فور إعلان فوزه بالانتخابات الرئاسية الإيرانية فى شهر يونيو/حزيران 2021، وفي أول خطاب له كرئيس جديد للجمهورية الإسلامية، أعرب رجل الدين المحافظ والرئيس السابق للسلطة القضائية الإيرانية، إبراهيم رئيسي، عن أنه يرحب بشدة بتحسين علاقات بلاده مع جيرانها العرب، كما أعرب عن رغبته فى عودة العلاقات الدبلوماسية بين إيران والمملكة العربية السعودية، والتي انقطعت منذ عام 2016.
رغبة الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، في العمل على تحسين علاقات الجمهورية الإسلامية بمحيطها العربي الخليجي، لم تكن مجرد أمنية، بل إنها كانت إعلاناً مباشراً عن تبنِّي إيران لاستراتيجية جديدة تجاه الدول الخليجية، وبدأت ملامح هذه الاستراتيجية فى التكشف رويداً رويداً فى الأسابيع الأخيرة.
تعليمات للإعلام الإيراني بالتعامل الجيد مع دول الخليج
فى إطار تنفيذ الاستراتيجية الإيرانية الجديدة تجاه جيرانها العرب، كانت هناك تعليمات جديدة وصارمة من الحكومة الإيرانية لوسائل الإعلام المحلية في تناول الأخبار الخاصة بالدول العربية.
ففي الأسابيع القليلة الماضية، أصدرت وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي في إيران منشوراً للتداول الداخلي، اطلع "عربي بوست" على نسخة منه، تم توزيعه على كافة الصحف والمواقع الإلكترونية، والقنوات الإيرانية، يحدد الخطوط الحمراء للحكومة الإيرانية، ويتناول الخطة الجديدة لحكومة إبراهيم رئيسي، في التعامل مع الأخبار المتعلقة بالدول العربية المجاورة للجمهورية الإسلامية.
مصدر صحفي إيراني يقول لـ"عربي بوست": "المنشور المرسل من قِبَل وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، يتناول بوضوح المبادئ التي يجب أن تعمل بها وسائل الإعلام المحلية فيما يتعلق بدول الخليج وبالأخص الإمارات والسعودية"، ويضيف المصدر قائلاً: "جاء من ضمن التعليمات الكثيرة أنه يجب الابتعاد عن تناول أي أخبار سلبية تخص الدول العربية، ويجب الابتعاد تماماً عن لغة التهديد في مخاطبة هذه الدول، وتجنب إهانة قادة الدول العربية، وعدم تناول أي تصريحات تحتوي على إهانات للدول العربية من قِبل المحللين والخبراء الإيرانيين".
وتبنَّت بعض وسائل الإعلام المحسوبة على المتشددين الإيرانيين، لهجة عنيفة تجاه المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة في الماضي، على سبيل المثال، في عام 2017، حرضت جريدة كيهان الإيرانية، والتى يتم تعيين رئيس تحريرها من قِبل المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي، ضد دولة الإمارات العربية المتحدة، وكتبت في افتتاحيتها أن جماعة أنصار الله اليمنية (الحوثيين)، قادرة على تسديد ضربات وهجمات ضد أهداف في كل من مدينتي دبي والرياض.
يقول المصدر الصحفي السابق، لـ"عربي بوست": "هناك اختلاف كبير وتام في نهج حكومة السيد رئيسي في التعامل مع الدول العربية، على عكس إدارة حسن روحاني، التي لم تهتم إطلاقاً بجيران إيران العرب".
إعطاء الأولوية للجيران العرب
الاستراتيجية الإيرانية الجديدة الخاصة بالتعامل مع الدول العربية تم العمل عليها منذ اليوم الأول لإدارة الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، في محاولة للابتعاد عن الغرب، والتركيز على دول آسيا والجيران العرب.
يقول مصدر مقرب من المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، لـ"عربي بوست": "يتم تنفيذ الاستراتيجية الجديدة بالتعاون الكامل بين إدارة رئيسي والمجلس الأعلى للأمن القومي، الذي رأى أنه من الأهمية إعطاء الأولوية للجيران العرب، خاصة أن طهران تريد خفض التوترات الإقليمية".
