كان حزب الله محوراً أساسياً في المفاوضات الجارية بخصوص ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل، حتى ولو لم يكن حاضراً بصورة مباشرة. وتدور الأسئلة الآن حول مدى تأثير اتفاق ترسيم الحدود، إذا ما تم توقيعه بشكل نهائي، ليس على لبنان فقط، ولكن على حزب الله نفسه أيضاً.
سلم لبنان يوم الثلاثاء، 4 أكتوبر/تشرين الأول، ملاحظاته مكتوبة على مقترح الوسيط الأمريكي آموس هوكشتاين، المتعلق بترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل.
وإذا سارت الأمور وفق المتوقع، وتمّ الأخذ بالملاحظات اللبنانية على نصّ اتفاق الترسيم بحراً بين لبنان وإسرائيل، فمن المتوقع أن يشهد لبنان سلسلة تطورات مفصلية سياسياً واقتصادياً.
حراك إقليمي-دولي مع حزب الله
يشير مطلعون إلى أنه لا يمكن التعاطي مع اتفاق الترسيم وكأنّه نتاج اتفاق بين لبنان وإسرائيل وحدهما، بل هو نتاج مفاوضات غير مباشرة شاركت بها الولايات المتحدة وإيران برعاية دولة قطر وفرنسا.
في الواقع لم يكن ممكناً إنضاج الاتفاق لو لم يحظَ بتغطية دولية وإقليمية متينة، فهو يترجم تقاطعاً للمصالح بين الولايات المتحدة والأوروبيين وإسرائيل وإيران.
بالمقابل فإن العديد من الأطراف تابعت خلفيات موقف حزب الله ولمساته وموافقته على هذا الاتفاق، والذي لم يكن ليحصل لولا الغطاء السياسي الذي منحه للسلطة السياسية، خاصة أن الحزب كان خلال المرحلة الماضية يرفع سقف خطابه وتهديداته تجاه إسرائيل، والتي تجلت بإرساله مسيرات باتجاه حقل كاريش، الذي تخلى لبنان عنه بكونه ضمن الخط 29، بينما قبل لبنان بالخط 23، والذي يتضمن حقل قانا.
ويؤكد مصدر دبلوماسي أوروبي لـ"عربي بوست" أن حزب الله واكب كل لحظات الترسيم، وكانت تصله بشكل سريع كل تطورات الملف والاقتراحات الدولية والأمريكية والإسرائيلية.
كما كان فريق من قبله يطلع أمينه العام حسن نصر الله على تطورات الملف، ويدون ملاحظاته على كل بند أو مقترح، بحسب المصدر نفسه.
امتيازات سياسية
بالتوازي يشير مصدر حكومي رفيع لـ"عربي بوست" أن حزب الله حين يوافق ويعطي الضوء الأخضر للتنازل عن حقل كاريش والخط 29 يعني أنه سيحصل مكاسب أهم وأعلى وهو يتفاوض عليها مع الفرنسيين.
هذه المكاسب- وفقاً للمصدر- ستكون في الواقعين السياسي والاقتصادي. ويشدد المصدر أنه وبعد توقيع الاتفاق سيذهب لبنان نحو خطوات متتالية في عملية إعادة بناء الدولة المنهارة، بدءاً من تشكيل حكومة فاعلة وانتخاب رئيس للجمهورية، وصولاً إلى الانطلاق في عملية النهوض الاقتصادية- السياسية.
ويشدد المصدر أن حزب الله أكد للقطريين والفرنسيين على أنه وبعد انتخاب الرئيس سيثبت للعالم وللبنانيين أنه صانع الحلول الحقيقية، التي أدّت إلى إخراج لبنان واللبنانيين من قعر الهاوية، وأتاحت لهم الصعود مجدداً أولاً من خلال الترسيم البحري والتنقيب عن الغاز، وثانياً عبر قبوله بصيغة رئيس توافقي وحكومة نهوض.
بالمقابل، يشير الصحفي طوني عيسى إلى أن حزب الله سيتمكن من الحصول على نتائج ربما كان ينتظرها من المؤتمر التأسيسي، الذي لَطالما دعا إليه، ومن دون الاضطرار إلى تحمّل عناء هذا المؤتمر وتبعاته والنزاعات ذات الطابع الطائفي والمذهبي والسياسي التي سيشهدها.
نصر الله كان قد أعلن في إطلالته الأخيرة أنّ موارد لبنان من الغاز ستفتح الباب لمرحلة واعدة، وستغنيه عن الحاجة إلى المساعدات المحدودة التي يمكن أن تأتيه من هنا أو هناك.
انعكاسات داخلية على حزب الله
يشير الصحفي المقرب من حزب الله عماد مرمل، أن الانطباع الأول الذي يمكن أن يتكوّن لدى المتابعين هو أن اتفاق الترسيم، في حال إبرامه نهائياً، سيعزز موقع حزب الله في مفاوضات الاستحقاق الرئاسي، ثم في أي تسوية لاحقة على الاسم المفترض.
وأضاف: "خصوصاً أن هذا الترسيم، متى اكتمل، سيُثبت أنّ خيار رئيس الجمهورية ميشال عون وأمين عام حزب الله حسن نصر الله بالتكامل بين الدبلوماسية والقوة، قد أثبت جدواه وسمح للبنان بتحصيل الانتصار ثم الاستقرار، فالاستثمار والازدهار لاحقاً".
