لا يزال الانقسام السياسي سيد الموقف في العراق الذي أجرى يوم 10 أكتوبر/تشرين الأول 2021، الانتخابات البرلمانية الخامسة، منذ الغزو الأمريكي للبلاد عام 2003.
هذه الانتخابات المثيرة للجدل أجريت بشكل مبكر عن موعدها بحوالي 5 أشهر، كنتيجة للحركة الاحتجاجية الهائلة التي امتدت في جميع أنحاء البلاد، ضد الحكومة العراقية والنخب السياسية المسيطرة على المشهد السياسي منذ سنوات.
لا يمكن إنكار أهمية الانتخابات البرلمانية، كما لا يمكن إنكار نتائجها المفاجئة، التي كانت بمثابة صدمة لكل من الفائزين والخاسرين.
وبالرغم من أنه كما جرت العادة في العراق إن نتائج الانتخابات ليست دائماً تحدد هوية من سيحكم البلاد، فإنها تتمتع بالأهمية الكبرى هذه المرة، نظراً لما أنتجته من صراع سياسي لا يمكن التنبؤ بنتائجه بشكل كبير.
يتضح هذا من الصراع السياسي القائم حول تشكيل الحكومة بين مقتدى الصدر الراغب في حكومة أغلبية، وبين بقية الفصائل الشيعية التي ترغب في حكومة توافقية مرة أخرى كما اعتاد العراق دائماً بعد الغزو الأمريكي.
بداية الصراع السياسي
على الفور، بعد إعلان النتائج الأولية للانتخابات البرلمانية العراقية، سارعت الأحزاب الشيعية التقليدية الخاسرة لوصف الانتخابات بأنها مزورة، وحثت أنصارها على التظاهر أمام المنطقة الخضراء، شديدة التحصين التي يتواجد داخلها أغلب المقرات الحكومية والبعثات الدبلوماسية.
كما لجأت هذه الأحزاب إلى تقديم الطعون الانتخابية إلى المفوضية العليا المستقلة للانتخابات العراقية، وطالبت بإعادة الفرز يدوياً في جميع الدوائر الانتخابية.
وبحسب مسؤول بارز في المفوضية العليا، تحدث لـ"عربي بوست"، في تقرير سابق، شريطة عدم الكشف عن هويته، فإن أغلب الطعون التي تقدر بالآلاف والمقدمة من الأحزاب الشيعية الخاسرة بلا قيمة، كما أن إعادة الفرز اليدوي لن تتم في جميع الدوائر الانتخابية، ولن تغير من نتائج الانتخابات بشكل كبير.
تجدر الإشارة إلى الأحداث الدرامية التي أعقبت تظاهر أنصار الأحزاب الشيعية الخاسرة، مثل الاشتباك مع قوات الأمن، ثم محاولة اغتيال رئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي.
الآن، وقد انتهت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق من إعادة الفرز يدوياً في بعض الدوائر، ومن المقرر تقديم المفوضية النتائج النهائية للمحكمة العليا الاتحادية للتصديق عليها، يقول مسؤول بارز في المفوضية العليا للانتخابات، لـ"عربي بوست": "كما توقعنا من قبل، لم تُغير إعادة الفرز يدوياً نتائج الانتخابات الأولية التي كنا قد أعلناها من قبل، مقعد أو مقعدان ذهبا لصالح حزب من الأحزاب، وحزب آخر خسر نفس العدد، لا يوجد تغيير كبير، الخاسر ظل خاسراً، والفائز كما هو في الصدارة".
وتعليقاً على هذا الأمر، يقول قائد عسكري في فصيل كتائب حزب الله العراقي، أحد الفصائل المسلحة الشيعية التي تعمل تحت مظلة هيئة الحشد الشعبي، والمقرب من إيران، لـ"عربي بوست": "نتائج إعادة الفرز اليدوي أثبتت وجود تزوير حقيقي في الانتخابات، وبرهنت على كل شكوكنا بشأن التزوير".
