رئيس المجلس الأعلى للقضاء في تونس لـ”عربي بوست”: القضاء سلطة وليس وظيفة، وقيس سعيّد يريد قضاة خارج الدستور

تم النشر: 2022/01/31 الساعة 13:22 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/01/31 الساعة 13:46 بتوقيت غرينتش
يوسف بوزاخر، رئيس المجلس الأعلى للقضاء في تونس (صفحة المجلس على فيسبوك)

يعيش المجلس الأعلى للقضاء في تونس حرباً باردة غير خفية مع الرئيس التونسي قيس سعيّد، الذي أصبح يوجه انتقاداته علانية للمجلس، هذا الخير الذي أصبح العنوان العريض للخطابات الأخيرة للرئيس.

يوسف بوزاخر، رئيس المجلس الأعلى للقضاء في حوار مطول خص به "عربي بوست" تحدث عن المؤسسة التي يترأسها وموقفها من القرارات الأخيرة التي اتخذها الرئيس.

المجلس الأعلى للقضاء أصبح عنواناً رئيسياً للمعارك التي يخوضها الرئيس ضد ما يعتبره فساداً، فهل تعتبرون ذلك مشروعاً أم أنه تدخل مفضوح في الشأن القضائي؟

أولاً، لم أسمع الرئيس يتحدث عن المجلس الأعلى للقضاء كعنوان فساد ولا يمكن أن يكون المجلس عنوان فساد، ويمكن لأي أحدٍ أن يتهمنا بالفساد؛ لأن المجلس الأعلى للقضاء في تونس مؤسسة ما زالت فتيّة تم تشكيلها نهائياً في مايو سنة 2019، وحسابياً لدينا سنتان منذ انطلاق عملنا فقط.

ثانياً، محاربة الفساد لا تتم برمي مؤسسات الدولة، بل تتم بتضافر جهود الأجهزة الأمنية والقضائية بواسطة ملفات في نطاق احترام حق الدفاع ومبادئ المحاكمة العادلة.

أيضاً، فإن محاربة الفساد ليست خطابات، وإنما ملفات يتم تعهيد القضاء بها، وإذا كان هناك فساد في المجلس الأعلى للقضاء، وإذا كانت أي جهة تمتلك ملفات فساد حول المجلس ما عليها إلا إحالتها على القضاء المختص.

قيس سعيّد في استقباله لرئيس المجلس الأعلى للقضاء (الرئاسة التونسية على فيسبوك)
قيس سعيّد في استقباله لرئيس المجلس الأعلى للقضاء (الرئاسة التونسية على فيسبوك)

هل تعتقدون أن اتهام القضاة بالفساد والمحسوبية على لسان رئيس الجمهورية يأتي في سياق رغبته في تركيع الجهاز القضائي وإخضاعه لسلطته؟

الاتهام عندما يكون جزافياً وشاملاً ولا يستند إلى ملفات حقيقية يتعهد بها أمام القضاء لا يمكن أن تكون الغاية من ورائه إلا التشويه تمهيداً للسيطرة على القضاء، وتوجيه القضاة في اتجاه معين، ولذلك لا يمكن أن يكون هذا الاتهام إلا ضغطاً على القضاة في ممارستهم مهامهم.

لماذا حسب رأيكم يريد قيس سعيد إخضاع السلطة القضائية لمشيئته بأي شكل من الأشكال؟

واضح أن رئيس الجمهورية لديه رؤية حول المؤسسة القضائية والمجلس الأعلى للقضاء وللقضاء بصفة عامة. الرئيس تحدث عن القضاء كوظيفة وتحدث عن النيابة العامة، وعن تركيبة المجلس الأعلى للقضاء واختصاصاته ومدى تمتعه بالسلطة الترتيبية من عدمه، وهذا الحديث ينسف باب السلطة القضائية في الدستور، ومن الواضح أن الرئيس  يسعى إلى تحديد معالم للسلطة القضائية مغايرة عن ما هو موجود في دستور البلاد، وعن ما  تضبطه المعايير الدولية من استقلال القضاء. 

ما هو موقفكم من المرسوم الرئاسي الأخير القاضي بإلغاء جميع المنح والامتيازات الممنوحة لأعضاء المجلس الأعلى للقضاء؟

التدخل بواسطة المراسيم في قانون المجلس الأعلى للقضاء هو اعتداء على مبدأ التسيير الذاتي للمجلس واستقلاله الإداري والمالي، وهو ضرب الفصل 113 من الدستور، والغاية تتجاوز مسألة وقف المنح والامتيازات في اتجاه تحجيم دور المجلس وتحجيم اختصاصاته، لذلك عبرت الجلسة العامة للمجلس الأعلى للقضاء عن رفضها لهذا المرسوم المخالف للدستور والقانون الأساسي للميزانية ومعايير استقلالية المجلس، وبغض النظر عن وجود هذه المنح والامتيازات المجلس له نيابة انتخابية وله عهدة زمنية محددة في 6 سنوات، سنُكملها بغض النظر عن هذه المنح والامتيازات. 

