منذ أكثر من عام تشهد مدينة الخليل جنوب الضفة الغربية حالة من الاقتتال الداخلي بين عائلتَي الجعبري والعويوي إحدى أكبر العائلات في المدينة، أسفرت عن مقتل العديد من المواطنين، كان آخرها مقتل 3 مواطنين في 30 من يونيو/حزيران 2022، تلاها إحراق عدد كبير من المنازل والمحال التجارية، إثر نزاع وخلافات نشبت بين أفراد من العائلتين.
إلا أن هذا الخلاف تطور لاحقاً إلى مشاكل أكبر بعدما انضمت عائلات أخرى لهذا الاقتتال الداخلي، ليتحول إلى خلاف عشائري امتد لمناطق أخرى في المدينة.
خلال عام كامل من التوتر، لم تنجح السلطة الفلسطينية في رأب الصدع بين العائلتين، سواء بسلطة القضاء أو السلطة التنفيذية بعد فشلت محاولاتها في فرض الأمن في المدينة، بسبب انتشار السلاح بشكل كبير داخل المدينة، وعدم قدرة أجهزة الأمن على الوصول لمناطق بعينها داخل الخليل.
وحاولت السلطة استدراك هذا الوضع، عبر تقديم مبادرات لإنهاء هذه الحالة الأمنية المعقدة في المدينة، فتقدم مسؤولون بارزون في حركة فتح والسلطة الفلسطينية للتوسط بين العائلتين، لكنها فشلت في احتواء الموقف.
كما حاول أمين سر اللجنة المركزية لحركة فتح الفريق جبريل الرجوب ووزير الداخلية اللواء زياد هب الريح الدخول على خط الوساطة، لكنَّ أياً منهما لم ينجح في رأب الصدع بين العائلتين.
الأردن والدخول على خط الوساطة
التطور الأبرز في هذه القضية هو دخول الأردن بشكل مفاجئ لاحتواء الموقف المتصاعد في المدينة، بعد أن باتت الخلافات تهدد النسيج الاجتماعي على مستوى الضفة الغربية.
إذ أفادت وسائل إعلام أردنية بأن وفداً عشائرياً ورسمياً من مجلس النواب الأردني وصل مدينة الخليل خلال الأيام القليلة الماضية في محاولة لاحتواء الموقف، من بينهم الشيخ طراد المسلط أحد أبرز القضاة في حل المشاكل العشائرية في الأردن، ويرافقه النائب ينال فريحات من مجلس النواب الأردني.
قد يكون لافتاً دخول الأردن على خط الوساطة في إنهاء إشكال عائلي في الضفة الغربية، لكنه يعبر عن حالة قلق يدركها النظام الأردني من مخاطر انهيار السلم الأهلي والاجتماعي في الضفة الغربية، التي قد تنعكس عليه سلباً، نظراً لتداخل العلاقات وتشابكها عشائرياً وأسرياً بين الضفتين الغربية والشرقية.
بعد آخر لهذا الاهتمام الأردني يمكن تفسيره بوجود روابط عشائرية تجمع عشائر مدينة الخليل وأهالي الأردن، إذ تمثل الخليل حالة خاصة بالنسبة للتمثيل العشائري مقارنة بالنظام العائلي السائد في باقي الأراضي الفلسطينية، وهو ما يفسر تحرك الأردن بهذا المستوى الرفيع من الوساطة لمنع تمدد الخلافات إلى داخل حدوده.
أوضح القيادي في حركة فتح من مدينة الخليل عماد خرواط لـ"عربي بوست" أن دخول الأردن على خط الوساطة هو أمر مرحب به، ويعكس تقديراً لطبيعة العلاقات والروابط التي تجمع شعبي الأردن وفلسطين، ومبادرة الأردن بهذه الوساطة جاءت بعد اتصالات وتنسيق مسبق مع السلطة الفلسطينية لاعتبارات خاصة بهم، و"نحن نضع مخاوف الأردن بعين الاعتبار من استمرار القتال الداخلي بهذا الشكل منذ أكثر من عام".
وأضاف المتحدث: "سنعمل في حركة فتح والسلطة الفلسطينية على توفير الأجواء الملائمة لرأب هذا الصدع، بما يضمن ضبط الأمن وعدم انجرار الأوضاع إلى مربع لا يرغب أحد بالوصول إليه".
قد يبدو مثيراً للاهتمام أن توقيت دخول الأردن على خط الوساطة يأتي في وقت تعاني فيه السلطة الفلسطينية من فقدان سيطرتها على الحالة الأمنية في مناطق نفوذها، ليس فقط على مستوى الخليل بل في مناطق أخرى، وتحديداً مدينة جنين، التي تشهد منذ أشهر حالة تمرد تقودها تيارات في حركة فتح، باتت تخرج عن سياق السياسة العامة للسلطة الفلسطينية، وتقود موجة تصعيد عسكري ضد إسرائيل.
