأمريكي، عبر توثيقه ما حدث معه على صفحاته الشخصية بمواقع التواصل الاجتماعي، والتي يتابعها ملايين الأشخاص حول العالم، دافعاً نحو إصدار ضوابط بدت في ظاهرها أنها تتيح حرية التصوير للسائحين والمواطنين العاديين، لكن تفاصيل موادها تؤكد على أن الحظر مازال مستمراً بأشكال وأدوات مختلفة.
في أغسطس/آب الماضي أصدرت الحكومة المصرية قراراً سمح بالتصوير الشخصي للمصريين والأجانب المقيمين والسائحين في الأماكن العامة دون اشتراط الحصول على تصاريح أو سداد رسوم، وذلك باستخدام كافة أنواع كاميرات التصوير، وفي المقابل اشترط القرار الحصول على تصريح مسبق لتصوير الأراضي والمنشآت والمعدات التابعة لوزارتي الدفاع والداخلية والجهات السيادية والأمنية والقضائية والمجالس النيابية، بالإضافة إلى الوزارات والمصالح الحكومية.
وتضمن القرار عبارات فضفاضة تجعل بالإمكان القبض على أي شخص يقوم بالتصوير خلافاً لما جاء في مواده السابقة، إذ حظر "تصوير أو نشر أي صور أو مشاهد تسيء للبلاد أو للمواطنين، أو مخلة بالآداب العامة، بالإضافة إلى عدم تصوير الأطفال، أو تصوير ونشر صور المواطنين دون موافقة كتابية منهم".
تصوير القصر الرئاسي دون نشر الصور جريمة
ما حدث مع كريم صفوت (20 عاماً)، الذي يواجه "تهمة الانضمام إلى جماعة إرهابية ونشر أخبار كاذبة"، واعتقلته أجهزة الأمن، الأسبوع الماضي، من داخل العاصمة الإدارية وهو يلتقط صوراً تذكارية في حديقة قصر الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي ما زال تحت الإنشاء، دون أن ينشر تلك الصور، يعد أكبر دليل على تحايل الأجهزة الأمنية والقضائية على قرارات الحكومة.
ويمتلك شقيق كريم الأكبر شركة مقاولات تباشر أعمالاً داخل العاصمة الإدارية لصالح شركات أكبر، ومن وقت لآخر يرافقه لمساعدته في العمل، اصطحب عمالاً لمتابعة أعمال الزراعة في حديقة القصر الرئاسي في 3 سبتمبر/أيلول الماضي، واستمر عمله هناك 3 أيام التقط في نهايتها صورة للقصر الرئاسي الجاري إنشاؤه للذكرى.
وحسب رواية شقيقه جرى اصطحابه إلى جهة غير معلومة حتى ظهوره أمام نيابة أمن الدولة مؤخراً، والتي أمرت بحبس الشاب الذي لم ينشر فيديو القصر الرئاسي على أي حساب له بمواقع التواصل الاجتماعي.
لدى حمدي إبراهيم، وهو طالب بالفرقة الرابعة بكلية التجارة جامعة القاهرة، تجربة صعبة مع التصوير، حسب ما روى لـ"عربي بوست"، إذ تصادف وجوده مع اندلاع حريق كنيسة أبي سيفين بالجيزة قبل شهر ونصف تقريباً، ومثله كغيره ممن رفعوا هواتفهم لتوثيق ما يحدث إذا بشخص يرتدي زياً مدنياً يقتاده إلى سيارة "ميكروباص" ليتضح بعد ذلك أنه مخبر أمني تابع خطواته ورصد قيامه بتصوير الحادث واحتجزه داخل السيارة لمدة قاربت 4 ساعات، إلى جانب عدد من المتهمين الآخرين قامت السلطات الأمنية بتوقيفهم لأسباب مختلفة.
