هرب إلى مصر، وابتدع شخصية جديدة لنفسه، وكان غالباً ما يراه جيرانه ومعارفه يحمل مصحفاً ويتردد على المجالس وحلقات الذكر، قبل أن يكتشف الجميع بعد موته أنه كان أكثر نازي مطلوب على وجه الأرض بعد الحرب العالمية الثانية.
هو طبيب الموت الألماني، أريبرت هايم؛ طويل، رياضي، وحسن المظهر، خدم في معسكر الاعتقال النمساوي ماوتهاوزن بين عامي 1942 و1943.
هرب في أعقاب الحرب إلى مصر حيث استقر هناك لبقية حياته، وتوفي بعد أن عاش في عزلة لسنوات قيل إنه قد اعتنق فيها الإسلام.
"متعة" حقن السجناء بالبنزين!
يروي الصحفيان والكاتبان الأمريكيان نيكولاس كوليش وسعاد مخينيت قصة الطبيب النازي ورحلته الغامضة في كتاب "النازي الخالد.. من ماوتهاوزن إلى القاهرة".
وفيه كشفا أن من بين جرائم الطبيب النازي في فترة الحرب، أنه كان يستمتع بحقن البنزين مباشرة في قلوب نزلاء معسكرات الاعتقال، ويستأصل أعضاءهم وهم واعون لإجراء التجارب الطبية.
وتابعا أنه في بعض الأحيان كان يقطع رأس الجثة، وبعد أن يحرق الجسد تماماً، يعطي الجمجمة لصديق، أو يعرضها لديه كتذكار.
وذكر الكتاب "(الطبيب) أخبر ذات مرة صبياً يهودياً يبلغ من العمر 12 عاماً، قبل إعطائه حقنة قاتلة، أن موته مشروع؛ لأن اليهود هم من بدأوا الحرب".
كشف قصة الهارب النازي
عندما سافر كوليش ومخينيت إلى القاهرة للتحقيق في حياة هايم وموته هناك، وجدوا ضمن أشيائه الخاصة حقيبة مليئة بتذكارات، بما في ذلك كتيبات السفر والصور القديمة والرسومات التي رسمها هايم عن حالته الطبية.
وفي إحدى كتابات الطبيب النازي التي وُجدت في الحقيبة، قارن هايم نفسه بمناحيم بيغن، الذي كان على وشك أن يصبح رئيس وزراء إسرائيل آنذاك.
إذ اشتكى هايم من تعرضه للاضطهاد من قبل أبناء وطنه، بدلاً من تكريمه لخدمته لوطنه مثل بيغن.
حياته وصولاً لقضية محاكمته
ولد هايم في 28 يونيو/حزيران 1914، في رادكرسبيرغ بالنمسا، وانضم إلى الحزب النازي المحلي عام 1935، قبل 3 سنوات من ضم النمسا إلى ألمانيا.
ثم انضم لاحقاً إلى ضباط Waffen SS الرفيعين في نظام أدولف هتلر، وتم تعيينه في ماوتهاوزن، وهو معسكر اعتقال بالقرب من لينز في النمسا.
احتجزه الأمريكيون بعد الحرب، لكن أطلق سراحه قبل أن يتضح المدى الحقيقي لجرائمه. لقد ظل بعيداً عن الأنظار طوال العقدين التاليين، حتى إنه تجنب التقاط صور له في صورة الفريق لنادي هوكي الجليد الذي لعب معه.
في عام 1961، تم تنبيه السلطات الألمانية إلى أن هايم كان يعيش في بلدة بادن بادن الألمانية، وبدأت التحقيق في قضيته، ولكن عندما ذهبوا أخيراً لاعتقاله في سبتمبر/أيلول 1962، فقدوا أثره.
يقول إفرايم زوروف، مدير مركز سيمون ويزنثال في إسرائيل، الذي كان يبحث عن الدكتور هايم حتى عام 2009: "كان العالم العربي ملاذاً أفضل وأكثر أماناً له".
وأعرب زوروف بحسب نيويورك تايمز عن دهشته عند إبلاغه بمصير هايم وموته آمناً في مصر بعدها بعقود، قائلاً إن المركز كان على وشك رفع مكافأة تلقي أية معلومات عن الطبيب الهارب من 400 ألف دولار إلى 1.3 مليون دولار.
لم يعرفه أحد، حتى الألمان
طوال سنواته الأخيرة في مصر، كتب هايم يرسل أحياناً رسائل مشفرة إلى عائلته في ألمانيا، لكن حتى زملائه النازيين في مصر لم يعرفوه.
كما ذكر الكتاب أن من المفارقة في حياة هايم أنه لو كان قد حوكم في ألمانيا الغربية، فمن المحتمل أنه كان سيحصل على سنوات قليلة فقط في السجن.
