كما كان متوقعاً، حدث الأمر وتصاعدت الأزمة الدبلوماسية بين لبنان والدول الخليجية، وخصوصاً تصعيد السعودية، لتصل إلى حد سحب السفير السعودي من بيروت وليد البخاري، ومطالبة السفير اللبناني بمغادرة السعودية في غضون 48 ساعة، وكذلك فعلت مملكة البحرين، التي طلبت من السفير اللبناني مغادرة أراضيها خلال 48 ساعة أيضاً.
هذا التطور بالغ الخطورة على لبنان وعلاقاته العربية، في مرحلة سياسية واقتصادية شديدة السوء، وفي وقت تصاب به الحكومة اللبنانية بالشلل والتعطيل، وهي التي وعد رئيسها نجيب ميقاتي بإعادة العلاقات الجيدة مع الدول العربية.
مصادر مطلعة كشفت لـ"عربي بوست" كواليس هذا التصعيد وما دار في أروقة الحكومة والساسة في لبنان.
كواليس الساعات الأخيرة
يروي مصدر سياسي رفيع المستوى لـ"عربي بوست"، أنه ومنذ خروج تصريحات قرداحي تجاه السعودية والإمارات، وصلت إشارات إلى رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي، أن الإجراءات هذه المرة ستكون قاسية ورادعة، في حال لم يستقِلْ وزير الإعلام جورج قرداحي ويقدم اعتذاره عن التصريحات.
تلقف عون وميقاتي الرسالة، وبدأ الرجلان في إجراء اتصالاتهما السياسية لاحتواء الموقف، فأجرى ميقاتي سلسلة اتصالات شملت رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس تيار المردة سليمان فرنجية -الذي ينتمي قرداحي له- ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط.
وبحسب المصدر فإن الأطراف أكدت على استعدادها للقيام بأي خطوة تمنع الانزلاق في العلاقة مع السعودية ودول الخليج، لكن ووفقاً للمصدر فإن موقف حزب الله الذي تشدد بدعم تصريحات قرداحي ترجم عبر مخالفة قرداحي لاتفاق جرى بينه وبين ميقاتي، بإصدار بيان اعتذار تمهيدي للدول العربية، واعتبار ما قيل لا يُعبر عن لبنان وحكومته.
لكن قرداحي قام بعكس ما تم الاتفاق عليه، فقام بالتصعيد تجاه الخليج، واعتبر أن "دولاً تبتز لبنان"، وهو ما زاد الأزمة.
لقاء جعجع قبل الرحيل
بالتوازي، كان لافتاً الزيارة التي أجراها السفير السعودي في لبنان وليد البخاري لرئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، قبيل ساعات من الإعلان عن الخطوات التصعيدية السعودية تجاه لبنان.
وأشارت المصادر أن زيارة البخاري لجعجع كانت بهدف إرسال رسائل سياسية بأن حزب القوات هو الحليف الرئيسي للسعودية، في ظل انتهاء العلاقة التاريخية مع رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، المتواجد منذ أشهر خارج البلاد.
وتؤكد المصادر أن جعجع سمع من البخاري القرارات السعودية المتعلقة بقطع العلاقات والعقوبات الجاري تحضيرها مع دول أخرى قبل إعلانها رسمياً، وأكد له خلال الاجتماع وقوف السعودية معه في الاستهداف السياسي الجاري منذ أحداث بيروت، في 14 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
باسيل تواصل مع السعوديين
وتؤكد مصادر سياسية لبنانية أن رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل تواصل مع مسؤولين سعوديين، مؤكداً لهم رفضه لمواقف الوزير قرداحي تجاه المملكة.
وأكد باسيل أنه ورئيس الجمهورية ميشال عون يؤيدان استقالته، وأن المتشبث ببقائه هو الوزير سليمان فرنجية وحزب الله.
ميقاتي والاستقالة
ووفقاً للمصدر، فإن الرئيس ميقاتي فهم الرسالة عبر بيان حزب الله المدافع عن قرداحي، كون الحزب لا ينوي التراجع عن تصعيده تجاه المملكة، وهو ما يعني الدخول في صدام مباشر مع السعوديين، الأمر الذي لا يمكن "لرئيس حكومة سني" أن يتحمله.
يؤكد المصدر أن ميقاتي أبلغ السعوديين عبر أحد الوسطاء العرب، أنه جاهز للاستقالة من الحكومة، وذلك صباح الجمعة 29 أكتوبر/تشرين الأول، لكن الرسالة "تأخرت كثيراً"، إذ تؤكد المصادر أن ميقاتي سعى عبر دول خليجية أخرى كالكويت وقطر للتوسط لدى السعوديين، لكن الجواب كان واضحاً: "استقالة قرداحي هي البداية".
وأشار المصدر إلى أن ميقاتي بات يشعر أن الضمانات التي حصل عليها من الفرنسيين والثنائي الشيعي تبخرت بعد أقل من شهر على تشكيل حكومته، فقد جرى تعطيل الحكومة بسبب إصرار حزب الله وحركة أمل على عزل القاضي طارق بيطار، قاضي التحقيقات في حادثة انفجار مرفأ بيروت.
كذلك الدخول في معركة ميدانية بين حزب الله وحزب القوات اللبنانية في أحداث الطيونة، ومن ثم استفزاز السعوديين والأمريكيين باستدعاء سمير جعجع إلى التحقيق لمحاولة مقايضته بملف تحقيق المرفأ، خاصة أن جعجع هو حليف السعودية، ومن ثم أتت تصريحات قرداحي، وهو ما أثبت نظرية دول الخليج بأن الحكومة لا تزال بيد حزب الله.
