كما كان متوقعاً ستوقف الجزائر إمداداتها من الغاز إلى إسبانيا عبر الأنبوب العابر للمغرب بعد ساعات، وتنتقل لتزويد مدريد عبر الأنبوب البحري الجديد الرابط بين البلدين مباشرة.
ومن المتوقع أن يعمق هذا القرار الأزمة السياسية بين الرباط والجزائر التي تشهد أصلاً توتراً غير مسبوق خلال العقدين الماضيين.
وتضيق الخيارات الطاقية أمام المغرب مع اقتراب نهاية استيراد الرباط الغاز القادم من الجزائر، والذي يمثل 700 مليون متر مكعب كمتوسط سنوي، نحو 65% من احتياجات المغرب من الغاز البالغة 1.3 مليار متر مكعب سنوياً.
وكان الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، قد ترك بريقاً من الأمل قبل شهر من الآن، في تصريحات تلفزيونية، أكد فيها أن بلاده لم تحسم أمرها في مسألة إيقاف إمداد إسبانيا بالغاز عبر أنبوب المغرب العربي.
وفي سنة 1996، دشنت الجزائر والمغرب وإسبانيا "خط أنبوب المغرب العربي-أوروبا"، الذي ينقل كميات غاز سنوية تصل إلى 12 مليار متر مكعب، ويبلغ طوله 1350 كيلومتراً انطلاقاً من الجزائر، منها 520 في المغرب وحده، يزود هذا الأنبوب المغرب وإسبانيا والبرتغال بالغاز الطبيعي، فيما تستفيد الرباط أيضاً من عائدات مالية كحقوق عبور، وتنتهي الآجال التعاقدية لهذا الأنبوب في 31 أكتوبر/تشرين الأول ولم يتم تجديد العقد.
لماذا الآن؟
لن تكون صعبة معرفة الإجابة، فالأزمة السياسية بين الرباط والجزائر لا يكاد أي طرف فيها يوفر أي أداة ضغط على الآخر.
ولم تكن الجزائر لتضيّع الفرصة للضغط على المغرب بملف حساس كملف الغاز، لاسيما أن العقد الذي يربط البلدين شارف نهايته في وقت مناسب بالنسبة للجزائر، التي على ما يبدو كانت تُحضِّر للقرار منذ سنوات، إذ كانت تشتغل على قدم وساق لمدِّ أنبوب بديل عبر المتوسط يربطها بإسبانيا مباشرة، وقد أصبح هذا الأنبوب جاهزاً لمهمته، حتى وإن كانت سعته أقل من الأنبوب العابر للمغرب.
وبهذا الخصوص تعهد الرئيس الجزائري بأن توفر بلاده كل احتياجات إسبانيا من الغاز، حتى وإن حدث عطب في الأنبوب الرابط بين البلدين، إذ أكد تبون أن الجزائر ستسيّر ساعتها جميع سفنها الخاصة بتوريد الغاز إلى مدريد؛ لتلبية احتياجاتها.
وأكد الخبير الدولي في الطاقة فرانسيس بيرين، لصحيفة "ليبارتي" الجزائرية الناطقة باللغة الفرنسية، أن الجزائر من خلال مجمع سوناطراك قادرة على تزويد إسبانيا بكميات إضافية من الغاز عند الحاجة، على شكل غاز طبيعي يتم نقله بحراً دون اللجوء إلى أنبوب الغاز الأورو-مغاربي.
وذكّر الخبير بتوافر أنبوب الغاز "ميدغاز" الذي يربط مباشرةً الجزائر بإسبانيا، والذي ستكتمل أشغال التوسعة به في شهر نوفمبر/تشرين الثاني، لتنتقل طاقته من 8 مليارات متر مكعب سنوياً إلى 10.5 مليار متر مكعب سنوياً.
يعتقد الخبير الدولي في الطاقة فرانسيس بيرين أن المغرب سيتكبد خسائر جمة بسبب قرار الجزائر الأخير، تتعلق بصعوبة إيجاد بديل، لاسيما في ظل الارتفاعات القياسية لأسعار الغاز، إضافة إلى خسارة مورد قريب بتكلفة منعدمة تقريباً، زيادة على خسارة كميات الغاز التي تستفيد منها الرباط بفعل عبور الغاز الجزائري على أراضيها نحو إسبانيا.
وكان أنبوب الغاز الأورو-مغاربي الذي دخل حيز الاستغلال سنة 1996، يضمن الإمداد بالغاز نحو إسبانيا انطلاقاً من حاسي الرمل على مسافة 1400 كم، مروراً بالتراب المغربي، حيث يزود كلاً من إسبانيا والبرتغال بما مجموعه 10 مليارات متر مكعب سنوياً.