أما فيما يخص مسألة عدم تغيير النتائج بشكل كبير بعد إعادة الفرز يدوياً، فيقول المصدر ذاته: "لو كانت تمت إعادة الفرز يدوياً في جميع الدوائر، لكانت النتائج اختلفت بالكامل، لكن من أراد تزوير الانتخابات لن يوافق على هذا الأمر".
ومع تصديق المحكمة الاتحادية العليا على نتائج الانتخابات النهائية، واحتفاظ مقتدى الصدر وحزبه بالصدارة، سيكون هو الوحيد القادر على تسمية رئيس الوزراء القادم، وتشكيل الحكومة، وهذا الأمر واضح منذ اليوم الأول لإعلان النتائج الأولية للانتخابات البرلمانية، كما أنه كان بداية الصراع بين الصدر والأحزاب الشيعية الأخرى.
حكومة أغلبية
كان مقتدى الصدر، الذي لا يتمتع بعلاقة جيدة مع الأحزاب والفصائل المسلحة الشيعية المقربة من إيران، قد أعلن منذ اليوم الأول لإعلان انتصاره في هذه الانتخابات، أن حزبه ينوي تشكيل الحكومة بشكل منفرد على أن تكون حكومة أغلبية لا توافقية.
كما أنه سيقوم بالعمل على تفكيك بعض الفصائل التي تعمل تحت مظلة الحشد الشعبي، في إشارة ضمنية إلى الفصائل المسلحة المدعومة من إيران، والتي تعتبر خصماً للصدر.
منذ عام 2005، وبعد صياغة الدستور العراقي الحديث، وكقانون غير مكتوب، تم تقاسم السلطة في النظام السياسي الحديث حينها، بشكل يرضي جميع الأطراف الفاعلة والهامة، بغض النظر عن الخاسر والفائز في الانتخابات البرلمانية، فكل حزب أو فصيل كان يحتفظ بنصيبه من السلطة في كل حكومة عراقية، تحت اسم تشكيل حكومة توافقية، لا يعارضها أحد، ولا يتحمل حزب واحد مسؤولية أفعالها، وبهذا الدستور غير المكتوب، حافظت كل القوى السياسية المهيمنة على نفوذها داخل العراق.
الآن، يأتي الصدر ليهدد كل هذا، ويمزق هذا القانون، ويعلن أنه سيشكل حكومة أغلبية لا توافقية. يقول قائد سياسي بارز في التيار الصدري، ومقرب من رجل الدين مقتدى الصدر، لـ"عربي بوست": "الحكومات التوافقية هي سبب خراب العراق، لذلك قرر السيد الصدر كتابة النهاية لهذا الخراب، وتشكيل حكومة أغلبية من التيار الصدري الفائز الأول في الانتخابات، يكون الصدر هو المسؤول الأول والوحيد عنها، وتتحمل جميع المسؤوليات والأخطاء، وأعتقد أن هذا مطلب لجميع العراقيين"، على حد تعبيره.
في الجهة المقابلة، ترى الأحزاب الشيعية المقربة من إيران، والتي تظهر العداء المستتر للصدر، بأن إصرار مقتدى الصدر على الاستحواذ على السلطة، أمر يشبه الانقلاب عليهم. يقول سياسي شيعي بارز ومقرب من طهران، وواحد من الخاسرين في هذه الانتخابات، لـ"عربي بوست": "يريد الصدر الإطاحة بكافة الأحزاب الشيعية المنافسة له، كما أنه يريد تجريد الفصائل المسلحة من نفوذها وسلاحها، وهذا أمر لن يقبله أحد، من الصعب الإقرار بالهزيمة وترك الساحة السياسية بالكامل للصدر، هذا أمر مستحيل".
وساطة المالكي، ورغبته في العودة السياسية
بعد الخسارة الهائلة التي تكبدتها الأحزاب والفصائل المسلحة الشيعية، ونجاح نوري المالكي، رئيس الوزراء العراقي السابق (2006-2014)، من العودة بعدد كبير إلى حد ما من الأصوات، لجأت إليه الأحزاب الشيعية الخاسرة، في محاولة لإيجاد حل لما يرون أنه انقلاب للصدر عليهم، ومحاولة تجريدهم من نفوذهم السياسي والإطاحة بهم.
