اختار الرئيس التونسي قيس سعيّد أن يهاجم إعلام بلاده، فأصبح المتحدث الوحيد في البلاد، ومنع وزراء الحكومة والمسؤولين من الحديث لأي وسيلة إعلامية، فلا أحد له الحق في التواصل مع الإعلام غيره.
وأعطى قيس سعيّد أوامره لرئيسة الحكومة نجلاء بودن لإصدار منشور يمنع الوزراء والمسؤولين من أي خروج إعلامي على أي وسيلة إعلام دون استشارة الحكومة.
وحسب مصادر "عربي بوست"، فإن هذا "المنشور صدر بعد أسبوعٍ من تصريحات أدلى بها عز الدين شبلي، محافظ بن عروس المقرب من الرئيس، والتي اعتبرتها مصالح الإعلام في رئاسة الجمهورية مسيئة للرئيس ولمشروعه السياسي لدى الرأي العام التونسي".
وأضاف مصادر الموقع أن "رئاسة الجمهورية استعجلت صدور هذا المنشور رغم معارضة بعض المسؤولين في مكتب الإعلام لرئاسة الحكومة، وذلك على خلفية تصريحات لمحافظ بن عروس".
انتقد مصدر "عربي بوست" السياسة الإعلامية التي تعتمدها رئاسة الحكومة حيث قائلاً: "الحكومة خاضعة تماماً لتعليمات قصر قرطاج في كل ما له علاقة بالإعلام، ولم يعد لمصالح الإعلام برئاسة الحكومة أي دور".
الرئيس يحاصر الإعلام
وجَّه منشور رئاسة الحكومة التونسية أمراً لأعضاء الحكومة والمسؤولين بـ"الامتناع عن الحضور في القنوات التلفزيونية والإذاعية المخالفة للقانون.."، وهي قنوات تم إغلاقها بعد 25 من يوليو/تموز 2021.
الصادق الحمامي، الباحث في الاتصال، قال في تصريح لـ"عربي بوست" إن "منشور رئاسة الحكومة أتى تكريساً لسياسة إعلامية مغلقة وعمودية تنتهجها رئاسة الجمهورية منذ إجراءات الخامس والعشرين من يوليو الماضي التي احتكر بموجبها قيس سعيّد كل السلطات في البلاد".
وأضاف المتحدث أن "مؤسسة الرئاسة تتجاهل الإعلام، لأن الرئيس لا يؤمن بالأجسام الوسيطة لمخاطبة الشعب، كما أن النقاش العام معطل في تونس بسبب خيارات الرئيس الاتصالية".
النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين رفضت هذا المنشور، إذ قالت فوزية الغيلوفي عضو المكتب التنفيذي للنقابة لـ"عربي بوست" إن "هذا المنشور يتعارض مع الحق في الوصول إلى المعلومة الذي تضمنه التشريعات التونسية".
كما أضافت أن النقابة ستُواصل التحرك من أجل الدفاع عن حرية الإعلام واستقلاليته، خاصة بعد بروز عدة مؤشرات تؤكد محاولة قصر قرطاج توجيه الإعلام نحو الرأي الواحد في ظل تجاهل لدور الصحفي في طرح الأسئلة.
وطالبت النقابة الوطنية للمكلفين بالإعلام والإتصال رئاسة الحكومة في أكثر من مناسبة بإعادة هيكلة إدارة الاتصال بالحكومة، وإصلاحها، وتمكينها من صلاحيات وضع الاستراتيجيات الاتصالية.
أزمة الصحفيين
القرارات الجديدة التي اتخذتها الحكومة للتعامل مع وسائل الإعلام في تونس خلقت أزمة مهنية أمام الصحفيين في البلاد، الذين أصبحوا عاجزين على تنفيذ مهامهم، بسبب تكتم شديد واستثنائي للمسؤولين داخل الحكومة وخارجها.
ولأول مرة في تونس، وجد الصحفيون أنفسهم غير قادرين على الحصول على أي معلومة حتى من مصادرهم الخاصة، ولم يعد لديهم الحق في طرح الأسئلة على الوزراء، هؤلاء الذين لا يسألهم أحد في غياب البرلمان.
وكان مؤتمر صحفي وزير الداخلية توفيق شرف الدين قد أثار موجة رفض واسعة بسبب عدم سماحه للصحفيين بطرح أسئلة خلال هذا المؤتمر المخصص لقرار وضع نور الدين البحيري القيادي في حركة النهضة تحت الإقامة الجبرية.
صحفية بقناة "نسمة" طلبت عدم الكشف عن اسمها لـ"عربي بوست" قالت إن "منشور رئاسة الحكومة أغلق تماماً كل المصادر الحكومية التي كنا نتعامل معها حتى في تقارير غير سياسية".
