وصلت أصداء الازمة السياسية الحالية فى العراق، والتى أنتجتها الانتخابات البرلمانية المبكرة التى أجريت فى العاشر من أكتوبر 2021، إلى داخل الجمهورية الإسلامية الإيرانية، خاصة بعد الزيارات المتكررة لقائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، الجنرال اسماعيل قاآني، فى محاولة لحل هذه الخلافات دون جدوى.
هل تم نقل ملف العراق من فيلق القدس إلى المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني؟
في آخر زيارة له للعراق، والتي تناولها "عربي بوست" في تقرير سابق، حاول قائد فيلق القدس الإيراني، الجنرال إسماعيل قاآني، من خلال اجتماعه بقادة الإطار التنسيقي الشيعي، طرح عدد من الحلول للخروج من الجمود السياسي الحالي في العراق. وبحسب مسؤولين إيرانيين وعراقيين تحدثوا لـ"عربي بوست"، في وقت سابق، فإنه قدم النصيحة الإيرانية وهي "إذا أصر مقتدى الصدر على إقصاء نوري المالكي، مقابل مشاركة الإطار التنسيقي في تشكيل الحكومة المقبلة، فمن الأفضل أن يجلس الإطار التنسيقي في مقاعد المعارضة، واكتساب ثقة الجماهير مجدداً".
مقتدى الصدر.. الفائز الأكبر في الانتخابات البرلمانية
جدير بالذكر، أن التيار الصدري بزعامة رجل الدين الشيعي والسياسي، مقتدى الصدر، يعتبر الفائزَ الأكبر في الانتخابات البرلمانية، ويحق له تشكيل الحكومة المقبلة وتسمية رئيس الوزراء المستقبلي، وقد عارض الصدر وعلى ما يبدو أنه مصمم على موقفه المتمثل في تشكيل حكومة أغلبية وطنية، بعيداً عن العرف السياسي السائد منذ عام 2003، بتشكيل حكومات توافقية، تشارك فيها جميع الأحزاب الشيعية التقليدية.
وبحسب قادة في الإطار التنسيقي، وهو مؤسسة تضم أغلب الأحزاب الشيعية العراقية المعتدلة أو المقربة من إيران، فإن عدداً كبيراً من قادة الإطار التنسيقي رفضوا النصيحة الإيرانية التي حملها قائد فيلق القدس الإيراني، الجنرال إسماعيل قاآني.
يقول قائد بارز في الإطار التنسيقي الشيعي العراقي، لـ"عربي بوست": "القادة في الإطار اعتبروا النصيحة الإيرانية أو نصيحة قاآني، بالانضمام إلى المعارضة، بمثابة انتحار سياسي للأحزاب الشيعية، ولا تمثل أي حل للأزمة السياسية الحالية، بل نظروا إليها على أنها بداية النهاية لمستقبلهم السياسي".
لم تسفر زيارة الجنرال إسماعيل قاآني، في 16 يناير/كانون الثاني 2022، عن أي نتيجة، وعاد إلى طهران خاليَ الوفاض. حينها أدركت القيادة العليا في إيران أن الأمور قد تذهب إلى الأسوأ، وأن الصراع والانقسام الحالي داخل "البيت الشيعي" العراقي قد ينذران بمزيد من الانهيار السياسي في الجارة الغربية.
علِم "عربي بوست" من مصادر أمنية وسياسية إيرانية، أن المرشد الأعلى الإيراني، آية الله علي خامنئي، يتابع مسألة الصراع السياسي العراقي بمزيد من الاهتمام، وبعد زيارة إسماعيل قاآني في 16 يناير/كانون الثاني، تمت مناقشة أمر نقل الملف العراقي من فيلق القدس إلى المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني.
يقول مصدر أمني إيراني مقرب من سكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، لـ"عربي بوست"، إن "السيد خامنئي أعلن عن استيائه وقلقه مما يحدث في العراق مؤخراً، وناقش مع عدد من مسؤولي المخابرات والمجلس الأعلى للأمن القومي، أسباب ما يمكن أن نسميه عدم نجاح الجنرال قاآني في إيجاد حل للصراع السياسي الشيعي بالعراق".