يضيف إبراهيم: "ذهبنا بعد ذلك إلى قسم شرطة إمبابة ليبدأ سيل الأسئلة حول الأسباب التي دفعتني لتصوير الحادث، في حين أن هناك العشرات من حولي قاموا بالأمر ذاته، وواجهت اتهامات بالانضمام لجماعة محظورة وتكدير السلم العام، وتم احتجازي داخل مقر القسم لمدة أسبوع قبل الإفراج عني، ولم أعرف حتى الآن ما هي الجريمة التي ارتكبتها في ذلك الحين".
توثيق الميادين التاريخية جريمة
وفي واقعة أخرى تعرض يوسف طلعت، شاب يبلغ من العمر 18 عاماً، لموقف مشابه حينما دشن قناته على موقع "يوتيوب" وهدف لنشر فيديوهات تستعرض الأماكن التاريخية بمنطقة وسط القاهرة بالقرب من محل سكنه، وكانت بدايته مع توثيق ميدان "لاظوغلي"، أحد الميادين التاريخية الشهيرة، بالقرب من عدد من الوزارات ومجلسي الشيوخ والنواب.
يؤكد طلعت أنه ما أن اقترب إلى الميدان وبدأ في التحدث عن تاريخه والإشارة إلى المباني الحكومية القريبة منه حتى وجدت نفسي محاطاً بمجموعة من رجال الشرطة، قاموا بتوقيفي واحتجازي بأحد أقسام الشرطة القريبة بتهمة تصوير منشآت حكومية وسيادية دون تصريح، مشيراً إلى أنه تعرض لمعاملة سيئة، وقام عدد من أمناء الشرطة والضباط بتفتيش الموبايل وحذف كل ما هو موجود عليه لضمان عدم بث الفيديو.
وبحسب مصدر حقوقي فإن الأجهزة الأمنية في مصر تعمل على نشر مخبرين يرتدون زياً مدنياً في الميادين العامة وبالقرب من المؤسسات الحكومية لتوقيف أي شخص يقوم بالتصوير.
هاجس ثورة يناير يضاعف القيود
يشدد المصدر على أنه مع تولي النظام الحالي زمام السلطة وضع قيوداً عديدة على التصوير في مختلف الأماكن، بغض النظر عن درجة أهميتها العسكرية أو الأمنية، وبدت هناك هواجس من البث المباشر والرصد، لكن في بعض الأحيان يتم السماح للصحف التي تحصل على تصاريح لإعداد تقارير خفيفة مصورة لا تشكل خطراً عليها، ويظل الهاجس الذي يؤرق السلطات إمكانية تكرار ما حدث في يناير/كانون الثاني من عام 2011، والذي لعبت فيه الصورة عاملاً مساعداً في تحريك الجماهير للإطاحة بنظام الرئيس المعزول حسني مبارك.
ويبقى التضييق الأكبر على وسائل الإعلام بمختلف توجهاتها، ويمكن النظر إلى ما تعرض له أحد المصورين الصحفيين بمؤسسة صحفية حكومية قبل أيام، حينما تم اقتياده لقسم الشرطة لتصوير حركة المواطنين في سوق الفجالة، وهو أحد الأسواق الشعبية لبيع مستلزمات المدارس، قبل أيام من انطلاق الدراسة، بتهمة التصوير دون ترخيص، وكان الاتجاه لحبسه عدة أيام على ذمة التحقيق على الرغم من إظهاره بطاقة نقابة الصحفيين، وإثبات عمله بجهة حكومية، قبل أن تتدخل قيادات صحيفته لإطلاق سراحه.
صحفيون على ذمة الاحتجاز بسبب الكاميرا
وبين أكثر من 26 صحفياً محتجزين على ذمم قضايا مختلفة هناك مصوران ما زالا يتم تدويرهما في قضايا مختلفة، وهما حمدي مختار علي، الشهير بـ"حمدي الزعيم"، جرى إلقاء القبض عليه في عام 2016، في محيط نقابة الصحفيين أثناء إعداده تقريراً صحفياً، ويواجه تهم بث أخبار كاذبة، وإساءة استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، ومشاركة جماعة إرهابية مع العلم بأغراضها.