وبحسب المصدر ذاته، فإن السيد علي شمخاني، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، يلعب دوراً هاماً في تنفيذ هذه الاستراتيجية، فيقول لـ"عربي بوست": "السيد شمخاني كان دائماً من أنصار التفاوض مع الدول العربية، وله دور هام في تنفيذ الاستراتيجية الجديدة، التي لم يستطِع إحراز أي تقدم بها في عهد الإدارة السابقة، لكن في ظل إدارة السيد رئيسي، تنفيذها أصبح من أولويات الجمهورية الإسلامية".
السيد علي شمخاني، الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، ينحدر من أصول عربية، ويتمتع بعلاقات جيدة إلى حد ما مع بعض الدول العربية المجاورة للجمهورية الإسلامية، ومن المحتمل أن يكون هذا هو السبب الأهم والأقوى في عدم تركه لمنصبه، واستبداله بشخص آخر، بعد تغيير الإدارة بالكامل في عهد إبراهيم رئيسي الذي يترأس المجلس الأعلى للأمن القومي.
المكاسب الاقتصادية والأمنية
في حديثه لـ"عربي بوست"، أعرب مسؤول حكومي إيراني، رفيع المستوى، عن أمله في نجاح الاستراتيجية الإيرانية الجديدة تجاه جيران الجمهورية الإسلامية العرب، وما سوف يترتب على هذا الأمر من مكاسب اقتصادية وأمنية، فيقول: "حكومة السيد رئيسي، تدرك تمام الإدراك حجم المكاسب الاقتصادية والأمنية المترتبة على العمل وإنجاح هذه الاستراتيجية وتحسين العلاقات مع الدول العربية المجاورة، إيران بحاجة إلى العمل على تحسين اقتصادها، وتعزيز العلاقات التجارية مع جيرانها العرب".
وفي هذا الصدد، أشار المصدر ذاته إلى أن دولة الإمارات العربية المتحدة قد رحبت برغبة طهران في زيادة حجم التبادل التجاري بين البلدين، فيقول لـ"عربي بوست": "أبوظبي راغبة في العمل التجاري مع طهران، المسؤولون الإماراتيون كانوا قد تحدثوا إلى الولايات المتحدة، عن أهمية إزالة العقوبات الأمريكية عن طهران".
وفي نفس السياق، أشار المصدر المقرب من المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني إلى نفس المسألة، قائلاً: "لا شك أن اقتصاد الإمارات عانى خلال أزمة كوفيد-19، وهي بحاجة إلى تنويع مصادرها الاقتصادية، ونفس الشيء في طهران، في ظل إدارة رئيسي التى لا تعول كثيراً على الغرب، سيكون تعزز التعاون الاقتصادي مع الدول الخليجية أمراً هاماً وله أولوية بالطبع".
بجانب المكاسب الاقتصادية التي تتطلع إليها الجمهورية الإسلامية جراء تحسين علاقاتها مع جيرانها العرب، هناك أيضاً منافع أمنية مهمة، يقول مصدر مقرب من المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، لـ"عربي بوست"، فى هذا الصدد: "تطبيع الإمارات مع إسرائيل أمر شائك للغاية، ولا يمكن إخفاء أنه يهدد الأمن القومي الإيراني، في حالة تدهور العلاقة بين طهران وأبوظبي، لذلك من أحد أهم أهداف استراتيجية إدارة رئيسي تجاه الدول العربية، الحصول على ضمانات من أبوظبي بعدم استهداف أمن إيران".
وعلى ما يبدو فإن الأهداف الأمنية التي أشار إليها المصدر السابق، متبادلة، فيقول لـ"عربي بوست": "الإمارات أيضاً رحبت بهذه الاستراتيجية وأهدافها خاصة الأمنية، فمنذ عام 2019 وأبوظبي تتخذ خطوات قد تبدو بطيئة لكنها إيجابية في جميع الأحوال، تجاه العمل على أمن الخليج بالتعاون مع الجمهورية الإسلامية".
تجدر الإشارة هنا إلى أنه في عام 2019، أي بعد مرور عام واحد من انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015، وإعادة فرض العقوبات الاقتصادية تجاه إيران من قِبَل إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، تعرضت ناقلات نفط تابعة لدولة الإمارات العربية المتحدة، بالقرب من سواحل الفجيرة على هجوم تخريبي، ألقت واشنطن باللوم فيه على طهران، بينما نفت الأخيرة هذه المزاعم، وتجنبت دولة الإمارات اتهام الجمهورية الإسلامية.
