في جو تفوح منه رائحة دخان البخور، وداخل غرفة صغيرة بإحدى المناطق الشعبية الفقيرة، يتجمع بعض الأشخاص مرتدين الملابس نفسها والألوان نفسها، الكل يرقص على أصوات دقات طبول وأغانٍ غريبة لا تستطيع أن تفرّق ما إذا كانوا سيدات أو رجالاً، ما تستطيع أن تحدده بالفعل هو وجود شخص يقف في وسط هذه الحلقة التي يلتف حولها الجميع والتي أقيم الزار من أجلها اعتقاداً بأن الشخص "ملبوس" من الجان وأن تلك الطريقة هي التي ستُخلصه من آلامها.
يعتمد الزار على استخدام بعض الأدوات البسيطة، دف وبخور، وتراتيل يعتقد مرتادو الزار أنها تشفيهم أو تُشعرهم على أقل تقدير بالراحة النفسية.
بديل لعيادات الطب النفسي
سلمى، واحدة من هؤلاء، ترتاد الزار بشكل دوري وتقول إنه أصبح بديلاً لعيادات الطب النفسي بعدما ارتفعت أسعارها بشكل مبالغ فيه.
قطعت "سلمى" مسافة 30 كيلومتراً، من التجمع الخامس وصولاً إلى حي الزمالك، لتصل في الموعد المحدد، تقف أمام بناية قديمة مكونة من ثلاثة أدوار، تدلف بقدميها إلى الدور الأول، تطرق الباب فتستقبلها فتاة ثلاثينية بابتسامة تبعث الطمأنينة، وتصطحبها إلى باب آخر يوصلها إلى "البدروم".
يتوسط البدروم فانوس كبير يشع نوراً أخضر منبعثاً من لمبة خضراء بداخله، موضوعاً على منضدة في منتصف الغرفة المتسعة التي تكتسي أرضيتها بسجاد باللون الأخضر كذلك، في المقدمة يقف الشباب بصفوف متاخمة للحوائط، وفي نهاية الرواق يوجد أنتريه تجلس عليه الفتيات كباراً وصغاراً، بعضهم يجلس على الأرض والبعض الآخر يستند إلى أحد الحوائط، يتوسط الأنتريه منضدة وُضع عليها بعض التمور واللبن.
تقول "سلمى": "في البداية كنت متوترة، شعرت بأنني في جلسات تشبه جلسات عبدة الشيطان، مجموعة شباب يبدو عليهم أنهم من الطبقة المتوسطة العليا، منهم أصدقاء لي في الجامعة الألمانية، واقفين في صمت وسكون، وقفت بآخر الصف، وبدأت فتاة في الثلاثينيات في الإنشاد، وفي يديها دُف، أشبه بالمناجاة لربنا، صوتها أدخل السكون في قلبي، هداني جداً، لحظات وبدأت أسرح معهم وأتحرك مثلهم".
تتحرك "سلمى" بشيء من التوجس، تلتقط عينيها كافة التفاصيل من حولها، ارتكنت إلى أحد الحوائط، دقائق وبدأت الجلسة، بنداءات أشبه باستحضار أرواح أولياء الله الصالحين، والتلفظ بكلمات غير مفهومة يصعب الاستماع لها، أشبه بالهمهمة، ورويداً رويداً يعلو صوت الفتاة الثلاثينية التي استقبلتها بابتسامة طمأنينة، قابضة بكفيها على دُف وبدأت في النقر عليه.
حاولت الانتحار.. واستشفت بالزار
على مدار 4 أعوام عانت "سلمى" من أزمات نفسية، طرقت أبواب عدد من الأطباء النفسيين، شُخّصت حالتها بمرض اضطراب الشخصية الحدية، وهو ما يعني وجود رغبة شديدة في إيذاء النفس إلى حد الانتحار، بسبب ضغوط نفسية عائلية واجتماعية. خلال فترة ترددها على الأطباء النفسيين، حاولت "سلمى" الانتحار، من خلال إلقاء نفسها من الدور الرابع بعد مشاجرة مع والديها، وكذلك جرح نفسها بآلة حادة أكثر من مرة.