أعلنتم في أكثر من بيان رفضكم المساس بالبناء الدستوري للسلطة القضائية عبر مراسيم رئاسية، فهل تعتبرون أن العمل بالمراسيم مخالف للدستور؟

المراسيم الرئاسية وسيلة اتخذها قيس سعيّد وجاء بها الأمر 117 لدفع خطر داهم شخّصه الرئيس وأعلمنا به شخصياً، ويتمثل هذا الخطر في تدهور الوضع الصحي العام، وتعطل الوظيفة التشريعية، ولم يتحدث مطلقاً عن القضاء كمحور من محاور الخطر الداهم الذي يمكن مجابهته بالمراسيم. لذلك نرفض المساس بالقضاء بواسطة المراسيم، أولاً، لأننا نعتبر أن باب السلطة القضائية في الدستور كفيل ببناء قضاء مستقل، وبالتالي ما نحتاجه ليس المساس بهذا الباب وإنما عصرنة المنظومة القضائية لتساير هذا الباب بآليات العمل القضائي الجديدة. ثانياً، تحيين النصوص الإجرائية، والقواعد الموضوعية، وبناء الهياكل القضائية التي تسمح بتنزيل باب السلطة القضائية على مستوى التشريع، وليس ضرب هذا الباب. ولما قلنا إننا نرفض المساس بباب السلطة القضائية في الدستور كنا نعلم الخطر من وراء ذلك، والدليل أن أول المراسيم التي تهم القضاء مثلت مساساً بالباب الخامس من الدستور.

هل سيمضي الرئيس في حل المجلس الأعلى للقضاء، أم أنه سيتراجع خوفاً من ردة فعل الجسم القضائي المتمسك باستقلاليته؟

حل المجلس الأعلى للقضاء هو حل ما تبقى من مؤسسات الدولة وإلغاء للدستور والضمانات الممنوحة للقضاة في وظيفتهم، لأن القاضي في جميع أنحاء العالم يقضي طبق القانون بغض النظر عن المصالح والأشخاص ولا سلطان عليه غير القانون، وبالتالي حل المجلس الأعلى للقضاء يعني تعليق العمل بالدستور، وتعليق لهذه الضمانات ولا يمكن الحديث بعدها عن العدالة، لذلك أستبعد أن يتم حل المجلس.

ماذا لو قام الرئيس بحل المجلس الأعلى للقضاء، كيف ستواجهون هذا القرار؟

أستبعد ذلك، ولكل حادث حديث.

لماذا دائماً السلطة القضائية في قلب المعركة السياسية منذ عقود؟

السلطة القضائية هي السلطة الوحيدة من بين السلطات الدائمة، باعتبار أن في جميع أنحاء العالم عدا بعض الاستثناءات القاضي يتم اختياره بناءً على مؤهلات علمية وعلى كفاءة وتكوين، بينما بقية السلطات تقوم عادةً على مبدأ الانتخاب، ولذلك أغلب الأنظمة حتى الديمقراطية منها تسعى للسيطرة على السلطة القضائية، وبالتالي هو صراع قديم ولن ينتهي مهما كان النظام.

كيف ستخوضون معركة الحفاظ على استقلالية السلطة القضائية؟

المتابع لأعمال المجلس الأعلى للقضاء خلال الأشهر الأخيرة يلاحظ ثبات المجلس في مواقفه باستقلال السلطة القضائية ودعواته المتكررة للقضاة لممارسة مهامهم والتمسك باستقلاليتهم. نحن سنستمر على هذا النهج، ونعتبر أنفسنا كمجلس أعلى للقضاء الضمانة الأساسية للحفاظ على هذه الاستقلالية. 

هناك أحزاب ومنظمات تدفع الرئيس إلى حل المجلس الأعلى للقضاء، ما مصلحتها في ذلك؟

غاية بعض الأحزاب والمنظمات من وراء هذه الدعوات المتكررة لحل المجلس تُسأل عنها هذه القوى، ولكن ما يمكن قوله هو أن غالبية الطيف السياسي والمدني في تونس كان مناصراً لقانون المجلس الأعلى للقضاء، ومناصراً لتركيزه بالمبادرة التشريعية، ودعواتهم اليوم هي دعوات غير مفهومة تنم عن قصور في النظر ورغبة في هدم البناء لا رغبة في الإصلاح، فالمسألة سياسية بدائية وعبثية. 