وأضافت المتحدثة أنها "حاولت الاتصال بعدد من المسؤولين في مواضيع ثقافية واجتماعية لكنهم اعتذروا عن الإدلاء بأي تصريحات إعلامية".
من جهتها اعتبرت منى العابدي، صحفية بإذاعة تطاوين المحلية في تصريح لـ"عربي بوست"، أن "منشور رئاسة الحكومة كرس مزيداً من التعتيم، والعمل الصحفي أصبح مبتوراً لأنه لا يتضمن إجابات السلطة على مشاغل المواطنين".
الرئيس المخاطب الوحيد للشعب
قامت السياسة الاتصالية للرئيس التونسي قيس سعيّد منذ توليه السلطة على مخاطبة الجمهور بصفة مباشرة عبر الوسائط الاجتماعية مبتعداً عن الوسائط الإعلامية التقليدية التي تقوم على السجال وطرح الأسئلة.
ولم يدلِ الرئيس التونسي قيس سعيّد منذ إجراءات يوليو/تموز 2021 بأي تصريح لوسيلة إعلامية، واقتصر خروجه الإعلامي على خطابات مباشرة عبر الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية.
وحسب سماح الغرسلي مراسلة محلية، قالت في حديثها مع "عربي بوست" إنه "منذ صدور منشور رئاسة الحكومة أصبح بعض المسؤولين المحليين إما يعتمدون نفس طريقة الرئيس في التواصل أو لا يدلون بتصريحات نهائياً".
من جهته، قال الباحث ياسين النابلي في حديثه مع "عربي بوست" إن "هذه السياسة الاتصالية تسمح للرئيس بأن يقول ما يريد للجمهور دون المرور بالوسيط الإعلامي الذي يخلق حالة تناظر وسجال تقلل من فاعلية الخطاب السياسي الأحادي الجاهز".
في نفس السياق، وصف بيان لنقابة الصحفيين التونسيين هذه السياسة بـ"صمت القصور" في إشارة إلى غلق قصر قرطاج أمام الإعلام دون فسح المجال أمام الصحفيين لطرح تساؤلات للرأي العام.
ورغم سيطرة نشاط الرئيس على المضامين الإعلامية، خاصة بالتلفزة الحكومية التي أصبحت حسب تعبير الباحث في الإعلام الصادق الحمامي "غرفة صدى لخطابات الرئيس"، فإن الرئيس التونسي يواصل مهاجمة وسائل الإعلام.
وقال في آخر تصريح له إن "وسائل الإعلام تكذب كنشرات الأخبار"، وذلك في آخر لقاءٍ له أمس الإثنين 10 يناير/كانون الثاني 2022 برئيسة الحكومة نجلاء بودن في نقده لتعاطي الإعلام مع الاستشارة الإلكترونية.
إغلاق القنوات المعارضة
وكانت الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري قد أصدرت قرارات لإغلاق بعض وسائل الإعلام، لكن هذه القنوات على غرار "نسمة" و"الزيتونة" بقيت تعمل رقمياً.
وكانت منظمات مدنية ونقابية اعتبرت إغلاق قناتي "نسمة" و"الزيتونة" قراراً سياسياً صادر عن قصر قرطاج بسبب معارضتهما إجراءات الرئيس قيس سعيّد الاستثنائية .
الأمر الذي نفته الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، إذ أكدت في بيان لها أن قناتي "الزيتونة" و"نسمة" في وضعية غير قانونية، وأصدرت بشأنهما قرارات غلق، لكنها لم تُنفذ بسبب تواطؤ من السلطات القائمة قبل 25 من يوليو/تموز 2021.
“لماذا المصادر مجهولة في هذه القصة؟
بموجب إرشادات موقع “عربي بوست”، نستخدم المصادر المجهولة فقط للمعلومات التي نعتقد أنها تستحق النشر والتي تأكدنا من مصداقيتها، لكننا غير قادرين على الحصول عليها بأية طريقة أخرى.
نحن ندرك أن العديد من القراء يشككون في مصداقية ودوافع المصادر التي لم يتم الكشف عن أسمائها، لكن لدينا قواعد وإجراءات لمعالجة هذه المخاوف، منها أنه يجب أن يعرف محرر واحد على الأقل هوية المصدر، ويجب أخذ موافقة مسؤول القسم قبل استخدام المصادر المجهولة في أية قصة. نحن نتفهم حذر القراء، لكن يجب تفهم أن المصادر غالباً تخشى على وظائفها أو علاقاتها التجارية، وسلامتها.”