يحدث أحياناً في بعض الدول، أن يتحرك أفراد من الجيش، للسيطرة على الحكم وهو ما يعرف بالانقلاب، مجموعة من العسكريين يطيحون بالحكومة ويستولون على السلطة، ويتكرر هذا المشهد كثيراً في دول العالم الثالث حتى يكاد يصبح مألوفاً، خلال القرن الماضي شهد الوطن العربي حصته من تلك الانقلابات بأكثر من 123 انقلاباً.
وحين نستذكر الانقلابات في الوطن العربي، ربما يمكننا أن نمر على انقلاب بكر صدقي في العراق، وهو أول انقلاب عسكري في الدول العربية.
منذ تأسيس المملكة العراقية الهاشمية أو المملكة العراقية رسمياً بعد تعيين الملك "فيصل الأول" ملكاً في عام 1921، شهدت البلاد كثيراً من الأزمات والاضطرابات، خاصة في ظل وجود كثير من الطوائف الدينية والقوميات المختلفة.
فكانت تلك الاضطرابات تظهر على شكل عصيان مسلح في محافظة ما، أو مظاهرات في مدينة ما، أو ضغط داخل الحكومة يؤدي إلى استقالة الوزارة، وكانت الأزمات تنتهي بشكل أو بآخر، ولكن في كل السلطة في الحكومات المتعاقبة تنتقل بشكل سلمي.
حتى قرر ضابط عراقي من أصل كردي يدعى بكر صدقي، أنه قد حان الوقت للجيش العراقي للتدخل والاستيلاء على الحكم، فكان ذلك أول انقلاب عسكري في الدول العربية، لكنه لم يكن الأخير لا في العراق ولا في الدول العربية.
بكر صدقي الضابط العثماني الذي أصبح ضابطاً عراقياً
وُلد بكر صدقي عام 1886 لأبوين كرديين، في قرية عسكر القريبة من مدينة كركوك، ودرس في إسطنبول بالمدرسة الحربية وتخرج فيها ضابطاً بالجيش العثماني، ليشارك في الحرب العالمية الأولى في آخر سنواتها.
وبعد نهاية الحرب واندحار الدولة العثمانية، انضم إلى الجيش العراقي الذي أسسه البريطانيون 1920، وحصل صدقي على رتبة ملازم أول.
ليتدرج بعد ذلك، في رتبته العسكرية حتى وصل إلى رتبة فريق ركن في عهد الملك غازي.
اشتهر بكر صدقي بالصرامة والتنفيذ الحرفي للأوامر العسكرية عندما قاد الجيش العراقي ضد انتفاضة الآشوريين، التي ارتكب خلالها الجيش العراقي مذبحة سميل بحق أبناء الأقلية الآشورية بشمال العراق في عهد الملك فيصل الأول ومقتل نحو 600 شخص من المدنيين، وبحسب بعض المصادر كان الضحايا 3 آلاف.
ثم قمع انتفاضة العشائر في منطقة الفرات الأوسط عام 1935، ثم ضد انتفاضة البارزانيين، وتوطدت العلاقة بينه وبين وزير الداخلية آنذاك التركماني حكمت سليمان.
تحركات سبقت أول انقلاب في المنطقة العربية وفي العراق
كانت الأجواء السياسية قُبيل انقلاب بكر صدقي عام 1936، وما قبلها تتسم بالاحتقان السياسي. كان رئيس الوزراء حينها، ياسين الهاشمي، قائداً عسكرياً سابقاً في الجيش العثماني هو الآخر، ومن أبرز من عاصر الملك فيصل الأول بعد تأسيس المملكة العراقية، وأسس في عهد الملك غازي، حزب الإخاء الوطني الذي أوصله لرئاسة الحكومة.
واجه الهاشمي كثيراً من المصاعب من مناوئين له وطامعين في السلطة، وظهور اتجاهين سياسيين داخل العراق.
الاتجاه الأول كان يدعو إلى أن يكون العراق للعراقيين، وهو ما اتسق مع فكر الأحزاب اليسارية التي كان بكر صدقي من داعميها. أما الثاني فدعا إلى الوحدة العربية، وكان ياسين الهاشمي داعماً له.
وكان صدقى يتردد بانتظام على قطب المعارضة وزير الداخلية "حكمت سليمان"، وكانا يتناقشان حول استئثار وزارة الهاشمى بالحكم، وفكَّر صدقي في إسقاط هذه الوزارة بانقلاب عسكرى.