على الفور، رحب المالكي بهذه الوساطة، التي من الممكن أن تكون بمثابة إعادة انطلاقة سياسية جديدة له، ففي السنوات الماضية، خسر نوري المالكي الكثير من نفوذه وقوته السياسية، عندما تم اختياره من قِبَل الأحزاب الشيعية كرئيس للوزراء عام 2006، اتبع سياسة طائفية مروعة، أدخلت العراق في نفق مظلم، كانت نهايته اجتياح تنظيم الدولة الإسلامية للعراق، وسقوط الموصل ثاني أكبر محافظة في البلاد، في يد التنظيم، وانهيار القوة العسكرية الحكومية العراقية.
بعد عام 2014، انطفأ نجم المالكي، السياسي. إي نعم ظل لاعباً مؤثراً في السياسة العراقية، لكن ليس بنفس الحجم الذي كان يتمتع به في سنوات ما قبل عام 2014.
الآن، وقد سنحت له الفرصة للظهور القوي مرة أخرى، وقد أحسن استغلالها، يقول مصدر مقرب من نوري المالكي، لـ"عربي بوست": "الجميع يتحدث عن رغبة المالكي في الحصول على منصب رئاسة الوزراء، لكن في الحقيقة المالكي لم يتحدث عن هذا الأمر، هو فقط يريد أن يكون وسيطاً جيداً للخروج من هذه الأزمة السياسية"، على حد قوله.
لكنَّ سياسياً شيعياً آخر منتمياً إلى الإطار التنسيقي الشيعي، وهو منظمة تضم أغلب القادة والأحزاب الشيعية التقليدية، فيما عدا مقتدى الصدر، تم تأسيسها بعد احتجاجات أكتوبر/تشرين الأول 2019، وانسحب منها الصدر في شهر يوليو/تموز 2021، أي قبل أشهر قليلة من الانتخابات البرلمانية الاخيرة، يقول لـ"عربي بوست": "يرغب المالكي بشدة في تولي رئاسة الوزراء، وهذا ما دفعه للعب دور الوسيط بين الإطار التنسيقي الشيعي والصدر".
ويضيف المصدر ذاته قائلاً: "لا مانع لدينا من منح المالكي هذا المنصب، فهو الرجل الوحيد القادر على السيطرة على الأمور بشكل جيد في الوقت الحالي".
وفي إطار دور الوساطة الذي يلعبه نوري المالكي، وبحسب مسؤولين وقادة عراقيين تحدثوا لـ"عربي بوست"، فقد اجتمع المالكي مع الصدر أكثر من مرة لمحاولة إيجاد حل لهذا المأزق. يقول سياسي شيعي ومطلع على سير هذه الاجتماعات، لـ"عربي بوست": "بعد إعلان النتائج الأولية للانتخابات، واتفاق الأحزاب الشيعية على وساطة المالكي، تواصل مع الصدر بشكل مباشر وسريع، وتم اللقاء".
في هذا اللقاء الأول، بحسب المصدر السابق، "حاول المالكي أن يقنع الصدر بالعدول عن قراره بتشكيل حكومة أغلبية، وأن يوضح له مخاطر هذا القرار الذي من الممكن أن يدخل العراق في أزمة سياسية لا حل لها"، لكن على ما يبدو فإن المالكي لم يستطِع إقناع مقتدى الصدر، وانتهى الاجتماع إلى لا شيء، بحسب المصدر.
يقول مصدر مقرب من نوري المالكي، لـ"عربي بوست": "السيد المالكي مقتنع تماماً بأهمية التوصل إلى تسوية مع الصدر، وإلا فإن العراق سيدخل أزمة سياسية تودي باستقرار البلاد".
تصاعُد غضب الأحزاب الشيعية
قالت مصادر سياسية عراقية، لـ"عربي بوست": إن نوري المالكي تواصل مراراً وتكراراً مع مقتدى الصدر، لإيجاد أرضية مشتركة، تمكن جميع الأحزاب الشيعية سواء الخاسرة أو الفائزة من المشاركة في الحكومة المقبلة، لكن دون جدوى.
