بيت لم يكتفِ بدفء الشمس المقابلة لنوافذه، بل زاده دفء طيبة أهله، واجتماع الأولاد وضحكات الأحفاد، حتى بات مهدداً بالتلاشي ضمن قرابة 4500 مسكن في الحي السابع والسادس بمنطقة مدينة نصر، بعدما أصبحت خوازيق المونوريل تقابل نوافذ حجراته، وضجّ البيت بضوضاء الحفارات وموقع الإنشاء، فيما تتسم الأسباب بالضبابية وعدم الوضوح، تحت شعار "التطوير".
توجّه رب الأسرة إلى مكتب نائب محافظ القاهرة، مطلع يناير/كانون الثاني الماضي، بصحبة عدد من سكان المنطقة، بدعوة منه لإبلاغهم بالخبر، فيروي "أخبرنا المسؤولون بقرار الهدم، وبعدم توافر المعلومات عن تصورات إعادة التخطيط أو الجدول الزمني وموعد البدء"، أما عن المقترحات التعويضية عن السكن فتشمل العودة بعد الانتهاء من الإنشاءات، أو قبول شقق بمساحات أصغر في مناطق نائية، أو التعويض المادي بأسعار غير واقعية، بين 7 آلاف و9 آلاف جنيه للمتر.
الأهالي لم يقبلوا بالتعويضات
قال "لم يتقبل أي من الحاضرين الفكرة، ولا خيارات التعويضات"، بل بادر السكان باقتراح تشكيل لجنة هندسية يشترك معها مهندسون من المنطقة، لتحقيق المشاركة المجتمعية، وذلك للتأكد من وجود مبانٍ في حاجة للتطوير وحصرها وتحمل التكاليف، فأتى الرد بدعوى التطوير للمنطقة بالكامل.
تصمد المنطقة منذ 60 عاماً من إنشائها في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، ويُنسب الإنشاء للمعايير السوفييتية، بما يعرف عنها من متانة وقوة التصاميم وبُعدها عن العشوائية والتهالك، حيث لم تتأثر المنطقة بأقوى زلزال مر على مصر، والذي أحدث الخراب في غيرها من المناطق، فيمتد الحيان السادس والسابع طولياً على شكل بلوكات سكنية، يفصلهما شارع عريض باتجاهين، تتوسط الرصيف الفاصل بينهما حديقة طويلة مميزة للمكان بأشجار نخيل، وهو المشهد الذي تبدل بخوازيق طريق المونوريل. بينما يؤكد، بالرغم من تشييد ما يقرب من 40 عاموداً خرسانياً بطول الحي، وبعمق 15 متراً تقريباً تحت الأرض، بالاستعانة بحفارات ومعدات ثقيلة، فإن بنايته لم تهتز من ذلك الصخب، ولم يؤثر في جدرانها.
يكمل الجد عامه الـ13 بعد التقاعد، ويقضي أغلب وقته بالمنزل مع زوجته، فبعد إحالته إلى المعاش من عمله بقطاع التسويق بإحدى شركات المياه الغازية، أصبح المعاش الشهري يكفي احتياجات منزله بالكاد، ولا يتحمل تكاليف النقل لمسكن آخر، أو تعويض ما يُستهلك من منقولات، بالإضافة لتشطيب شقة أخرى في منطقة تنأى به عن بيوت أولاده وأحفاده، والحيوية التي اعتادها في الحي، وقد قدر التكاليف اللازمة لتنفيذ أي من تلك المقترحات بحوالي 500 ألف جنيه، مؤكداً "البيت كله مهم بالنسبالي، ليس لدي القدرة على تعويض ممتلكاتي مادياً أو معنوياً".
حياة على وشك الانهيار!
يسرد الزوجان تفاصيل يومهما الروتيني بالمنزل، يبدأ بالاستيقاظ في العاشرة صباحاً، بعد أداء صلاة الفجر في ميقاتها، ثم إعداد فطور خفيف وتصفح آخر الأخبار، سواء على مواقع التواصل الاجتماعي أو عبر التلفزيون، مع متابعة عدد من البرامج الاجتماعية والدينية، حتى تحين صلاة الظهر، فيتوجه الزوج إلى المسجد الملاصق لبناية منزله، بينما تبدأ الجدة في إعداد الغداء، خاصة عند استقبال الأولاد والأحفاد لقضاء الوقت معهما، يقولان إنه إضافة إلى المبلغ المادي الهزلي الذي ستعوضهم به الحكومة، مَن سيعوضهم الذكريات بعد هدم منازلهم؟!
تدور الأسرة في فلك المنطقة ومحيطها، بدءاً بالاقتراض من البنك لشراء البيت منذ 5 عقود بعقد مسجل، وتشطيبها وفرشها على مدار أكثر من سنة، وحتى مدارس الأولاد، ثم إنهاء أصغرهم المرحلة الثانوية بمجموع يؤهله لكلية الطب، فشهد المنزل احتفالاً عائلياً سعيداً، وعند الحديث عن أسعد ما مر عليهم في المنزل، يسارع الأب بذكر فترة التحضير لزواج أي من الأبناء، والذين فضّلوا السكن بالقرب من بيت العائلة، ليتعلق جيل آخر من الأحفاد بمنزل الجد والجدة.
يبقى الوضع على ما هو عليه
صدم خبر الهدم الأبناء، وانتابهم القلق حول مستقبل العائلة، واحتمال التفريق بينهم، لاسيما عند ابتعاد الوالدين المُسنين في حال قبول مقترح استبدال السكن، فيصبحان بمنأى عنهم، ويفصل بينهم ساعات من المواصلات بعدما كانوا على بعد دقائق، بالإضافة لمدى صعوبة الزيارات للاطمئنان عليهما وتلبية احتياجاتهما، ومتابعة أطبائهما.
يبقى الوضع على ما هو عليه، لا جديد يشهده الحي السابع والسادس سوى التقدم في إنشاء طريق المونوريل، يطل عليه سكان المنطقة متسائلين عن الغد، ولكن بلا إجابات شافية، بالرغم من تحرك النائبة مها عبد الناصر، وإثارة القضية تحت قبة البرلمان المصري، وصدور بيان مشترك من عدد من الأحزاب، فالتناول الإعلامي المصري يكاد يكون منعدماً.
تتعلق الأسرة ببقاء منزلها ولم شمل العائلة، والتخلص من حمل تكاليف النقل ومشقة السكن الجديد، خاصة بعد توصية الرئيس عبد الفتاح السيسي بضمان حقوق المواطنين، بما يحقق العدالة الاجتماعية، ما شجّعه على مخاطبة نائب محافظ القاهرة، ورئاسة حي غرب مدينة نصر، لتوضيح الآثار السلبية للهدم والإزالة على السكان، مختتماً حديثه "أياً كانت النتيجة لازم نعبّر عن اللي جوانا".