فوضى السلاح
أحد مظاهر ضعف السلطة الفلسطينية هو انتشار السلاح غير المرخص بشكل كبير في الضفة الغربية. فوفقاً لمصدر أمني في وزارة الداخلية، أكد لـ"عربي بوست" أن قطع السلاح غير الشرعي المنتشرة في الضفة الغربية تقدر بنحو 100 ألف قطعة سلاح ما بين مسدسات ورشاشات خفيفة، في حين لا تزيد عدد قطع السلاح لدى الأجهزة الأمنية الرسمية عن 26 ألفاً.
وأضاف أن مصادر هذه الأسلحة تأتي عن طريق عمليات تهريب من إسرائيل ومن تجار الأسلحة في المستوطنات، وعبر عمليات تهريب عبر الحدود الأردنية. وقد فشلت حملات كثيرة نفذتها أجهزة الأمن لجمع السلاح غير المرخص، بسبب وجود جزء منها لدى قيادات محسوبة على حركة فتح، بالإضافة لانتشار قطع السلاح في مناطق لا تستطيع السلطة الفلسطينية الوصول إليها وهي المناطق المصنفة "ب" و"ج".
فيما كشف الناطق باسم وزارة الداخلية العقيد لؤي أرزيقات أن مستويات الجريمة بسبب انتشار السلاح غير المرخص تشهد تصاعداً عاماً بعد الآخر، فعدد حالات القتل ارتفعت من 25 حالة عام 2019، إلى 36 حالة عام 2021. ومنذ مطلع العام شهدت الضفة الغربية 260 حالة إطلاق نار، راح ضحيتها 18 قتيلاً، و623 عملية سطو مسلح واعتداء على ممتلكات للمواطنين.
عمليات التسلل عبر الحدود
هذا الواقع الأمني المتدهور في الضفة الغربية استدعى من الأردن التحرك بهذه المستوى اللافت، للحفاظ على السلم الأهلي والاجتماعي في الضفة الغربية، فالأردن يرتبط بحدود مع الضفة الغربية تزيد على 300 كيلومتر، ولا يوجد للسلطة الفلسطينية تواجد أمني في هذه المناطق الحدودية، ما يعني استمرار عمليات تهريب السلاح أو تسلل بعض العناصر الهاربة إلى داخل حدوده.
وكشف تقرير لموقع "واللا" الإسرائيلي أن الحدود الأردنية مع الضفة الغربية ليست بمأمن عن عمليات تسلل قد ينفذها تجار سلاح أو مخدرات أو مجرمين يحاولون الفرار، فطول الحدود وقصر طول الجدار الفاصل، يسهل عمليات التهريب على جانبي الحدود.
وقد ألقى الجيش الإسرائيلي عام 2020 القبض على 64 مطلوباً حاولوا اختراق الحدود للهروب إلى الأردن.
وذكر الكاتب والمحلل السياسي الأردني توفيق الأسمر لـ"عربي بوست" أن النظام الأردني يدرك أن حالة الاقتتال الداخلي المتصاعد في الضفة الغربية ستنعكس عليه سلباً، لذلك هو يتمسك بوجود سلطة مركزية لاحتواء الحالة الأمنية على حدوده الغربية، لأن ضعف السلطة الفلسطينية سيعني عملياً عودة نظام روابط القرى أو سيطرة النظام العشائري بدلاً من سلطة القضاء.
وأضاف: "في هذه الحالة قد يكون الأردن مضطراً لتغيير سياساته في التعامل مع الضفة الغربية باعتبارها نقطة توتر قد تجبره على إغلاق حدوده وفرض قيود مشددة على دخول الفلسطينيين".
وأضاف المتحدث أن الأردن لا يرغب بالوصول لهذه المرحلة، لأن العلاقات بين السلطة والنظام الأردني استراتيجية بأبعاد مختلفة لا تقتصر فحسب على النظام السياسي، بل هنالك تداخل كبير ومعقد للعديد من العشائر والعائلات بين الجانبين، وبالتالي سيتأثر الأردن سلباً في حال انقتلت الخلافات العشائرية إلى داخل حدوده.
وتابع: "أخطر من ذلك يتمسك الأردن بالحالة الأمنية المستقرة في الضفة الغربية، للحفاظ على مصالحه كأحد الفاعلين في القضية الفلسطينية، وتحديداً في ملف الوصاية على المقدسات في مدينة القدس، وهو يخشى من أن تستغل أحد الأطراف كالإمارات والسعودية ضعف الأردن لإنهاء وصاية الأردن على مدينة القدس".