تصاعد غضب الأحزاب الشيعية الخاسرة أكثر وأكثر، بعد زيارة ولقاء مقتدى الصدر برئيس البرلمان (السني)، محمد الحلبوسي، خاصة أن الصدر غير معتاد على زيارة بغداد بشكل متكرر، لكنه جاء إلى العاصمة خصيصاً للاجتماع بالحلبوسي.
مصدر مقرب من رجل الدين والسياسي الشهير، مقتدى الصدر، قال لـ"عربي بوست": "هذا الاجتماع كان مهماً بشكل كبير، فقد ناقش الصدر والحلبوسي العديد من الملفات خاصة مسألة تشكيل حكومة أغلبية، والنتائج مُرضية". لم يفصح المصدر عن المزيد من التفاصيل بخصوص هذا الاجتماع بين الصدر والحلبوسي.
لكن على الجهة المقابلة، رأت الأحزاب الشيعية المقربة من إيران أن الصدر يحاول استمالة الحلبوسي الذي حصل حزبه (تقدم) على 38 مقعداً، لتشكيل كتلة برلمانية كبيرة، للوقوف في وجه الأحزاب الشيعية الأخرى.
يقول سياسي شيعي مقرب من الإطار التنسيقي الشيعي، لـ"عربي بوست": "الاجتماع بين الصدر والحلبوسي الهدف منه هو الحصول على موافقة السنة على تشكيل حكومة أغلبية من التيار الصدري، وتحدي باقي الأحزاب الشيعية. الصدر يعمل على تأمين التحالف مع السنة والأكراد، وهذا الأمر سيزيد من صعوبة الوضع".
استمالة السُّنَّة والأكراد والمستقلين
لم يخرج نوري المالكي بأي اتفاق مع مقتدى الصدر، من خلال الكثير من الاجتماعات والاتصالات التي تمت بينهما، وفي آخر محاولة لإنجاح هذه الوساطة، أعرب المالكي عن غضبه ويأسه من إصرار الصدر على تشكيل حكومة أغلبية، بحسب مصدر مقرب من المالكي.
يقول المصدر ذاته، لـ"عربي بوست": "في آخر اتصال بين المالكي والصدر، كان المالكي غاضباً للغاية، وقرر توقفه عن الوساطة والاتصال بالصدر، ومحاولة تشكيل كتلة برلمانية أكبر من كتلة الصدر لمواجهته".
تجدر الإشارة هنا إلى أنه وبحسب الدستور العراقي الحديث في عام 2005، فإن الحزب الذي يحصل على أكبر عدد من المقاعد داخل البرلمان، يصبح هو الكتلة البرلمانية الأكبر، والتي يحق لها تسمية رئيس الوزراء الجديد، وتشكيل الحكومة الجديدة.
جدير بالذكر أن الدستور العراقي حدد ماهية الكتلة البرلمانية الأكبر، بحصول أي حزب على عدد 100 مقعد من مقاعد البرلمان، لكن منذ ذلك الوقت وإلى الآن، لم يستطع أي حزب من الأحزاب الحصول على هذا العدد من المقاعد، ودائماً ما كان يثار الجدل حول الكتلة البرلمانية الأكبر، وتمت إحالة مسالة إعادة تعريف مفهوم الكتلة البرلمانية الأكبر إلى المحكمة الاتحادية العليا، كان يستطيع أي حزب بعد الفوز في الانتخابات العراقية استمالة نواب من أحزاب أخرى لتشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر، فكان النواب يجيئون ويذهبون متنقلين بين الأحزاب، لكن وبحسب القانون الانتخابي الجديد، فقد تم إيقاف هذه العملية، وأصبح كل نائب لا يستطيع الدخول في تحالف مع حزب آخر، غير الذي فاز على قوائمه.
لكن على ما يبدو، فإن القادة السياسيين الشيعية غير معترفين بهذا التحديث الذي أدخله قانون الانتخابات الجديد، والدليل على ذلك محاولات كل من المالكي والصدر استمالة الأحزاب السنية والكردية، لتشكيل كتلة برلمانية كبيرة يكون لها الحق الحصري في تشكيل الحكومة المقبلة.