وبحسب المصدر السابق، فإن هذه المناقشات بين المرشد الأعلى الإيراني والمسؤولين الأمنيين، أسفرت عن نقل ملف العراق من فيلق القدس إلى المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، بشكل كبير، فيقول المسؤول الأمني الإيراني لـ"عربي بوست": "السيد خامنئي يثق بقدرات السيد شمخاني في إدارة ملف العراق، ويعلم أنه سيلعب دوراً مهماً في الأزمة السياسية الحالية التي أصابت البيت الشيعي العراقي، لكن في الوقت نفسه لا يريد إقصاء فيلق القدس بالكامل، لذلك سيظل فيلق القدس أيضاً مسؤولاً عن ملف العراق، لكن بمساعدة مؤسسات أمنية إيرانية أخرى".
اقتراح قاآني التفاوض مع الصدر
يقول مسؤول بارز في مكتب المرشد الأعلى الإيراني، آية الله علي خامنئي، لـ"عربي بوست"، إن الجنرال إسماعيل قاآني قد اقترح على القيادة العليا في طهران التفاوض المباشر مع مقتدى الصدر؛ في محاولة لحل الأزمة الحالية بالعراق، "كان اقتراح الجنرال قاآني التفاوض مع الصدر مرفوضاً بالنسبة للسيد خامنئي، على الأقل في الوقت الحالي، لأنه يعلم أن الصدر لا يمكن الوثوق بوعوده والتزاماته بشكل كبير".
وعندما علِم قادة الإطار التنسيقي الشيعي في العراق باقتراح الجنرال إسماعيل قاآني التفاوض مع الصدر، خاصةً أن مقتدى الصدر قد أبلغ قادة الإطار بشرطه الرئيسي للتحالف معهم في تشكيل الحكومة المقبلة وهو: استبعاد نوري المالكي، رئيس الوزراء السابق (2006:2014)، من أي عملية سياسية مستقبلية- أصابتهم خيبة الأمل.
يقول قائد سياسي في الإطار التنسيقي الشيعي، لـ"عربي بوست": "الجنرال قاآني غير قادر على التوصل إلى حل يُرضي جميع الأطراف من خلال التفاوض مع الصدر، سليماني فقط من كان يستطيع ذلك".
تجدر الإشارة هنا إلى أنه في الانتخابات البرلمانية السابقة في عام 2018، قد حقق التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر، نجاحاً كبيراً أيضاً، بحصوله على 54 مقعداً في البرلمان العراقي المكون من 329 مقعداً، مُشكِّلًا أيضاً الكتلة البرلمانية الأكبر، وفي المقابل كان "تحالف الفتح" بقيادة هادي العامري- وهو التحالف السياسي الذي يضم الأجنحة السياسية للفصائل المسلحة العراقية المقربة من إيران- قد حصل على نحو 48 مقعداً، حينها ومنعاً لانفراد مقتدى الصدر بتشكيل الحكومة، سافر القائد السابق لفيلق القدس، قاسم سليماني، إلى بغداد بشكل سريع للغاية، والتقى كافة الأطراف الشيعية، وضمنهم مقتدى الصدر، وكانت نتيجة هذه الاجتماعات تحالف الصدر مع هادي العامري زعيم "تحالف الفتح"، وشكَّل الحزبان حكومة 2018 برئاسة رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي، الذي استقال في نهاية عام 2019، على أثر المطالبة بالإطاحة به من قِبل المحتجين العراقيين، الذين نزلوا للتظاهر في أكتوبر/تشرين الأول 2019.
نهج قاآني المختلف عن سليماني
يقول مسؤول بارز في مكتب المرشد الأعلى الإيراني، آية الله علي خامنئي، لـ"عربي بوست"، إنَّ "نهج قاآني مختلف تماماً عن نهج سليماني، قاآني اتبع نهجاً ترك فيه الحلفاء العراقيين لتقرير مصيرهم السياسي بأنفسهم، بينما كان الراحل سليماني، وفقاً لمكانته المتميزة بين القادة العراقيين، مُطلعاً على الأمور كافة ويقدّم مساعدته الدائمة لحل الأزمات السياسية والأمنية في العراق".