لذلك فإن إشارة المصدر السابق إلى خطوات أبوظبي تجاه العمل على تأمين مياه الخليج بالتعاون مع الجمهورية الإسلامية، يعود إلى هذه الهجمات، التي زار بعدها وفد إماراتي أمني طهران لمناقشة بعض المسائل الأمنية المتعلقة بأمن الملاحة في الخليج.
باب خلفي للمفاوضات النووية في فيينا
فى يوم 24 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أي قبل أيام قليلة من استئناف المحادثات النووية في فيينا لإحياء الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015، أو ما يعرف رسمياً بخطة العمل الشاملة المشتركة، والتي تضم محادثات غير مباشرة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والولايات المتحدة الأمريكية، سافر علي باقري كني، نائب وزير الخارجية الإيرانية للشؤون السياسية، ورئيس الوفد الإيراني المفاوض في العاصمة النمساوية، إلى دولة الإمارات العربية المتحدة للاجتماع أنور قرقاش المستشار الدبلوماسي لرئيس دولة الإمارات.
كان الهدف من هذا الاجتماع، الذي جاء كجزء من الاستراتيجية الإيرانية الجديدة تجاه الدول الخليجية، هو طمأنة الإمارات فيما يخص الملف النووي الإيراني، بحسب مصادر إيرانية مطلعة تحدثت لـ"عربي بوست".
يقول مصدر دبلوماسي كان حاضراً لهذا الاجتماع في أبوظبي، لـ"عربي بوست": "كان من المهم مناقشة تفاصيل المقترحات الإيرانية التى سيتم طرحها على طاولة المفاوضات فى فيينا، مع الشركاء الإقليميين العرب، تجنباً لأي صراع محتمل حول الملف النووي الإيراني في المستقبل".
ويضيف المصدر ذاته قائلاً: "الحكومة السابقة ارتكبت الكثير من الأخطاء بتجاهل جيراننا العرب فيما يخص إشراكهم في المفاوضات النووية مع الغرب، لكن إدارة السيد رئيسي عازمة على عدم تكرار هذا الخطأ والتعلم من دروس الماضي".
تجدر الإشارة هنا إلى أن كلاً من الإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية، كانتا من أشد المعارضين للاتفاق النووي الإيراني لعام 2015، والذي وقعته إدارة الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، مع الجمهورية الإسلامية، فقد تناول وزير الخارجية الإيراني السابق، محمد جواد ظريف، هذا الأمر، في مذاكرته حول المفاوضات النووية بين بلاده والغرب، قائلاً إن المملكة العربية السعودية لعبت دوراً في إطالة أمد المفاوضات عام 2013.
بالعودة إلى زيارة باقري كني، نائب وزير الخارجية الإيراني ورئيس الفريق المفاوض النووي الإيراني، إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، يقول مصدر دبلوماسي مطلع لـ"عربي بوست": "الدول العربية تريد التأكد من أن البرنامج النووي والصاروخي الإيراني غير مصمم لاستهدافهم، وهذا ما تم التركيز عليه في هذا اللقاء"، فى إشارة إلى اجتماع باقري كني مع المستشار الدبلوماسي لدولة الإمارات، أنور قرقاش.
وعلى ما يبدو فإن الجمهورية الإسلامية تهدف من وراء اتباع استراتيجيتها الجديدة تجاه الدول الخليجية إلى تحقيق إنجاز ما في المفاوضات النووية في العاصمة النمساوية فيينا، لإحياء الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015، يقول مسؤول حكومي إيراني بارز، ومقرب من القيادة العليا في طهران، لـ"عربي بوست": "تحسين علاقة إيران بالدول الخليجية من شأنه أن يعزز موقفهم في مفاوضات فيينا، الإمارات والسعودية حلفاء للولايات المتحدة، ومخاوفهم من طهران، يمكنها أن تعطل سير المفاوضات النووية، وإحياء الصفقة النووية، لذلك ترى إدارة السيد رئيسي أن تأثير تحسن العلاقات مع العرب سيكون إيجابياً على المفاوضات النووية".