وأوضح مرمل لـ"عربي بوست" أن الحزب مهما بلغت قوته وانتصاراته لا يستطيع أن يفرض الرئيس المفضّل لديه إلّا بالتوافق والتراضي، ولكن الأصحّ أيضاً أنه من المستحيل مرور مرشح لا يحظى باقتناع الحزب نفسه، فكيف بمحاولة فرض مرشح عليه كما يتهيّأ للبعض، على حد قوله.
وفقاً لمرمل، فقد صار من المُسلّم به لدى أوساط إسرائيلية عدة وحتى لدى بعض خصوم الحزب في الداخل، قبل حلفائه وأصدقائه، بأنه لولا تلويح نصر الله بالحرب، ولولا رسائل المسيّرات فوق كاريش، لم تكن الدولة اللبنانية لتتمكن من تحصيل ما طالبت به.
وبالتالي، فإنّ الحزب يشعر بأنه سيكون معنياً بالبناء على هذا الإنجاز الاستراتيجي وحمايته، الأمر الذي يستدعي دمج مواصفات الرئيس المقبل مع هذا العامل المستجد الذي لم يعد بالإمكان تجاهله في معرض مقاربة هوية المرشح الأنسب للرئاسة.
وبشكل أوضح- بحسب مرمل- فإن هناك من يلفت إلى أنه لن يكون مقبولاً من جانب الحزب والتيار الوطني الحر أن يأتي رئيس من خارج سياق الإنجاز المتحقّق ودلالاته وتوازناته، ولن يكون مسموحاً انتخاب من لا يعترف بالمكتسبات المنجزة وبطريقة انتزاعها.
معركة الرئاسة والحكومة
في إطار متصل، يعتقد المحلل السياسي منير الربيع أن هذه التجربة أثبتت أن حزب الله، الذي نجح في تحقيق أهداف سياسية واستراتيجية في لبنان والمنطقة، وتمكن من إيصال حلفائه إلى السلطة، وصولاً إلى السيطرة عليها وجعل الآخرين ملحقين سياسيين، لا يمكنه ضمان استقامة الحكم بمفرده.
فافتقاد الحزب للتوازن يقود إلى الانهيار الذي نرى نتائجه في هذه الأيام، صحيح أن الحزب سيبحث عن استثمار سياسي في المستقبل لما حققه، ولكنه أيضاً سيكون مضطراً للتعاطي بواقعية، وهذا يفترض أن يقود إلى خيار تسوية رئاسية وحكومية. وهذا ما تسعى إليه فرنسا في لبنان، على حد قول الربيع.
وعليه، يشير المحلل اللبناني إلى أنه يمكن الذهاب إلى مرحلة جديدة من الاختبار بعد كل ما حققه الحزب وعلى وقع الانهيار. وتسليماً بقناعة أنه لا يمكن عزله ولا إنهائه ولا إضعافه، وفي حال توفرت الإرادة الحقيقية لديه ولدى خصومه أيضاً للإنقاذ.
تقتضي المرحلة التي يعتبر فيها الحزب أنه حقق ربحاً استراتيجياً في ترسيم الحدود، أن يقابله نوع من التساهل والتعاون في الاستحقاقين المقبلين، وهما انتخاب الرئيس وتشكيل الحكومة.
وهنا لا بد من طرح سؤال أساسي، هل يمكن للحزب أن يوافق على انتخاب رئيس توافقي مقبول دولياً ويحظى بثقة المجتمعين العربي والدولي.
حسب ما يقول دبلوماسيون يتواصلون مع الحزب فهو مستعد للتعاون، ويحرص على التوافق. وهو يريد وصول رئيس يعرف معنى المقاومة، ولا يدخل في صيغة التحدي لسحب السلاح أو لتبني القرار 1559.
ماذا تريد إيران من هذا الترسيم؟
في هذا الإطار يرى المحلل السياسي طوني عيسى أن ما يهمّ المجتمع الدولي هو إدخال إيران في دائرة المصالح المشتركة، واستخراج الغاز من البحر اللبناني واحدٌ من أبرز هذه المصالح حالياً.
وفي هذا المجال، تلتقي البراغماتية الأمريكية مع براغماتية إسرائيل، وأما إيران فهي الرابح الأكبر، لأنّ حلفاءها هم عرّابو الاتفاق الذي سيقطفون ثماره بأشكال عديدة.
وبحسب عيسى فإن ما يريده الإيرانيون في لبنان هو أن تكون لهم إطلالة على البحر المتوسط وحقوله النفطية وأنابيب الغاز الممتدة إلى أوروبا، وأن يبقى لبنان رأس الجسر الإيراني الممتد عبر العراق فسوريا، ولا يريد الإيرانيون التخلّي عن أي حلقة من هذا الجسر.
ويضيف أن طهران تريد أن يبقى حلفاؤها الأقوياء على تماسّ مع إسرائيل، فلهذا التموضع أهمية بالغة في الحرب الباردة القائمة بين إسرائيل وإيران، والتي تتجلّى اليوم بالملف النووي ونفوذ إيران في المناطق التي تعتبرها إسرائيل خاصرة لها.
وعليه، يشير عيسى أنه لا يمكن إنضاج اتفاق ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل إلا إذا وافقت إيران وكانت جزءاً من الصفقة. وهذا يعني أنّ المرحلة المقبلة في لبنان سيديرها حزب الله، لا بالصراع مع الولايات المتحدة والغرب، بل بالتوافق والتنسيق على الأرجح، ويعني ذلك منطقياً احتمال خفض العقوبات المفروضة عليه وفك الحصار عنه.