وفي السياق نفسه، يقول مسؤول أمني إيراني، مقرب من علي شمخاني، سكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، لـ"عربي بوست": "بعد وفاة سليماني، إذا جاز التعبير، لم يقم قاآني باحتواء كامل للفصائل الشيعية العراقية، وندرك أن هذا التغيير في النهج قد تسبب بكثير من الانقسامات والصراعات الداخلية في البيت الشيعي العراقي، هذا لا يعني إقصاء فيلق القدس تماماً عن إدارة ملف العراق، لكن في الوقت نفسه تدرك القيادة العليا الإيرانية أن الأمر يحتاج إلى مساعدة مؤسسات أمنية إيرانية أخرى كالمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني".
تجدر الإشارة هنا إلى أن مسألة مشاركة أو نقل ملف العراق من فيلق القدس إلى المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، ووزارة المخابرات الإيرانية، قد تمت بأمر مباشر من الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، بحسب مصدر سياسي مقرب من الأخير، بعد مشاورات عديدة مع المسؤولين الأمنيين. وبالتأكيد بعد طلب من المرشد الأعلى الإيراني.
الخلاف على رئاسة الوزراء في العراق يزيد من قلق طهران
وفي الوقت نفسه، كانت مسألة اختيار رئيس الوزراء العراقي المقبل، من ضمن الأمور التي تزيد من قلق المؤسسة العليا في الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وفي هذا الصدد، يقول مسؤول أمني بوزارة المخابرات الإيرانية، لـ"عربي بوست": "الصدر يريد تعيين العبادي رئيساً للوزراء، وهذا أمر مقلق بالنسبة لطهران".
تولى حيدر العبادي منصب رئيس الوزراء في الفترة ما بين 2014 و2018، ويتزعم أيضاً "تحالف النصر" الذى خاض الانتخابات البرلمانية في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول 2021، بالتحالف مع تيار الحكمة بزعامة عمار الحكيم، وتكبد أيضاً خسارة فادحة بحصول التحالف على عشر مقاعد فقط. وتجدر الإشارة إلى أن حيدر العبادي لا يتمتع بعلاقات جيدة مع طهران، وقد أشار مراراً وتكراراً في السابق، إلى أن الجمهورية الإسلامية كانت دائماً تعارض دوره كرئيس للوزراء، وهي من أطاحت به في عام 2018.
وبحسب المسؤول الأمني الإيراني، فإن طهران تريد الإبقاء على رئيس الوزراء الحالي، مصطفى الكاظمي، الذى يحظى بعلاقة طيبة مع مقتدى الصدر والجمهورية الإسلامية، فيقول لـ"عربي بوست": "الصدر يحاول بشتى الطرق، تعيين العبادي رئيساً للوزراء، وفي الوقت نفسه، ترى القيادة العليا الإيرانية أن الكاظمي هو الخيار الأمثل لهذه المرحلة".
وفي ضوء هذه التوترات التي تدور داخل طهران بسبب اختيار رئيس الوزراء العراقي المقبل، يقول قائد سياسي في الإطار التنسيقي الشيعي العراقي، لـ"عربي بوست": "الإيرانيون لا يحبون العبادي، كما أنهم يرون أن مصلحتهم الحالية مع الكاظمي، الذي يشرف على المحادثات الإيرانية-السعودية، التي تريد طهران إنجاحها، لذلك من الممكن أن يتمسك الصدر بخيار العبادي كرئيس للوزراء، حينها ستكبر الأزمة السياسية الحالية وتزداد سوءاً".
علِم "عربي بوست"، من مصادر أمنية وسياسية إيرانية، أنه قد تم إجراء اجتماع بين سكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، والمرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي؛ من أجل التوصل إلى لمسألة اختيار رئيس الوزراء العراقي المقبل، فيقول مسؤول أمني إيراني لـ"عربي بوست": "في هذا الاجتماع تمت مناقشة منح الكاظمي ولاية ثانية، في مقابل تمسُّك الصدر بتعيين حيدر العبادي، ومن المتوقع في الأيام المقبلة، أن يتولى السيد شمخاني هذه المسألة؛ لكىلا تكون أزمة جديدة تضاف إلى قائمة الأزمات الحالية في العراق".
