يعيش الاقتصاد التونسي منذ سنوات صعوبات كبيرة بسبب الخيارات الخاطئة للحكومات المتعاقبة في البلاد، حيث بلغت المديونية مستويات قياسيّة، وتراجع الدينار بشكل لافت، فيما انخفضت القدرة الشرائية للمواطنين، وارتفعت نسب التضخّم، وهو ما انعكس على تصنيف الاقتصاد التونسي.
وأثّر هذا الوضع الاقتصادي بشكل مباشر في المالية العامة، حتى أصبح الخبراء الاقتصاديون يحذرون من عجز الدولة عن الإيفاء بتعهداتها الدولية، وكذلك عدم قدرتها على صرف أجور الموظفين، خاصة في ظلّ بعض التأخير في الأشهر القليلة الفارطة.
وتدرس الحكومة التونسية العديد من الحلول للخروج من الأزمة الاقتصادية الراهنة وتمويل عجز الميزانية لسنة 2021، دون أن تواجه شروطاً سياسية مرتبطة بالضغوط الدولية على تونس، بعد إجراءات 25 يوليو/تموز، خاصة في العلاقة بالضغوط الأمريكية والأوروبية المنادية بضرورة تحديد زمني لإجراءات 25 يوليو/تموز، وعودة الحياة البرلمانية الديمقراطية.
ويرفض الرئيس قيس سعيّد هذه الضغوط ويحاول البحث عن حلول بعيدة عن الدعم الأوروبي والأمريكي، لكن البنك المركزي يرى في عودة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي الحلّ الأنسب.
ومن بين الحلول الموجودة على طاولة الحكومة التوجه نحو طباعة الأوراق النقدية أو الاقتراض من بنوك عالمية بفوائض عالية، أو الحصول على ودائع من بعض الدول الصديقة، خاصة بعد دخول تونس في مفاوضات مع الإمارات والسعودية من أجل تعبئة الميزانية.
استئناف المفاوضات
رغم تقلّص عجز الميزانية في تونس إلى 3 مليارات دينار (1.07 مليار دولار)، حسب أرقام البنك المركزي فإن الحكومة مازالت في حاجة إلى تعبئة الموارد من أجل توفير أجور الموظفين وتسديد الديون الخارجية.
وتبحث الحكومة عن حلول من أجل سدّ هذه الثغرة في الميزانية، حيث توقفت منذ أشهر مفاوضاتها مع المؤسسات الدوليّة المانحة وعلى رأسها صندوق النقد الدولي، في ظلّ شروط تضعها هذه المؤسسات والدّول الأوروبية والولايات المتحدة، خاصة بعد إجراءات 25 يوليو/تموز 2021.
وعبّر صندوق النّقد الدولي عن استعداده لمساعدة تونس، شرط القيام ببعض الإصلاحات، فيما يشترط الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة العودة إلى الديمقراطية البرلمانية، ووضع سقف زمني لإجراءات الرئيس قيس سعيّد من أجل مواصلة دعم تونس.
وتسعى الحكومة التونسية بمعية البنك المركزي إلى العودة إلى المفاوضات مع المؤسسات المانحة من أجل الحصول على تمويلات جديدة، إذ قال محافظ البنك المركزي مروان العباسي، إثر لقائه برئيس الدولة قيس سعيّد، يوم 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، إن تونس تستأنف في الفترة القادمة النقاشات مع كل المنظمات الدولية المالية، مشيراً إلى وجود عديد الوعود من البلدان الصديقة من أجل التمكّن من تعبئة موارد الميزانية.
وأكّد محافظ البنك المركزي مروان العباسي استعداد الممولين الدوليين، سواء على الصعيد الثنائي أو في إطار المنظمات المالية العالمية، للاستجابة لمطالب تونس شرط أن تكون الرؤية واضحة والأهداف محددة ودقيقة.
وأضاف العباسي أنه ناقش مع رئيس الدولة الوضعية المالية لتونس وقانون المالية 2022 وكيفية تمويل الاقتصاد عبر القطاع البنكي والمصرفي، كما أفاد بأن الوضعية الاقتصادية ليست سهلة ولكن سيتم تجاوز هذه الوضعيّة بفضل تضافر الجهود، موضحاً أن تونس لديها نقاشات غير رسمية مع صندوق النقد الدولي وستعود للنقاشات الرسمية في الفترة المقبلة مع كل المنظمات العالمية.
لا خوف على الأجور
تبدو مسألة صرف الأجور أولوية قصوى بالنسبة للحكومة باعتبارها تمثّل إشكالاً داخلياً قد يدخل البلاد في اضطرابات إذا حصل أي تأخير، لكن الحكومة تواصل طمأنتها للموظفين بهذا الشأن.
وفي هذا الخصوص، قال الخبير الاقتصادي رضا الشكندالي، في تصريح لـ"عربي بوست"، إنّه لا يمكن الحديث عن عجز الدولة عن تسديد رواتب الموظفين، لأنه في التاريخ الاقتصادي الدولي ليس هنالك دولة في العالم عجزت عن دفع رواتب موظفيها، حتى في الحالات القصوى، على غرار اليونان التي عاشت أزمة أكثر من تونس بكثير، ولجأت إلى التخفيض في المصاريف بالتعاون مع صندوق النقد الدولي.