هل تعتقدون أن قيس سعيّد يُؤلب الرأي العام على القضاة في وقت تعيش فيه البلاد أعنف أزمة سياسية واقتصادية؟

تأليب الرأي العام على القضاة والقضاء والمجلس الأعلى للقضاء أصبح رياضة وطنية ليست خاصة برئيس الجمهورية فقط، وأنا أعتبر أن الغاية من وراء تأليب الرأي العام على القضاة هي الإفلات من المحاسبة أمام قضاء قوي وكذلك محاولة توجيه للقضاء في اتجاه معين. 

الرئيس يقول إن جزءاً من القضاة لا يزال تابعاً لجهات سياسية، ما حقيقة ذلك؟

محاسبة القضاة تتم بواسطة ملفات، وأذكّر في هذا المجال بأن جهاز التفتيش القضائي وجهاز البحث في ما ينسب من تجاوزات للقضاة هو تحت إمرة السلطة التنفيذية ممثلة في وزارة العدل عن طريق التفقدية العامة، والتي تعمل طبق الأمر المنظم لوزارة العدل انطلاقاً من أذون بمأمورية من وزير العدل، فإذا كان ما ينسب من تجاوزات للقضاة موجوداً فعلى مختلف الجهات التوجه إلى جهاز التفقدية.

هناك صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي تستهدف القضاة، كيف تتعاملون مع هذه الصفحات؟

هذه الصفحات هي محل متابعة قضائية، وأدعو السلطة التنفيذية ممثلة في الأجهزة الأمنية المتخصصة إلى التعاون مع الجهات القضائية لمحاسبة المشرفين على هذه الصفحات. 

الرئيس دائماً يلمح إلى تقصير القضاء في التعاطي مع بعض الملفات الخطيرة (الإرهاب، الاغتيالات، نهب المال العام..)، ما رأيكم؟

التقصير موجود، منه ما يمكن أن ينسب للجهاز القضائي بصفة عامة، ولكن في جانب كبير منه مسؤولة عليه السلطة التنفيذية باعتبارها المسؤولة عن البحث في الجرائم وتتبع مرتكبيها وإحالة الملفات على القضاء، ومسؤولة عن توفير الآليات الضرورية لعمل القضاة وعن تنفيذ القرارات القضائية، وعن إيجاد تعاون دولي يسمح بتتبع هذه الجرائم والتي عادةً ما تكون عابرةً للحدود، كذلك هي مسؤولة عن توفير فرق مختصة للبحث في هذا المجال، إضافة إلى توفير المساعدة القضائية من ذوي الخبرات في مجال مكافحة الفساد وتتبع الجرائم الإرهابية، لذا أقول إنه مطلوب من القضاة رفع أدائهم في هذا المجال، ومطلوب أيضاً من السلطة التنفيذية تدارك النقص فيما ذكر.

الرئيس التونسي قيس سعيّد (الرئاسة التونسية على فيسبوك)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (الرئاسة التونسية على فيسبوك)

اليوم هناك ملفات قضائية تُطرح للنقاش في بلاتوهات إعلامية، أليس في ذلك مساساً بمقتضيات المحاكمة العادلة؟

الرأي العام في نظام ديمقراطي وفي إطار دستوري لديه دور كبير في تسليط الرقابة على الأعمال القضائية، وبديهي أن الزمن القضائي يختلف عن الزمن الإعلامي، وإن كان من حق الجميع إبداء الرأي في عمل القضاء بصفة عامة، لكن لا يمكن بأي حال أن يتحول ذلك إلى ضغط على عمل القضاة الذي يتم طبق إجراءات ومعايير قانونية ومقتضيات المحاكمة العادلة.

لماذا لم يبادر المجلس الأعلى للقضاء بتقديم مشروع لإصلاح المنظومة القضائية؟

المجلس الأعلى للقضاء حديث التشكيل، وبقي لمدة سنتين دون مقر، ولم يُشكل إدارته إلا سنة 2020، ولم يتقدم بمشاريع إصلاح لأنه لم يقع تحديد الإطار المؤسساتي لمقترحات المجلس الأعلى للقضاء. وأذكّر هنا بأن المجلس خلال فترة الحجر الصحي الشامل تقدم بمقترح قانون لتعليق آجال التقاضي حفظاً للحقوق، وكان هذا مطلب الجميع، من المحامين والقضاة والمتقاضين بالنظر لاستحالة التنقل ولتعطل العمل بالمحاكم. المقترح قدمناه لمجلس نواب الشعب فتم رفضه؛ لأن المجلس لا يملك المبادرة التشريعية.