وكذلك المصورة الصحفية علياء عواد، تبلغ من العمر 35 عاماً، وجرى القبض عليها في محافظة الإسكندرية في 3 سبتمبر/أيلول 2014، ومؤخراً حكم بحبسها 15 عاماً في القضية المعروفة إعلامياً باسم "كتائب حلوان"، بتاريخ 29 يونيو/حزيران الماضي، على خلفية اتهامها بالانضمام إلى جماعة أسست على خلاف أحكام القانون، ونشر أخبار كاذبة، وتم حبسها يوم 23 أكتوبر/تشرين الأول 2017.
ويقول مصور صحفي –رفض ذكر اسمه- إن الأجهزة الأمنية تستنفر قواها إذا قامت بضبط شخص يقوم بالتصوير ويعمل في مؤسسة إعلامية، مضيفاً: "تعرضت لموقف محرج قبل أيام حينما ذهبت إلى جانب مجموعة من المتدربين لتصوير شوارع مصر القديمة وعدد من الأماكن الدينية التاريخية، ضمن ورشة لتعليمهم أساسيات التصوير الصحفي، وقام أمين شرطة بتوقيفي إلى جانب المتدربين، لكن الغريب أنه أصر على احتجازي في مقابل السماح لباقي المتدربين باستكمال جولتهم، بحجة أنني صحفي ولم أحصل على ترخيص مسبق بالتصوير".
ويكمل قائلاً: "الغريب في الأمر أن تلك المنطقة القريبة من قلعة صلاح الدين الأيوبي وجد فيها عدد من السياح والمصريين الذين قاموا بالتصوير بشكل طبيعي دون أن يستوقفهم أحد، وهو ما شجعني على ممارسة مهنتي أيضاً، لكن بدا من الواضح أن الأزمة بالأساس تكمن في الصحفيين".
الأجهزة الأمنية نجحت في تصدير الخوف للصحفيين
ويشار إلى أن الأجهزة الأمنية نجحت في تصدير الخوف للصحفيين، وأصبح هناك توجس مستمر من عمليات التوقيف حتى وإن كان ذلك من خلال عسكري أو أمين شرطة موجود في الشارع؛ لأن الوضع آخذ في التصاعد ما إذا كان الأمر مرتبطاً بعمل صحفي، كما أن نقابة الصحفيين أو الهيئات الإعلامية لا تقوم بدور الضامن لعدم الاعتداء أو التوقيف، ويبقى الصحفي دون ظهير يحميه، ويفضل عدم النزول إلى الشارع خوفاً من المضايقات.
ويشير عضو بمجلس نقابة الصحفيين المصرية –رفض ذكر اسمه- إلى أن مخاوف الصحفيين من نزول الشارع تسببت في أن "أوردرات" أو طلبات التصوير تراجعت بشكل كبير، وتكاد تكون توقفت في بعض الصحف، وانعكس ذلك سلباً على اندثار المصورين المحترفين، وهناك أقسام كان يعمل بها 20 مصوراً والآن لا تضم سوى مصورين أو 3 على الأكثر، وتتزايد الشكاوى من زيادة معدلات بطالتهم المقنعة داخل أماكن عملهم، مع تزايد الاعتماد على الصور التي تأتي من الهيئات الحكومية وشركات العلاقات العامة.
ويضيف أن حوادث الاعتداء على المصورين تقلصت في الفترة الأخيرة، لكن ذلك يرجع لأنهم لم يعد لديهم حضور في الشارع من الأساس، وحينما تكون هناك فعاليات سياسية تتطلب نزولهم مثلما الحال بالنسبة للانتخابات مثلاً أو الاحتجاجات، تظهر عشرات المشكلات التي تحاول النقابة حلها بشكل ودي.