وأضاف الشكندالي أن تونس لا تعرف أزمة بعملية تسديد أجور الموظفين، حيث يمكن أن تطبع الأوراق النقدية، أو أن تلتجئ إلى البنك المركزي، لكن سيكون لذلك تداعيات بارتفاع نسب التضخّم وتراجع القدرة الشرائية، وهو ما يجعل رئيس الدولة في ورطة أمام مناصريه.
واعتبر الشكندالي أن هنالك اختلاف بين دفع الرواتب وتسديد الديون الخارجية، مشيراً إلى أن صرف الأجور يكون بالعملة المحلية التي لدى الدولة سلطة عليها، ويمكن أن تطبع أوراقاً جديدة، لكن في المقابل يتم تسديد الديون الخارجية بالعملة الأجنبية، والدولة التونسية ليست لديها السيادة على هذه العملة، مشيراً إلى وجود شحّ في العملة الصعبة بسبب تراجع إنتاج بعض القطاعات، على غرار السياحة والفلاحة والفوسفات، وإذا لم يحدث اتفاق مع صندوق النقد الدولي فيمكن أن يؤدّي ذلك إلى عجز حقيقي.
وأشار الشكندالي إلى أن التقليص من المديونية يعني أنه لا بدّ من توجيه الديون المخلّدة التي دفعها الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي إلى غايات إنتاجية واستثمارية، مبيّناً أن تونس وقعت في إشكال تحويل القروض الاستثمارية إلى مسائل استهلاكية.
وشدد الشكندالي على ضرورة الاهتمام بالقطاع الخاص لتنمية الثروة وتحسين معدّلات النمو التي تنعكس إيجابياً على موارد الدولة من الجباية ممّا يساهم في تقلّص الاتجاه نحو التداين الخارجي.
وفي ذات السياق، قال الباحث الأكاديمي والمدير فوق الرتبة بالبنك المركزي ياسين بن إسماعيل، في تصريح لـ"عربي بوست"، إن الدولة التونسية لن تعجز عن صرف أجور الموظفين، ما دام البنك المركزي التونسي الذي يضطلع بدور المقرض الأخير موجوداً، إضافة إلى أن أجور الموظفين يتم صرفها بالعملة المحلية.
وأضاف بن إسماعيل أن الإشكال بالنسبة للدولة التونسية والبنك المركزي يكون عندما تكون النفقات بالعملة الأجنبية، مبيّناً أنه علمياً من غير الممكن أن تعجز أي دولة عن صرف الأجور للموظفين مهما كان حجم كتلة الأجور.
من جانبه، فنّد المدير العام للتمويل والدّفوعات الخارجية بالبنك المركزي عبد الكريم لسود، في تصريحات صحفية، ما راج من أخبار حول صعوبة توفير الأجور، قائلاً إنّه لا مجال للخوف على الأجور، خاصة أنّ الحكومة والبنك المركزي يعملان على توفير أجور شهري نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول، وجارٍ العمل على توفيرها.
وأضاف أنه سيتم فتح الباب لتعبئة موارد الدولة عن طريق التعاون الدولي، مبيّناً وجود نقاشات متقدمة جداً مع السعودية والإمارات، من أجل تعبئة موارد الدولة، إضافة إلى ضرورة تطوير التعاون الثّنائي مع الجزائر.
كما أشار لسود إلى أنّ التّوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي هو الحل الأول لإدخال إصلاحات مهمة على الاقتصاد التونسي.
إغلاق باب التداين من الخليج
أبرز الخبير الاقتصادي رضا الشكندالي أن الفجوة المالية في ميزانية الدولة، حسب تقديراته، تبلغ حوالي 4.4 مليار دينار (1.5 مليار دولار)، مشيراً إلى أن هذا العجز ليس كبيراً ولا يجعل مهمّة الحكومة مستحيلة.
وأفاد الشكندالي بأن باب التداين من الخليج أغلق، خاصة أن المملكة العربية السعودية اتجهت لدعم مصر وباكستان فقط، بينما هناك اتجاه نحو غلق الباب من التداين من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، بسبب عدم تفاعل تونس في مسألة عودة الحياة البرلمانية وإنهاء الفترة الاستثنائية.
واعتبر الشكندالي أن الحل الأنسب يتعلّق بالتدين من الجزائر، خاصة بعد الزيارة المنتظرة للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى تونس، في ظل وضع مالي جيّد للجزائر مع ارتفاع أسعار النفط، وحصولها على حقوق السحب الخاصة من صندوق النقد الدولي، مشيراً إلى أن هذا الخيار يعتبر الأنسب، خاصة أنّه ليس له كلفة سياسية.
من جانبه، قال المدير فوق الرتبة بالبنك المركزي ياسين بن إسماعيل، في تصريح لـ"عربي بوست" إن احتياطي العملة الأجنبية في تونس يقدّر بـ130 يوماً، وهو يكفي لتسديد ديون تونس لسنتي 2021 و2022، على ألا تزيد هذه الديون خلال هذه الفترة.
واعتبر بن إسماعيل إن هناك مبالغة في التخوّف من مسألة عجز الدولة عن تسديد الديون وصرف الأجور في تونس، مشيراً إلى دور البنك المركزي في تعضيد مجهودات الحكومة في ذلك.