ماذا عن السعودية والاستراتيجية الإيرانية الجديدة؟
بحسب المصادر الإيرانية التي تحدثت لـ"عربي بوست"، فإن دولة الإمارات العربية المتحدة، أبدت تعاوناً إيجابياً للغاية فى تنفيذ الاستراتيجية الإيرانية الجديدة تجاه محيطها العربي، لكن تظل هناك بعض الأمور العالقة بين المملكة العربية السعودية وإيران، تحولُ دون تقدم إيجابي لتنفيذ هذه الاستراتيجية.
يقول مصدر مقرب من المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، لـ"عربي بوست": "المحادثات مع الرياض كانت جيدة للغاية، لكنّ هناك شيئاً ما يثير التشاؤم ولو قليلاً، على ما يبدو فإن موقف السعودية من إيران يأتي عكس موقف الإمارات التي قررت بدء صفحة جديدة مع طهران بغض النظر عن إحياء الاتفاق النووي من عدمه، الرياض تنتظر نتائج محادثات فيينا، وتراهن موقفها من إيران على هذه النتيجة".
تجدر الإشارة هنا، وكما أفاد "عربي بوست"، سابقاً، إلى أن المملكة العربية السعودية، والجمهورية الإسلامية الإيرانية، قد انتهوا من أربع جولات من المحادثات الهادفة إلى تحسين العلاقات بين البلدين، والتي استضافها رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، في العاصمة العراقية بغداد، وبحسب المسؤولين العراقيين الذين تحدثوا لـ"عربي بوست"، في وقت سابق، كانت المفاوضات بين طهران والرياض إيجابية للغاية، ومن المحتمل استئناف الجولة الخامسة من الحوار الإيراني السعودي، بعد الانتهاء من أزمة تشكيل الحكومة العراقية.
لكن في نفس الوقت، تشعر القيادة العليا في طهران، بعدم جدية الرياض في استئناف المفاوضات، والتركيز على انتظار نتائج المفاوضات النووية في فيينا، وهذا ما أثار استياء المسؤولين الإيرانيين مؤخراً، يقول مسؤول حكومي ومقرب من الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، لـ"عربي بوست": "طهران جادة جداً في استئناف المحادثات مع الرياض، ولا تربط الأمر بمفاوضات فيينا، السيد رئيسي مهتم بتحسين العلاقات مع السعودية واستئناف العلاقات الدبلوماسية في أقرب وقت، لكن ما حدث في الأردن أصابنا بقليل من اليأس".
في 14 ديسمبر الجاري، أعلنت وسائل إعلام أردنية عن أن خبراء وسفراء سعوديين وإيرانيين قد أجروا حواراً أمنياً استضافته مؤسسة فكرية محلية، لكن على ما يبدو فإن هذا الأمر قد أثار التشاؤم في نفوس الإيرانيين.
يقول مصدر دبلوماسي إيراني، كان من ضمن الوفد الإيراني في هذا اللقاء السابق ذكره، لـ"عربي بوست": "الوفد الإيراني كان يضم خبراء أمنيين رسميين، وسفراء حاليين وسابقين، لكننا فوجئنا أن الوفد السعودي مقتصر على بعض الخبراء والأكاديميين غير الرسمي، مما أصابنا بخيبة الأمل".
وأضاف المصدر ذاته قائلاً: "كانت أجندتنا تتناول الكثير من الملفات العميقة، مثل استعادة العلاقات الدبلوماسية، مناقشة البرنامج النووي الإيراني وسلميته، لكن في المقابل اكتفى السعوديون بمسألة اليمن".
وكانت المملكة العربية السعودية بدأت في حرب ضد جماعة أنصار الله اليمنية (الحوثيين)، المدعومين من طهران، منذ عام 2015، وكان مسألة الحرب في اليمن، أحد الملفات الهامة التي تم طرحها في سبيل تحسين العلاقات الإيرانية السعودية، في الحوار بين البلدين في العاصمة العراقية، بغداد، هذا العام.
يقول مصدر مقرب من المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، لـ"عربي بوست": "نحن مهتمون بنجاح الحوار الإيراني السعودي، ونأمل أن تلعب أبوظبي دوراً في هذا الأمر، الأهم أن تكون الرياض جادة، طهران عازمة على استكمال الحوار الإيراني العربي، سواء تم التوصل إلى صفقة مع الغرب بخصوص الاتفاق النووي أو لا، يجب ألا يرهن الجيران في المنطقة علاقاتهم، بالأمريكيين".