فمثلاً، بالنسبة لمحمد الحلبوسي، الذي استطاع حزبه أن يكون الحزب السني العراقي المسيطر على المشهد السياسي، من خلال نجاحه في الحصول على أصوات العراقيين السنة، الذين ذهبوا للتصويت لحزبه، بناء على إنجازاته في محافظة الأنبار السنية، والتي استطاع أن يعيد إعمارها بعد الدمار الذي تعرض له بسبب قتال تنظيم الدولة الإسلامية، وللحفاظ على هذه المكتسبات السياسية وتحقيق طموحات باقي العراقيين السنة في إعادة إعمار مدنهم على غرار محافظة الأنبار، يحتاج الحلبوسي إلى الحصول على دعم الأحزاب الشيعية المقربة من إيران، ولا يستطيع معارضتهم بالانضمام إلى تحالف الصدر داخل البرلمان.
وفي هذا الصدد، يقول سياسي شيعي بارز لـ"عربي بوست": "الحلبوسي في حاجة إلى الفصائل المسلحة، فمن أهم مطالب العراقيين السنة عودة النازحين منهم إلى مدنهم ومنازلهم في المحافظات المحررة، التي تسيطر عليها الفصائل المسلحة، كما أن إعادة إعمار هذه المدن لن تتم إلا بموافقة هذه الفصائل، لذلك لا أتوقع أن ينضم الحلبوسي إلى الصدر".
وفيما يخص الأكراد العراقيين، فإن الحزب الديمقراطي الكردستاني، الحزب الفائز في الانتخابات والمهيمن على مقاليد الحكم في حكومة إقليم كردستان العراق، لا يتمتع بعلاقة جيدة بشكل كبير مع الأحزاب الشيعية، لكن في نفس الوقت، تربطه علاقة جيدة بالجمهورية الإسلامية الإيرانية، التي تضغط على الأكراد العراقيين، لعدم التحالف مع مقتدى الصدر، بحسب قادة وسياسيين عراقيين تحدثوا لـ"عربي بوست".
يقول سياسي شيعي من الإطار التنسيقي الشيعي، لـ"عربي بوست": "الأكراد يريدون شيئين فقط من الحكومة المركزية في بغداد: زيادة الموازنة الخاصة بالإقليم، وإنهاء الصراع على المناطق المتنازع عليها"، في إشارة إلى بعض المحافظات العراقية (كركوك، ونينوى)، المتنازع على إدارتها وخاصة إدارة الموارد النفطية بها، بين الحكومة المركزية ببغداد، وحكومة إقليم كردستان العراق.
وبحسب المصدر السابق، "الفصائل المسلحة تسيطر على هذه المحافظات المتنازع عليها، والصدر لا يملك أي نفوذ بها، كما أن الموازنة العامة وأمر زيادتها، لا يضمن الأكراد الصدر في تحقيق هذا الأمر".
لكن في النهاية، سينتظر كل من العراقيين السنة والأكراد انتهاء الصراع الحالي داخل المعسكر الشيعي المهيمن، وبعدها سيقررون التحالف مع الجانب المنتصر.
المستقلون في المنتصف
بالطبع، لن تقوم الأحزاب الشيعية المقربة من إيران، أو مقتدى الصدر بمحاولة لاستمالة الأحزاب المعارضة المنبثقة من الحركة الاحتجاجية (حركة تشرين)، مثل حزب امتداد، السابق ذكره.
يظل هنا النواب المستقلون، وبحسب المصادر التي تحدثت لـ"عربي بوست"، يقوم مقتدى الصدر بمحاولة استمالة بعض النواب المستقلين، لتعزيز موقفه وتنفيذ خطته بتشكيل حكومة أغلبية.
مرشح مستقل استطاع الفوز في انتخابات العاشر من أكتوبر، تحدث لـ"عربي بوست"، بخصوص هذه المسألة، فيقول: "في الحقيقة دعا السيد الصدر عدداً من المرشحين المستقلين الفائزين، واجتمعنا معه، لكن الأمر كان فقط لشرح رؤيته للحكومة المقبلة".