هل ستخسر الجزائر؟
رغم أن قرار الجزائر إنهاء تعاقدها لنقل الغاز عبر أنبوب أوروبا/المغرب العربي يبدو كوسيلة من وسائل الصراع السياسي بينها وبين الرباط، فإن الأخيرة ستستفيد مالياً من هذا التوقيف.
فالجزائر لم تكن تستفيد من أي رسوم لنقل الغاز باعتبار أن ملكية الأنبوب كانت مقسمة بين إسبانيا والبرتغال والمغرب، أما الأنبوب الجديد الذي يربط بين الجزائر ومدريد فتمتلك الجزائر منه 51%، بينما تستحوذ إسبانيا على النسبة المتبقية.
ويقول الخبير الطاقي بوزيان مهماه، لـ"عربي بوست"، بهذا الخصوص، إن الجزائر ستربح مرتين، أولاً: ببيع كمية الغاز المتعاقد عليها، وثانياً: تحصيل رسوم النقل عبر الأنبوب وهو ما لم تكن تحصله عبر الأنبوب القديم المار عبر المغرب.
وساطة إسبانية ولكن..
حطَّت النائبة الثالثة لرئيس الحكومة الإسبانية ووزيرة التحول البيئي، تيريزا ريبيرا، الأربعاء 27 أكتوبر/تشرين الأول، بالجزائر العاصمة؛ للتباحث حول ما سمته صحيفة الباييس الإسبانية "البحث عن حل لإغلاق خط أنابيب الغاز المغاربي الأوروبي".
وقالت الصحيفة في تقرير لها، إن الوزيرة ريفيرا ستبحث مع السلطات الجزائرية ضمان استمرار وصول الكمية نفسها من الغاز التي كانت تُنقل عبر خط الأنابيب المار عبر المغرب.
وأضافت "الباييس" أن المغرب طلب وساطة مدريد لتجديد خط أنبوب الغاز مع الجزائر والذي سينتهي العمل به قبل أيام.
ووفق مصادر للصحيفة الإسبانية ذاتها، فإنه من الصعب أن تتراجع الجزائر عن قرارها.
وحسب المصدر ذاته، فإن إسبانيا تعوّل على المضي قدماً في مفاوضات ولعب دور الوسيط بين الجزائر والرباط.
كشفت صحيفة الباييس أن المغرب يمكن أن يطلب من إسبانيا إرسال الغاز عبر خط أنابيب أوروبا/المغرب العربي في الاتجاه المعاكس، إلا أن المغرب لم يقدم طلباً رسمياً إلى إسبانيا بهذا الشأن لحد الآن.
وأوضح المصدر الإسباني ذاته، أن سلطات بلاده لا تعرف كيف سيكون رد فعل الجزائر إذا وافقت مدريد على طلب الرباط.
ويعتقد الخبير الاقتصادي بوزيان مهماه، أن استيراد المغرب للغاز عبر إسبانيا بشكل عكسي ممكنٌ، لكن الأمر يتطلب وقتاً واستثماراً.
ويقول مهماه لـ"عربي بوست"، إن "عملية الاستيراد العكسي تتطلب دراسة تقنية شاملة لإعادة التشغيل، ويتطلب ذلك على الأقل ستة أشهر، كما يتطلب الأمر إعادة تركيب أجهزة ضخ عكسية، وهذا ما قد يكلف الوقت والمال الكثير".
وتساءل الخبير الطاقوي عن مصدر الغاز الذي يمكن أن تمون إسبانيا به المغرب، لا سيما أن مدريد تسابق الزمن لملء خزاناتها الاستراتيجية قبل الشتاء.
وأضاف مهماه أن "الجزائر في حال بيعها الغاز إلى إسبانيا لا يمكنها أن تعترض على بيعه للمغرب بعد ذلك، لكن في الحقيقة إسبانيا لا تملك الوفرة لتبيع، خاصة في ظل قلة المعروض وارتفاع الأسعار العالمية".
نهاية غير متوقعة
في آخر حوار للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، أكد عدم تجديد اتفاق ثلاثي بين الرباط والجزائر ومدريد، يقضي بنقل الغاز الجزائري إلى إسبانيا عبر الأراضي المغربية، وشدد على أن "هذا القرار نهائي، لأن هناك أنبوب غاز يربط الجزائر مباشرة بإسبانيا (ميدغاز)".
غير أن الرئيس الجزائري، في الحوار ذاته الذي بثه تلفزيون الجزائر الرسمي، الأحد 10 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، وجواباً عن سؤال حول إمكانية توقف الجزائر عن تزويد المغرب بالغاز، قال إن العقد ينتهي في 31 أكتوبر/تشرين الأول الجاري ولم يُتخذ أي قرار بعد، و"من هنا إلى ذلك الوقت، ربي يدير التأويل (لكل حادث حديث)".