"منذ طفولتي وأنا أتعرض للتعنيف العائلي، والدي يطالبني بالتفوق الدراسي وأن أصبح الأولى دائماً على أقراني"، تقول سلمى، وتضيف: "أتذكر جيداً عندما كنت في المرحلة الابتدائية وحصلت على نسبة 95% وحصدت المركز العاشر (مكرر) على مدرستي، انزعج والدي بشدة وقام بتقييدي في دورة المياه، وقضيت ليلتي في نحيب وبكاء وصراخ واستعطاف لوالدتي ووالدي ليعفوا عني، فقط لأني لم أحصد المركز الأول، طفلة في العاشرة من عمرها تقضي ليلتها داخل دورة مياه مقيدة اليدين والقدمين؛ لعدم تفوقها الدراسي! أعتقد أن تلك الحادثة مثلت حجر الأساس لكافة الاضطرابات والهلاوس التي تراودني لسنوات".
داخل بدروم إحدى بنايات حي الزمالك، تقف "سلمى" في آخر الصفوف، تلقي بنظرها للأسفل وتُحرك جسدها يميناً ويساراً، كأنها تلقي بأثقال الحياة خلف ظهرها وتستعيد عافيتها النفسية من جديد، تقول سلمى: "شعرت بأنني ألقي بكل الحوادث التي تشوه ذاكرتي على الأرض، انفض ثقل كبير من فوق أكتافي، عقلي سرح في الله، في الحياة، في مستقبلي، أصبحت أنتظر الجلسات بفارغ الصبر، وأشعر بأنني وجدت في الزار ما لم أجده بعيادات الطب النفسي".
جلسات الزار عادة وليس عبادة!
يقول رائد علم الاجتماع المصري الدكتور سيد عويس "1913-1989″، إن حلقات الزار ليست مصرية أصيلة، إنما واحدة من الثقافات التي تعد دخيلة على المجتمع المصري الذي يرى أن الذهاب إلى الطبيب النفسي وصمة عار.
وفي كتابه "قراءة في موسوعة المجتمع المصري" يفند أصل حلقات الزار، منوهاً إلى أن بعض الباحثين يرون أنها ليست مصرية الأصل، وأنها ثقافة وافدة جاءت إلى مصر عن طريق السودان والحبشة مع فتوحات محمد على سنة 1820.
واستدل "عويس" على موقفه القائل بأن حلقات الزار ثقافة دخيلة بأنه لم يتم ذكرها بكتاب "وصف مصر" الذي أجراه علماء الحملة الفرنسية التي سبقت عهد محمد علي، في الوقت ذاته يحيلنا إلى "كتاب الموتى" الذي يرصد حياة المصريين القدماء خلال الأسرة الخامسة في الفترة "2500 -2350 ق.م"، والذي جاء فيه ذكر كيفية تعامل القدماء المصريين لطرد الجن والتعاويذ السحرية.
ووفقاً لـ"كتاب الموتى" تم تصوير المحاكمة التي يظهر فيها الإله الجنائزي القديم أنوبيس حاملاً ميزاناً، يقف خلفه "تحوت" كاتب الآلهة الذي يشرف على الميزان ويسجل كل شاردة وواردة، ومن خلفه يقف "الملتهمة" وهو حيوان بشع الهيئة ذو رأس تمساح وصدر أسد ومؤخرة فرس البحر، ويلتهم رأس الروح الظالمة الحاضرة في الجلسة.
يقول عويس إن جلسات الزار كانت شائعة بأحياء مصر الشعبية خلال النصف الأول من القرن العشرين واختفت تدريجياً، إلا أنها لم تندثر تماماً، إذ تم الإبقاء عليها في دوائر مغلقة وأكثر تقبلاً لها.
مناجاة للرب
يقول "عادل"، وهو شاب في العقد الثالث من عمره، إن "جلسات الزار يتم النظر إليها في مساحة أكبر من دورها، هي أشبه بجلسات الطبيب النفسي لكن بدلاً من البوح بما يدور في عقلي من اضطرابات وأفكار ظلامية لإنسان آخر، أبوح لله"، متساءلاً: "هو مين زي ربنا يقدر يحتوينا، ويسمع مننا، ونحكيله من غير خجل؟".
على مدار عام، اعتاد "عادل" الذهاب إلى حلقات الزار التي تقام في حي الزمالك مرة كل أسبوع على الأقل، فهي بمثابة "جلسة فضفضة مع الله" بالنسبة له، قائلاً: "ذهبت إلى أطباء نفسيين، وكنت أخشى من مشاركتهم كل شيء، لكنني أعطِ ثقتي لأي طبيب من بين من ترددت عليهم حتى وجدت الزار ولم أنقطع عن الحضور".
شخَّص الأطباء النفسيون حالة "عادل" بـ"اضطراب الشخصية الارتيابية" فهو لا يثق بأحد، ولا يعرف بالضبط متى تملّك منه هذا المرض لكنه يعانيه منذ سنوات.