وأكد المرشح المستقل الفائز أن أغلب المرشحين المستقلين الفائزين، الذين التقوا بمقتدى الصدر، قرروا الوقوف في الوسط في الوقت الراهن، دون الدخول في تحالف مع أحد، فيقول لـ"عربي بوست": "الاجتماع من الأساس مع السيد الصدر لم يكن لتشكيل تحالفات سياسية، كان فقط جلسة سياسية لسماع آراء الصدر".
في نفس الوقت، اتهم رجل الدين الشيعي، والفائز البارز في هذه الانتخابات، مقتدى الصدر، خصومه من الأحزاب الشيعية المقربة من إيران بمحاولة ترهيب وتهديد المرشحين المستقلين، لاستمالتهم وضمان دخولها في تحالف معهم لمواجهته.
وفي هذا الصدد، يقول أحد القادة داخل التيار الصدري، لـ"عربي بوست": "حاولت الأحزاب الخاسرة الحصول بالقوة على تحالف المرشحين المستقلين، بعضهم أبلغ السيد الصدر بتعرضه للتهديد بالقتل من أحد الفصائل، لرفضه التحالف معهم، لكن الصدر سيوفر لهم الحماية والأمان".
في الجهة المقابلة، وتعليقاً على هذا الاتهام، قال قائد شبه عسكري في كتائب حزب الله، أحد خصوم مقتدى الصدر، لـ"عربي بوست": "هذه تفاهات لن نشغل أنفسنا بها الآن، الصدر وأتباعه يحاولون تشويه سمعتنا بأي طريقة".
هل سيستمر عناد الصدر أم سينتهي الأمر بتشكيل حكومة توافقية؟
خلال الأيام القليلة المقبلة ستقوم المحكمة الاتحادية العليا العراقية بالتصديق على النتائج النهائية للانتخابات البرلمانية، ومن ثم سيعقد البرلمان الجديد أولى جلساته، لاختيار رئيس البرلمان، وهو منصب يذهب للعراقيين السنة، وبعدها رئيس الجمهورية، وهذا منصب محجوز للمكون الكردي، وفقاً لبروتوكول تقاسم السلطة المقرر بشكل غير رسمي منذ عام 2005.
بعد كل ذلك، سيدخل العراق في معركة تشكيل الحكومة الجديدة، والتي من الممكن أن تمتد لأشهر طويلة، طوال السنوات الماضية، منذ الغزو الأمريكي للبلاد عام 2003، كان تقاسم السلطة بين النخب السياسية هو سر الحفاظ على الاستقرار السياسي النسبي في العراق، لكن الآن مع عناد رجل الدين الشيعي، مقتدى الصدر، وإصراره على تشكيل حكومة أغلبية، الأمر الذي تراه باقي القوى السياسية الشيعية محاولة صارخة للاستحواذ على السلطة، فإن هذا الاستقرار مهدد.
يقول سياسي شيعي بارز، لـ"عربي بوست": "إذا استمر الصدر في عناده بتشكيل حكومة أغلبية، فإن نفوذه السياسي هو الآخر مهدد، لذلك فإن التوصل إلى حل لتشكيل حكومة توافقية يضمن للجميع الحفاظ على النفوذ المكتسب منذ سنوات".
لذلك، ومن أجل الحفاظ على السلام السياسي لجميع الأطراف الفاعلة في العراق، يتوقع عدد من السياسيين العراقيين الذين تحدثوا لـ"عربي بوست" أن يتم إرضاء الجميع، والعودة إلى الدستور غير المكتوب لتقاسم السلطة.
أجواء انتخابية مختلفة
أعلنت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات العراقية أن نسبة الإقبال على التصويت وصلت إلى 41%، لكن تحدثت منظمات دولية ورقابية مشاركة في المراقبة على الانتخابات، بأن نسب التصويت وصلت بالكاد إلى 38%، وهذا يذكرنا بانتخابات عام 2018، فكانت نسبة الإقبال الانتخابي مشابهة إلى حد ما، والتي وصفت حينها بأنها الأقل إقبالاً في تاريخ الانتخابات البرلمانية العراقية، منذ عام 2006.
