شهادات مروعة حول تعذيب السوريين إبان اندلاع الثورة.. صحفي بريطاني يكشف دور أحد جلادي النظام

عربي بوست
تم النشر: 2022/01/14 الساعة 22:48 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/01/14 الساعة 22:49 بتوقيت غرينتش
الضابط السوري السابق أنور رسلان في محكمة بألمانيا - رويترز

نقل تقرير لصحيفة The Times البريطانية، الجمعة 14 يناير/كانون الثاني 2022، شهادات مروعة دوَّنها الصحفي ريتشارد سبنسر، لفضائع التعذيب التي تعرض لها سوريون في أوج الانتفاضة السورية، التي كان يغطيها من العاصمة دمشق، خاصةً الحكايات التي تتحدث عن مركز احتجاز الخطيب أو "الفرع 251" في سوريا، حيث كان واحداً من جلادي الدولة البوليسية. 

لم يكن ريتشارد سبنسر محتجَّاً سورياً، ولا مدوِّناً معارضاً مثل حسين غرير، بل كان مراسلاً صحفياً مصرَّحاً له، ومن ثم لم يكن عليه أن يخاف مثل هؤلاء عندما احتُجز في الفرع فترة وجيزة في عام 2012، ومع ذلك، فقد أتاح له ذلك الاحتجاز فرصةً ليرى الفرع 251 في دمشق رأي العين، ولا شك في أنها لم تكن تجربة حسنة.

داخل "الفرع 251"

كان السجَّان فظاً في صراحته، وقال للمعتقل حسين غرير، أحد ضحايا التعذيب في مركز احتجاز الخطيب أو "الفرع 251" بسوريا: "سآخذك إلى ما وراء الشمس، حتى الذباب لن يعرف مكانك".

لم يتعرض سبنسر لأي مضايقات، وإن كان أحد الرجال قد لوَّح غاضباً بسلاح الكلاشينكوف أمام وجهه عندما حاول، بعد ساعتين من الانتظار، أن يؤكد حقه في المغادرة، لأنه "ضيف" على الفرع، وليس أحد المعتقلين فيه.

بعد ذلك بوقت قصير، أُدخل سبنسر إلى غرفة مملوءة برفوف الكتب، ودخل بعدها أنور رسلان، ولم يكن المراسل البريطاني يعرف الضابط السوري في ذلك الوقت، لكنه لاحظ أنه يحمل شارة العقيد.

تعرَّف سبنسر على هوية أنور رسلان بعد تلك الواقعة بنحو ثماني سنوات، في أثناء إعداده تقريراً عن بدء محاكمة الأخير في ألمانيا، فقد تبَّينه من صورته.

كان سبنسر قد وصل للتو إلى البلاد؛ لنقل أخبار الانتفاضة التي اندلعت في أرجائها، وكان يحمل تصريحاً صحفياً، لكن ذلك لم يمنع توقيفه عند إحدى نقاط التفتيش، ليُحتجز ويُنقل بعدها إلى الفرع 251. ويروي سبنسر أن رسلان عامله بنوع من التهذيب، وهو السلوك الذي يشهد آخرون ممن قابلوه خارج المعتقلات بأنه يتحلى به، وقد سأله عما كان يفعله بالتجول في دمشق في وسط الاحتجاجات.

يتذكر سبنسر أن الاستجواب كان طويلاً ودقيقاً، وقد أخذ رسلان يدوِّن إجاباته في محضر كان يجب أن يوقع عليه قبل السماح له بالمغادرة، وإعادته على مضض إلى محل إقامته بفندق فورسيزونز، حيث غرفته الفارغة الفاخرة في قلب المدينة التي كانت قد تحولت بالفعل إلى مدينة بائسة في ذلك الوقت من أبريل/نيسان 2012.

شهادات تعذيب

ينتقل سبنسر إلى شهادة حسين غرير، الذي كان معتقلاً بالسجن نفسه، حتى إنه كان يُستجوب في الدور الذي يقع أسفل مكتب رسلان، لكن غرير يتطرق إلى الفظائع التي تعرض لها هناك، فيقول: "في كل جلسة تحقيق، كنت أُضرب على قدمي وعلى جميع أنحاء جسدي بالأحزمة وكابلات الكهرباء والعصي".