فقد كانت الأحكام الألمانية للمجرمين النازيين مثل هايم خفيفة إلى حدٍ كبير، وكان من السهل تنفيذ أحكام البراءة فيهم أيضاً. كما لم تتم محاكمة معظم الجناة النازيين على الإطلاق.
رحلة الاستقرار في مصر
بعد سنوات من الهرب والعيش في الخفاء تحت أسماء مستعارة، وصل هايم إلى مصر عام 1963، في فترة حُكم الرئيس جمال عبد الناصر، الذي صرح لصحيفة Deutsche National Zeitung الألمانية في مايو 1964: "خلال الحرب العالمية الثانية، كان تعاطفنا مع الألمان".
في هذه الفترة، كانت دائرة النازيين القدامى في مصر مليئة بالجواسيس. وذلك بسبب شراكة وكالة المخابرات المركزية مع رئيس التجسس النازي السابق رينهارد جيهلين.
في هذا المناخ، كان لدى هايم اتصالات ضئيلة مع النازيين السابقين الآخرين في مصر؛ وبالتالي فقد كان بمفرده تماماً، وحصل على دخله الثابت من بناية سكنية تملّكها في ألمانيا، وصله عائد تأجيرها إليه عبر شقيقته.
اكتشاف هويته بعد موته
اعترف نجل الطبيب النازي، روديجر هايم، لأول مرة، بوفاة والده بسبب معاناته من مرض السرطان في 10 أغسطس/آب عام 1992.
واكتشف تحقيق أجرته صحيفة نيويورك تايمز ومحطة الإذاعة الألمانية ZDF حقيبة تخص هايم تضمنت جواز سفره وتفاصيل مصرفية ومقتطفات من الصحف لتقارير عن جهود لتعقبه ومحاكمته غيابياً.
وأفادت ZDF أن هايم دُفن في مقبرة للفقراء في القاهرة، حيث أعيد استخدام القبور بعد ذلك بعدة سنوات، وبالتالي فإن "أي فرصة للعثور على رفات هايم وإجراء اختبار حمض نووي هي فرضية غير مرجحة".
أصبح "العم طارق" ولازم الجامع الأزهر
أفادت صحيفة نيويورك تايمز نقلاً عن روديجر هايم أن والده فر عبر فرنسا وإسبانيا قبل أن يعبر إلى المغرب، ومنها استقر في النهاية في مصر.
وذكر التقرير أنه عاش في القاهرة ، تحت اسم طارق حسين فريد، في فندق قصر المدينة، لمدة 10 سنوات سبقت وفاته.
قال محمود دوما بحسب صحيفة The Guardian، الذي يملك والده الفندق، إن هايم كان يُعرف بين الجميع باسم العم طارق، وإنه كان يلعب تنس الطاولة معه على سطح الفندق، وإنه كان يشترى حلويات للأطفال في الحي.
وقالت الصحيفة إن هايم اعتنق الإسلام، ولطالما كان يحضر الصلوات وحلقات الذكر في الجامع الأزهر الشهير في القاهرة.
أدت أكثر من 100 وثيقة شخصية كانت بحوزة عائلة دوما، بالإضافة إلى شهادة نجل هايم روديجر، إلى الكشف عن الهوية الحقيقية للطبيب المختبئ منذ عام 1962.
ولأنه تم العثور عليه ميتاً ذات يوم في غرفة نومه. لم تكن هناك خطط لدفن الرجل الذي عاش وحيداً تماماً، وعندما جاءت سيارة الإسعاف لنقل جثته وُضعت في مقبرة جماعية للفقراء.
جيرانه يصفونه بالرجل "الهادئ التقي"
وبحسب ما قال جيران الرجل طوال فترة استقراره في مصر، وفقاً لـفرانس 24: "كان منعزلاً جداً وتقياً جداً. لم يكن لديه لحية كاملة، لكنه لم يحلق وجهه كلياً أبداً، وكان يصوم دائماً في شهر رمضان".
الناس الذين يتذكرون "العم طارق" في القاهرة يقولون إنهم يتذكرون ألمانياً طويل القامة، كان يحب التجول في الشوارع بالكاميرا، لكنه لم يرغب في التقاط صورته.
قال طارق عبد المنعم الرفاعي، طبيب الأسنان الذي عالج الرجل الذي كان يعرفه باسم طارق حسين فريد، في مقابلة هاتفية مع وكالة أسوشيتيد برس نقلها موقع ABC News: "لم أكن أعرف أنه طبيب وأنه أكثر مجرمي الحرب النازيين المطلوبين.. أنا مندهش".
وتابع: "لقد قدم نفسه لوالدي على أنه ألماني، وأنا أعلم أنه اعتنق الإسلام وغيَّر اسمه. الشيء الوحيد الذي عرفته عنه هو أنه هرب من اليهود".