يأتي الإقبال المنخفض على التصويت في الانتخابات الأخيرة، عكس التوقعات التي كانت تفيد بأن هذه الانتخابات ستكون وسيلة للخروج من الأزمة السياسية الناتجة عن الحركة الاحتجاجية الكبيرة في أكتوبر/تشرين الأول عام 2019، والتي استمرت لحوالي عامين، بشكل متقطع.
لكن في حقيقة الأمر، وبالرغم من تعديل قانون الانتخابات الذي كان مطلباً من ضمن العديد من المطالب الأخرى للمحتجين، والذي ساهم بشكل كبير في إخراج نتائج الانتخابات بهذا الشكل الصادم، بالإضافة إلى إجراء الانتخابات في موعدها المبكر، لم يغرِ هذا كله العراقيين للذهاب للتصويت، أو إقناعهم بأن الانتخابات وسيلة لتغيير النظام السياسي الذي تم رفضه في احتجاجات 2019.
ويجب الإشارة هنا إلى التحسن الكبير في العملية الانتخابية في العراق، فقد ساهم القانون الانتخابي الجديد، الذي قسم العراق إلى دوائر انتخابية عديدة في كل محافظة، فوصل عددها إلى 88 دائرة انتخابية بدلاً من 18، وأقر نظام التصويت الفردي غير القابل للتحويل، الذي من خلاله يستطيع الناخب التصويت لمرشح واحد فقط، والمنتمي إلى حزب معين، وعدم القدرة على تقسيم فائض الأصوات الحاصل عليها لباقي المرشحين الآخرين من نفس الحزب.
بالإضافة إلى ذلك، تمتعت الانتخابات الأخيرة بدرجة تأمين عالية، لم تشهدها الأجواء الانتخابية في العراق من قبل. كما أن المنظمات الرقابية الدولية لم تسجل الكثير من حالات التزوير داخل اللجان الانتخابية كما حدث في السابق.
فهم نتائج الانتخابات
وعلى ضوء الخلفية السابقة، كانت نتائج الانتخابات غير متوقعة، فقد استطاع التيار الصدري، بزعامة رجل الدين الشيعي، والسياسي البارز مقتدى الصدر، تصدر المشهد الانتخابي بحصوله على حوالي 73 مقعداً من أصل 329 من عدد مقاعد البرلمان.
تمكن حزب مقتدى الصدر من الاستفادة من قانون الانتخابات الجديد، بالإضافة إلى دعم الملايين من أتباعه، المتواجدين بقوة في الضواحي الشرقية للعاصمة العراقية بغداد، ومحافظات الجنوب الشيعية.
يقول سياسي شيعي بارز، لـ"عربي بوست": "كان نواب التيار الصدري في برلمان 2018 من أكثر النواب الفاعلين والمصممين على إنجاز قانون الانتخابات الجديد، لأنهم كانوا يدركون جيداً أنه وبحسب قواعدهم الجماهيرية الكبيرة والممتدة يستطيعون حصد المزيد من الأصوات وفقاً للقانون الجديد".
وعلى عكس التيار الصدري، تكبد تحالف فتح بزعامة هادي العامري، المقرب من إيران ورئيس منظمة بدر، وواحد من أقدم وأكبر الفصائل المسلحة الشيعية العراقية والذي يضم الكثير من الأجنحة السياسية للفصائل المسلحة الأخرى المدعومة من إيران، خسائر فادحة.
ففي انتخابات عام 2018، والتي جاءت بعد أشهر قليلة من إعلان النصر من قبل القوات العسكرية الحكومية العراقية ووحدات الحشد الشعبي (تضم العديد من الفصائل المسلحة الموالية لإيران والتي خاضت الانتخابات البرلمانية ضمن تحالف فتح)، على تنظيم الدولة الإسلامية الذي اجتاح مدن العراق الشمالية في صيف عام 2014، حصل تحالف فتح على حوالي 45 مقعداً، لكن في الانتخابات الأخيرة بالكاد استطاع الحصول على 20 مقعداً.