هل تعتقدون أن هناك تهديدات جدية بإلغاء القضاء كسلطة وتحويله إلى مجرد وظيفة خاصة، بعدما قال الرئيس في أحد خطاباته إنه "لا وجود لدولة القضاة هم قضاة الدولة"؟

تواتر الحديث مؤخراً حول قضاء الوظيفة وحول المرفق العمومي القضائي، وما أقوله هو أنه حتى في فترة بناء الدولة الوطنية ولو أن دستور 1959 تحدث عن الوظيفة القضائية، لكن لم يتم إلغاء القول بأن القضاء سلطة، كان الحديث في نقاشات المجلس القومي التأسيسي عن القضاء كسلطة من سلط الدولة وتمت عنونة باب القضاء في دستور 1959 بالسلطة القضائية، ودستور 2014 كرّس هذه السلطة القضائية، وجميع الدساتير في العالم تتحدث عن السلطة القضائية، وإعادة طرح هذا المفهوم في هذا الوقت أعتقد أنه خارج السياق، وأن القضاء لا يمكن أن يقوم بدوره ما لم نعترف به كسلطة من سلط الدولة، وهو شرط أساسي في المواثيق الدولية المصادق عليها من الدولة التونسية.

6 سنوات مرت ولم تصوغوا النظام الداخلي للمجلس؟

النظام الداخلي للمجلس الأعلى للقضاء تمت صياغته وتم عرضه على المحكمة الإدارية لإبداء رأيها الاستشاري، وتم تلقي هذا الرأي الاستشاري والتأخير في صياغته تبرره ربما النقاشات المطولة حول فصوله الضرورية، باعتبار أن المصادقة عليه تتم بثلثي أعضاء المجلس ولا يشكل عائقاً أمام قيام المجلس بدوره ومهامه الأساسية. 

لماذا لم تقدموا مشروع تنقيح النظام الأساسي للقضاة النافذ منذ سنة 1967؟

في خصوص المقترحات كنت قد تحدثت عن مسألة الإطار المؤسساتي لتقديم مقترحات، سواء تعلقت بالقانون الأساسي للقضاة أو بالسياسة الجزائية للدولة، وهذا يستدعي حواراً شاملاً تنخرط فيه بقية السلطات والمعنيين بالشأن القضائي، وبناء القضاء هو شأن وطني لا يتحمل مسؤوليته المجلس الأعلى للقضاء وحده. 

لماذا تحولتم إلى هيكل فئوي تطغى عليه النزعة النقابية؟

لا يمكن القول إن المجلس الأعلى للقضاء تحول إلى هيكل فئوي ذي نزعة نقابية، والدليل أن أكثر النقد الذي وُجّه للمجلس هو من هياكل القضاة وهياكل المحامين وغيرهم من المعنيين بالشأن القضائي، ولا أعتقد أن المجلس الأعلى للقضاء هو هيكل تمثيلي حتى نتحدث عن تحوله إلى هيكل نقابي. 

ما هو تقييمكم لأداء المجلس الأعلى للقضاء وطريقة تعاطيه مع الملفات الحارقة؟

ما فعله المجلس الأعلى للقضاء في مسألة محاربة الفساد لن تجدوا له نظيراً، وكل من يتحدث عن تقصير من المجلس في ملف الطيب راشد والبشير العكرمي مُخطئ، فالمجلس هو من أثار هذه الملفات، وهو من تولى التتبع وترتيب الآثار على التجاوزات، وهذا أقوله للمرة الألف، فلا داعي لركوب الأحداث في هذا الملف بالذات أو توظيفه. 

أما عن رضانا عن المجلس فنحن أول من قال إن قانون المجلس الأعلى للقضاء ينبغي إصلاحه، ولكن الإصلاح لا يكون إلا بطريقة تشاركية، والتشاركية لا تكون إلا في إطار الوضع العادي، وفي إطار تواجد جميع مؤسسات الدولة، وفي إطار يسمح بالطعن في الأعمال في هذا المجال، لذلك قلنا إن الإصلاح لا يتم إلا بعد الخروج من الحالة الاستثنائية، وهو المنهج المتبع عادة في جميع الدول التي مرّت بمراحل استثنائية كالتي نمر بها.

تحميل المزيد