هل منحُ الكاظمي ولاية ثانية سيكون سبباً في زيادة التوتر بين طهران وحلفائها العراقيين؟
يعلم حلفاء إيران في العراق رغبة الجمهورية الإسلامية في منح ولاية ثانية للكاظمي، وهذه المسألة تزيد من التوتر الحالي بين طهران والفصائل المسلحة العراقية بالتحديد.
فمنذ توليه منصبه في مايو/أيار 2020، دخل رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، في صراع مفتوح مع الفصائل المسلحة الشيعية العراقية، المدعومة من إيران، وقد اتهمته كتائب حزب الله العراقية- وهي فصيل مسلح قوي ومدعوم إيرانياً- علانيةً بتورطه في اغتيال الولايات المتحدة قائد فيلق القدس السابق، الجنرال الإيراني قاسم سليماني، ورفيقه العراقي نائب رئيس وحدات الحشد الشعبي، أبو مهدي المهندس، في يناير/كانون الثاني 2020، عندما كان الكاظمي يترأس جهاز المخابرات الوطني العراقي.
يقول قائد شبه عسكري في "عصائب أهل الحق"، لـ"عربي بوست": "نرفض منح الكاظمي ولاية ثانية، الإيرانيون يريدون استكمال المحادثات مع السعودية، ويريدون الانتهاء من أزمة الاتفاق النووي، لكن ذلك لن يكون على مصلحة الشعب العراقي".
"عصائب أهل الحق"، بزعامة قيس الخزعلي، واحد من أهم وأكبر الفصائل المسلحة الشيعية في العراق، والمقربة من إيران. لكن منذ اغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني، أعلن قيس الخزعلي مراراً وتكراراً، تمرده على الأوامر الإيرانية في أكثر من مناسبة سابقة، مما زاد من حدة التوترات بين طهران وحلفائها في العراق.
وفي هذا الصدد، يقول قائد بـ"عصائب أهل الحق" مقرب من زعيمها، قيس الخزعلي، لـ"عربي بوست": "السيد قاآني طلب منا الانضمام إلى المعارضة، كما أن الإيرانيين يريدون منح الكاظمي ولاية ثانية، وكل هذه الأمور تتعارض مع رؤيتنا للمستقبل السياسي في العراق، وإذا رفضنا هذه الأوامر، يتم تهديدنا بقطع المساعدة، لكننا الآن أقوى من ذي قبل، وقادرون على صنع أسلحتنا بأنفسنا".
انقسام "البيت الشيعي" العراقي ضربة موجعة لطهران
إلى الآن، لم يتمكن القادة العراقيون ولا المسؤولون الإيرانيون من إيجاد حل للأزمة السياسية العراقية، كما أنه وبحسب عدد من القادة بالإطار التنسيقي الشيعي العراقي، تحدثوا لـ"عربي بوست"، تعيد بعض الأطراف في الإطار التنسيقي، النظر في إمكانية التحالف مع مقتدى الصدر مقابل استبعاد نوري المالكي.
يقول مصدر إيراني مطلع على الملف العراقي، لـ"عربي بوست": "إذا انضم بعض قادة الإطار التنسيقي إلى الصدر، فهذا يعني إصابة البيت الشيعي العراقي في مقتل، مما سيترك آثاره السلبية على طهران أيضاً".
ويرى المصدر السابق، أن انهيار البيت الشيعي العراقي، واستمرار الأزمة السياسية الحالية، إضافة إلى استمرار مقتدى الصدر في عناده وإصراره على إقصاء نوري المالكي، وتشتيت الإطار التنسيقي الشيعي، ستكون جميعها بمثابة أزمة كبيرة في الجمهورية الإسلامية. فيقول: "هذا الأمر يعد من أكبر مخاوف القيادة العليا في طهران، وهذا ما كنا نخشاه من بعد وفاة قاسم سليماني".