ويشدد على أن قرارات السماح بالتصوير للمواطنين العاديين والسياح لا تشمل الصحفيين، وتشهد الأيام الحالية نقاشاً حول تقديم مقترحات بالتراجع عن قرارات وزارة الداخلية الخاصة بشأن الحصول على تراخيص قبل تصوير الأماكن العامة من المتوقع أن تكون ضمن نقاشات الحوار الوطني، باعتبار أن الاشتراط لا يتماشى مع طبيعة عمل المصور الصحفي الذي يكون أثيراً للأحداث المتتالية وليس باستطاعته الانتظار يومين أو 3 للانتهاء من الموافقات الأمنية.
ترسانة قوانين وقرارات تتعارض مع الدستور المصري
وتتعارض ترسانة القوانين التي تحظر التصوير بأشكال مختلفة مع المادة 65 من الدستور المصري، والتي تنص على أن "حرية الفكر والرأي مكفولة، ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه قولاً أو كتابة أو تصويراً، أو غير ذلك من وسائل النشر".
وتعترف المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الموقعة عليه مصر بأحقية الأفراد في التمتع بحرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حريته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين، بأية وسيلة ودونما اعتبار للحدود.
وتعاقب المادة 309 مكرر من قانون العقوبات المصري "بالحبس مدة لا تزيد على سنة كل من اعتدى على حرمة الحياة الخاصة للمواطن، وذلك بأن ارتكب أحد الأفعال الآتية في غير الأحوال المصرح بها قانوناً أو بغير رضاء المجني عليه، والتقط أو نقل بجهاز من الأجهزة أياً كان نوعه صورة شخص في مكان خاص".
كما نص القانون على أنه يعاقب بالحبس الموظف العام الذي يرتكب أحد الأفعال المبينة بهذه المادة اعتماداً على سلطة وظيفته، وفي جميع الأحوال يحكم بمصادرة الأجهزة وغيرها، ما يكون قد استخدم في الجريمة أو تحصل عليه، كما يحكم بمحو التسجيلات المتحصلة عن الجريمة أو إعدامها.
فيما نصت المادة 25 من قانون تقنية المعلومات المتعلقة بالاعتداء على حرمة الحياة الخاصة والمحتوى المعلوماتي غير المشروع، على أنه: "يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن 6 أشهر، وبغرامة لا تقل عن 50 ألف جنيه ولا تجاوز 100 ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من اعتدى على أي من المبادئ أو القيم الأسرية في المجتمع المصري، أو انتهك حرمة الحياة الخاصة".
وإلى جانب القوانين فإن القرارات الصادرة عن الوزارات تسير في هذا الاتجاه لعدم إيجاد أي منافذ قد لا تتضمنها القوانين، إذ حظر المجلس الأعلى للإعلام في مصر تصوير الصحفيين في الأماكن العامة دون إذن مسبق، أصدرت الهيئة العامة للتأمين الصحي التابعة لوزارة الصحة قراراً بحظر التصوير داخل المستشفيات، سواء الصور الفوتوغرافية أو الفيديو، مهدّدة المخالفين بتعريض أنفسهم للمساءلة القانونية، على خلفية تداول مقاطع فيديو تظهر وفاة مصابين بفيروس كورونا في مستشفى الحسينية في محافظة الشرقية، ومستشفى زفتى في محافظة الغربية.
كما حظرت وزارة التعليم المصرية التصوير نهائياً في المدارس، بعد لجوء البعض إلى الفضاء الإلكتروني لرصد ما يحدث داخل الفصول من أحداث مؤسفة، أصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي قانوناً يقضي بتقييد التغطية الإعلامية للمحاكمات الجنائية، حيث اشترط للتصوير الموافقة من جميع أطراف المحاكمة على ذلك، سواء كانت في شكل تصوير، أو تسجيل، أو بث، أو عرض بأيّ وسيلة.