يقول سياسي شيعي ومقرب من تحالف فتح لـ"عربي بوست": "الخسارة كانت أكبر من قدرة الأحزاب والفصائل المسلحة الشيعية على تحملها، كانوا يعلمون أنهم خسروا الكثير من جماهيرهم، لكنهم لم يتوقعوا أن تصل النتيجة إلى هذا التدني".
في المقابل، استطاع ائتلاف دولة القانون بزعامة رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي (2006-2014)، الاستفادة من خسارة الأحزاب الشيعية المقربة من إيران لجزء كبير من قاعدتها الانتخابية، واستقطاب هذه الأصوات مما ساعده في العودة مرة أخرى بقوة إلى الساحة السياسية، والحصول على 34 مقعداً.
أما بالنسبة إلى الزعماء الشيعة المعتدلين، ومنهم رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي (2014-2018)، وزعيم تيار الحكمة رجل الدين الشيعي عمار الحكيم، فقد خرجوا من هذه الانتخابات بخسارة كبيرة، فقد خاض الزعيمان المعتدلان الانتخابات سوياً تحت مظلة ائتلاف قوى الدولة، لكنهما لم يستطيعا التنافس مع التيار الصدري أو ائتلاف نوري المالكي، في ظل قانون الانتخابات الجديد، فحصلا على 4 مقاعد فقط.
يقول مسؤول عراقي بارز مقرب من إيران، لـ"عربي بوست": "ارتكب العبادي والحكيم نفس خطأ تحالف فتح، وقدما في كل دائرة انتخابية عدداً كبيراً من المرشحين، مما أدى إلى تشتيت الأصوات. لم يستطِع أحد التنافس في ظل القانون الانتخابي الجديد مثلما فعل التيار الصدري".
كما نجح رئيس البرلمان محمد الحلبوسي في الفوز على جميع منافسيه من السياسيين العراقيين السنة، وفاز حزبه "تقدم" بحوالي 38 مقعداً، مما يجعله في صدارة النخبة السياسية السنية الجديدة في العراق. وحصد منافسه رجل الأعمال العراقي السني، خميس الخنجر، 14 مقعداً فقط.
وكما كان متوقعاً، بالنسبة إلى المكون الكردي، فقد استطاع الحزب الديمقراطي الكردستاني الحصول على 32 مقعداً، بينما تكبد الاتحاد الوطني الكردستاني خسارة كبيرة بحصوله على 16 مقعداً فقط.
يُذكر أن الحزب الديمقراطي الكردستاني، والاتحاد الوطني الكردستاني، هما الحزبان الرئيسيان والمهيمنان على الحكم في إقليم كردستان العراق، المتمتع بالحكم الذاتي شبه المستقل منذ عام 2003.
الوافدون الجدد
أنتجت الانتخابات البرلمانية المبكرة في العراق وافدين جدداً على الساحة السياسية العراقية، لم يكن من المتوقع فوزهم، فقد استطاع حزب "امتداد"، المنبثق من الحركة الاحتجاجية أو ما يطلق عليها اسم "حركة تشرين"، من حصد 9 مقاعد، كما حصل حزب "الجيل الجديد"، وهو المقابل الكردي لحزب "امتداد" في مدينة الناصرية الجنوبية، على 9 مقاعد أيضاً.
يعتبر حزب "الجيل الجديد" حزباً كردياً عراقياً معارضاً للسلطة، الحزب الديمقراطي الكردستاني، والاتحاد الوطني الكردستاني، اللذين يتقاسمان السلطة في إقليم كردستان العراق.
كما استطاع المرشحون المستقلون حصد حوالي 40 مقعداً في البرلمان العراقي الجديد. ومع إعلان كل من نواب حزب امتداد والجيل الجديد، والنواب المستقلين عن نيتهم عدم المشاركة في الحكومة المقبلة، والاكتفاء بلعب دور المراقبة والمعارضة للحكومة الجديدة، فسوف يشهد العراق وجود كتلة معارضة كبيرة، لأول مرة منذ تاريخه بعد الغزو الأمريكي للبلاد في عام 2003.