فأقنع بعضاً من ذوى النفوذ داخل المؤسسة العسكرية، ومنهم الفريق عبد اللطيف نوري، قائد الفرقة الأولى، والعقيد محمد علي جواد، قائد القوة الجوية، والطيار الخاص للملك بالانضمام إليه.
وحدد موعد الانقلاب مع مناورات الجيش في 1936، وكان رئيس أركان الجيش الفريق ياسين الهاشمي، شقيق رئيس الوزراء، مسافراً خارج العراق، مما ساعد الانقلابيين على تنفيذ مخططهم.
في 26 أكتوبر/تشرين الأول 1936، قاد بكر صدقي مع قائد الفرقة الأولى عبد اللطيف نوري، القوات نحو العاصمة بغداد، انطلاقاً من لواء ديالى بعد قطع خطوط الاتصال، ووصلت القوات إلى مشارف بغداد في الـ7 صباحاً، وبعدها بساعة واحدة ألقت 3 طائرات حربيةٍ آلافاً من المنشورات المطالبة بإقالة الهاشمي.
وتوجه حكمت سليمان نحو القصر الملكي حاملاً المذكرة التي وقَّعها الفريقان صدقي وعبد اللطيف نوري لإقالة وزارة الهاشمي.
نجاح بكر صدقي ورفاقه في تنفيذ الانقلاب
حاول وزير الدفاع الفريق الأول، جعفر العسكري، وقف زحف قوات الانقلاب نحو بغداد، فاتصل ببكر صدقي وأبلغه أنه آتٍ لمقابلته وأنه يحمل رسالة من الملك غازي.
وكانت تلك فرصة بكر صدقي للتخلص من جعفر العسكري، صهر نوري السعيد باشا، الرجل القوي ووزير الخارجية آنذاك والمقرب من الإنجليز.
وما إن وصل جعفر العسكري إلى مكان اللقاء، حتى جرده جنود الانقلاب بأوامر من بكر صدقي من سلاحه، وبعدها أطلقوا عليه النار حيث لقي مصرعه في الحال، ولما وصل الخبر إلى نوري السعيد باشا سارع باللجوء إلى السفارة البريطانية التي قامت بدورها بتهريبه إلى الخارج.
استمرت قوات الانقلابيين في الزحف نحو بغداد، حيث وصلت لأبوابها في الساعة الرابعة بعد الظهر. لذلك اضطر الملك غازي إلى توجيه خطاب التكليف إلى حكمت سليمان في 29 أكتوبر/تشرين الأول، بتشكيل وزارة جديدة، وعند الساعة الخامسة والنصف كانت القوات قد دخلت شوارع بغداد من دون أن تلقى أية مقاومة. أتم الانقلابيون تشكيل وزارتهم وصدرت القرارات الملكية بتشكيلها في الساعة السادسة مساء.
وقام الملك غازي بتكليف حكمت سليمان بتشكيل وزارة جديدة، تولى فيها صدقي منصب رئيس أركان الجيش وسيطر على البلاد وكان الحاكم الفعلي، لكن ذلك لم يكن ليدوم طويلاً.
ويرى بعض المؤرخين أن نجاح الانقلاب بهذه السهولة كانت وراءه عدة عوامل، منها أن الملك غازي نفسه كان داعماً للانقلاب ولذلك لم يتم تنحيته عن العرش، فضلاً عن استغلال بكر صدقي سفر قائد أركان الجيش، طه الهاشمي، إلى بريطانيا آنذاك.
نهاية انقلاب بكر صدقي ومقتله على يد جنود من الجيش العراقي
قرر بكر صدقي السفر إلى تركيا؛ لحضور المناورات العسكرية التركية المقرر القيام بها في 18 أغسطس/آب 1937، فغادر بغداد إلى مطار الموصل في 11 أغسطس/آب، وكان برفقته العقيد محمد علي جواد قائد القوة الجوية.
وحين وصلا إلى المطار وكان جالساً مع العقيد محمد علي جواد، تقدم العريف عبد الله التلعفري نحوهما ليقدم لهما المرطبات، وأخرج مسدساً من تحت ملابسه وأطلق الرصاص على رأس صدقي، ثم على قائد القوة الجوية ليلقيا مصرعهما.
وبعدها بفترة استقال زميل صدقي من رئاسة الوزراء لينتهي بذلك أول انقلاب من سلسلة الانقلابات الدموية في العراق والبلاد العربية.