ميقاتي طلب من قرداحي الاستقالة
تؤكد أوساط رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي لـ"عربي بوست"، أن الأخير طلب مجدداً من وزير الإعلام جورج قرداحي الاستقالة.
لكن استقالته واجهت اعتراضاً من رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، كما برزت مؤشرات لاحتمال تقدم وزراء حزب الله والمردة باستقالاتهم، في حال استقال قرداحي، ما يهدد مصير الحكومة.
هل استقالة ميقاتي واردة؟
لا ينفي المصدر السياسي أن يكون ميقاتي يستعد "للخروج الآمن من الحكومة"، فهو يواجه مجموعة من التحديات باتت تلازم الحكومة، أبرزها ملفات المرفأ وأحداث الطيونة، وآخرها التصعيد العربي تجاه لبنان، وخاصة أن ميقاتي أبلغ بعض الوزراء والنواب والمستشارين المحيطين به أنه ينوي الاستقالة حفظاً لماء الوجه.
ويؤكد المصدر أن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي يريد أن يضحّي بالوزير جورج قرداحي، علّه ينقذ حكومته، لكن قرداحي لم يوافق حتى اللحظة، وهو يربط استقالته بموافقة رئيس تيّار المردة سليمان فرنجيّة وحزب الله.
وعليه سيكون مصير الحكومة مرتبطاً بمدى قدرة رئيسها على الصمود.
لكنّ مصدراً دبلوماسياً عربياً أكد لـ"عربي بوست" أن ميقاتي تلقى مساء الجمعة اتصالات أمريكية وفرنسية ومصرية وتركية، تحضّه على عدم الاستقالة، وأكدت له على ضرورة معالجة المشكلة المستجدة مع السعودية دون الذهاب إلى فراغ حكومي في الوقت الحالي.
ويؤكد المصدر أن ميقاتي يعول على مشاركته والوزير ناصر ياسين في قمة المناخ التي تعقد في غلاسغو في بريطانيا، في 1 و2 نوفمبر/تشرين الثاني، بمشاركة 51 دولة، وحضور رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وتركيا، كبوابة للتواصل مع قادة العالم لمساعدته في أزمة لبنان مع السعودية.
عقوبات اقتصادية قادمة
تعتبر مصادر خليجية لـ"عربي بوست"، أن أداء الحكومات في لبنان تجاه الخليج بات ملازماً لسياسات إيران وحزب الله، بالهجوم على السعودية والدول العربية.
وأوضح مصدر أن السعودية ومعها أشقاؤها الخليجيون باتوا يدركون أن لبنان وحكوماته رهينان بيد حزب الله.
المصدر أشار إلى أن إجراءات عقابية يجري دراستها مع دول عربية أخرى، تقضي بفرض عقوبات قاسية على شخصيات وشركات لبنانية، وأنها لن تقتصر على سياسيين، إنما ستشمل أيضاً رجال أعمال مقربين من القوى السياسية جميعاً في لبنان، بالإضافة إلى إدارات ومؤسسات وكيانات رسمية لبنانية.
وأضاف المصدر أن السعودية دعت وزراء خارجية مجلس التعاون الخليجي لاجتماع طارئ، وهي تنتظر من باقي دول الخليج اتخاذ نفس التدابير.
واختتم المصدر بالقول إن الرسالة وصلت إلى المملكة، ومنها لباقي الدول الخليجية، منذ لحظة استدعاء رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع للتحقيق في أحداث الطيونة، ومحاولة الضغط عليه عبر القضاء لتقديم تنازلات، والجميع يدركون أن الحليف الرئيسي للسعودية في لبنان هو سمير جعجع، لذا فإن الموقف من الحكومة بات يستلزم خطوات تصعيدية.
تبعات القرار اقتصادياً
وفق جمعية الزراعيين اللبنانيين، فإن تصدير المنتجات اللبنانية إلى دول الخليج يسهم بشكل جيّد في انتعاش السوق المحليّ واستمرارية عمل القطاع الزراعي.
ووفق إحصاء لـ"جمعية المزارعين" عن صادرات لبنان الزراعية إلى دول الخليج، وفق بيانات مديرية الجمارك العامة، فقد بلغت صادرات لبنان من الخضراوات والفاكهة سنة 2020، 312.6 ألف طن، بقيمة 145 مليون دولار، فيما بلغت حصّة الصادرات الزراعية إلى كل دولة من دول الخليج الآتي:
– حصّة الكويت 59 ألف طن قيمتها 21 مليون دولار، أي 19%.
– حصّة السعودية منها 50 ألف طن قيمتها 24 مليون دولار أي 16%.
– حصة الإمارات 31 ألف طن قيمتها 14 مليون دولار أي 10%.
– حصة عمان 15 ألف طن قيمتها 16 مليون دولار، أي 4.8%.
– حصة البحرين 2.3 ألف طن، قيمتها 7 ملايين دولار أي 2.2%.
– حصة قطر 16 ألف طن قيمتها 10 ملايين دولار أي 5.1%.
وبذلك، تستورد السعودية ودول الخليج من لبنان 173.3 ألف طن، أي ما نسبته 55.4% من إجمالي صادرات لبنان من الخضراوات والفاكهة، وهما رقمان يدلّان على حجم خسائر حظر الصادرات إلى الخليج.
وفي الأرقام أيضاً، 92 مليون دولار هي الخسارة السنوية من جرّاء منع المنتجات الزراعية اللبنانية من الدخول إلى السعودية أو المرور من خلالها، أي ما يوازي 250 ألف دولار يومياً.