في الوقت الذي احتُجز فيه سبنسر، كان غرير في محطة أخرى من منظومة السجون التي أقامها نظام الأسد، "ضيفاً" على المخابرات الجوية، ذراع الدولة الأمنية الأشد بطشاً في الشوارع. وقد تلطفت به الأقدار أن نجا، فقد كان معتقلاً في المنشأة الواقعة بمطار المزة العسكري، على أطراف دمشق، حيث المكان الذي التقط فيه "قيصر"، وهو الاسم المستعار لأحد أفراد النظام المنشقين، مجموعة هائلة من صور القتلى لمعتقلين تعرضوا للتعذيب والتنكيل وتُركوا نهباً للموت البطيء.

تحدث سبنسر إلى شاهدة أخرى، هي خلود حلمي، التي نُقل شقيقها الأصغر طالب الماجستير إلى سجن المزة بعد اعتقاله من منزل العائلة في عام 2012.

تقول خلود إن أسرتها لم تر شقيقها المعتقل مرة أخرى، ولم يتلقوا أي إخطار رسمي عن مكان وجوده منذ أن اعتقله أفراد النظام، فهو لايزال واحداً من بين أكثر من 100 ألف شخص اختفوا منذ بدء الثورة السورية.

ينقل سبنسر عن السوريين قولهم إن الدولة البوليسية في سوريا تنطوي على طبقات عديدة،  رأى هو الطبقة السطحية منها، ولمح بعض وحشيتها، لكن تلك الطبقة تخفي تحتها طبقة أخرى أشد وحشية، شهدَ ويلاتها غرير ومعتقلون سوريون لا حصر لهم. ففي فترة واحدة كان كان فيها رسلان مسؤولاً عن الفرع 251، ضمت قائمة المعتقلين 4 آلاف شخص، كابد فيها هؤلاء مختلف وسائل التعذيب، من الضرب والجلد، والصدمات الكهربائية و"التشبيح"، حيث يُعلَّق السجناء من معاصمهم حتى يُغشى عليهم.

ثم، هناك طبقة أخرى تحت هذه الطبقة من طبقات الدولة البوليسية، وهي التي تسود فيها حالات الاختفاء والمقابر الجماعية والإعدامات بالجملة، وقد التقطت على مر السنوات السابقة صور عديدة توثق بعض هذه الويلات.

في وقت ما من خمسينيات القرن الماضي، حلَّ ألويس برونر، مجرم الحرب النازي الهارب، على سوريا، ويقال إنه عمِل مستشاراً لحافظ الأسد، ونقل إلى النظام السوري الذي منحه اللجوء لبقية حياته، خبراته في أساليب التعذيب والتنكيل.

أجساد محررة وأرواح مسجونة

قد تكون هذه الرواية مجرد قصة تتناقلها الألسن دون دليل، لكن الثابت أن سوريا مرَّ عليها كثيرون ممن يُشتبه في أنهم جعلوها حقلاً لتجارب التعذيب: العثمانيون، والفرنسيون الذين فرضوا "انتدابهم" الاستعماري في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، وحتى المصريون.

لعل ذلك الرسوخ لنظام القمع ومنظومة التعذيب هو الذي يفسِّر شعور الانفصال العجيب الذي هيمن على رسلان في تعامله مع الأهوال التي أخذت تُروى في المحاكمة، وعدم استنكاره اتهام النظام السوري بممارسة التعذيب، ولا رتبته في الأجهزة الأمنية، لكن إنكاره في الوقت نفسه لأي مسؤولية شخصية عليه ورفضه الاعتذار للضحايا.

مازن درويش، محامٍ سوري قضى 5 سنوات في سجون النظام وقدَّم توثيقاً لفظائع الفرع 251 في المحاكمة، استخدم تعبيراً مثيراً للاهتمام عندما سُئل عن شعوره الآن، بعد أكثر من 6 سنوات من مغادرته سوريا، إذ قال: "جسدياً، أنا نجوت، لكن عقلياً، لن تفارقني آثار ما حدث أبداً، إنه شيء لا ينتهي بإطلاق سراحك".

يقول درويش إنه ظل ستة أشهر، بعد إطلاق سراحه، عاجزاً عن النظر في عيني زوجته. فقد ظل لسنوات من الاعتقال لا يُسمح له بالنظر إلا إلى الأرض، إذ لا يُسمح للمعتقلين بالنظر في عيون سجَّانيهم. وهو يعاني حتى الآن لإجبار نفسه على إجراء حوار مباشر مع أي شخص. ويرثي ما فقده بالقول: "أفتقد مازن الذي كنت أعرفه. أفتقد ما قُتل بداخلي".

تحميل المزيد