مصادر في قطاع الطاقة المغربي سجلت أن العقد سينتهي في الأسبوع القادم، لكن الرباط لا تواجه مشاكل في الحصول على احتياجاتها من الغاز، فالمغرب أمَّن اتفاقات تعاون مع عدد من الدول للحصول على الغاز.
وسجلت المصادر في تصريح لـ"عربي بوست"، أن المغرب منذ سنوات وهو يعمل على تجاوز الحاجة إلى الطاقة التقليدية، وقلَّص كثيراً في السنوات الأخيرة من الاعتماد عليها، ومن ثم فإن آثار وقف الغاز الجزائري ستظل محدودة.
وفي سؤال لـ"عربي بوست" عن تصريحات الرئيس الجزائري، وتصريحات مسؤولين إسبان، عن إمكانية حصول المغرب على الغاز الجزائري من خلال مدريد، قالت المصادر إن "إسبانيا بلد جار، و520 كيلومتراً من أنبوب الغاز لا يمكن أن تتوقف عن العمل".
هذه التلميحات تكاد تتطابق مع مصادر رسمية مغربية سبق أن صرحت لوكالات أنباء أجنبية، بأن أنبوب الغاز المغرب العربي-أوروبا لا يمكن أن يصدأ".
مصادر "عربي بوست" زادت بأن المغرب أقام محطتين لتوليد الكهرباء على امتداد خط أنبوب المغرب العربي-أوروبا، ولقد شرع منذ مدة ليست باليسيرة، في تدبير طريقة استمرارهما بالعمل، والخطوة الجزائرية لن تؤثر على سير عملهما.
بدائل الرباط
الباب الموارب الذي تركته الرباط والجزائر تجاه استفادة المغرب من غاز سوناطراك (شركة البترول الجزائرية)، ينضاف إلى ما وصفته مصادر مغربية، لـ"عربي بوست"، بالخطوات الأربع التي اعتمدتها الرباط، لتفادي الاضطراب، وتحقيق الأمن الطاقي.
وذهبت المصادر إلى أن الرباط وصلت إلى تفاهمات متقدمة مع دول أخرى من بينها إسبانيا، من أجل استعمال موانئها الخاصة بالغاز الطبيعي المسال، لتلبية احتياجات المغرب عبر تحويل الغاز، باستخدام خط الأنابيب نفسه.
وأفادت المصادر ذاتها بأن المغرب قام في مستوى ثانٍ، بعمليات شراء لصالحه من الغاز، وأعطى لهذا الغرض تصاريح لمستوردي الغاز.
وأكدت المصادر المغربية أن الرباط تضع اللمسات الأخيرة، من أجل إنشاء محطة عائمة لتحويل الغاز المسال في الشواطئ الشمالية للمغرب، ويُتوقع أن يُشرع في العمل فيه بنواحي مدينة الناضور، خلال السنتين القادمتين، على أبعد تقدير.
وفي مستوى رابع ذهبت المصادر إلى أن المغرب اختار منذ سنوات، الاعتماد على الطاقات المتجددة، فالمغرب اليوم يعد واحداً من البلدان الواعدة على صعيد العالم في إطار اقتصاد الطاقة النظيفة.
وسجلت المصادر أن الخطوات الأربع التي اعتمدها المغرب في السنوات الأخيرة، كفيلة بضمان أمن طاقي، آمن، ونظيف، ومستدام، خاصةً أن الرباط توجهت للاستثمار بشكل كبير في قطاع الطاقات المتجددة.
خسارات ثلاث
وذهب باحث مغربي مستقل في قطاع الطاقة، إلى أن عدم تجديد اتفاقية خط أنبوب المغرب العربي-أوروبا، سيكون مكلفاً اقتصادياً ومالياً وطاقياً للبلدان الثلاثة، صحيحٌ أن التكلفة لن تكون بالحدة نفسها لجميع البلدان لكنها واقعة على الجميع.
وتابع الباحث الذي طلب عدم الكشف عن هويته، في تصريح لـ"عربي بوست"، أن أول الخاسرين هي الجزائر، التي ستتكلف أعباء مالية إضافية من جراء نقل الغاز إلى إسبانيا عبر خط "ميد غاز" الأقل تدفقاً مقارنة بالأنبوب العابر من المغرب؛ وهو ما يدفعها إلى البحث عن وسائل أخرى لتوفير نقص الكميات التي كان تُرسل عبر المغرب، ما يعني دفع أموال إضافية.
وزاد أن إسبانيا خاسرة بدورها؛ لتراجع كميات الغاز التي ستصل إليها من الجزائر؛ مما دفعها إلى البحث عن موردين جدد، مثل قطر والولايات المتحدة اللتين بدأت معهما المباحثات من أجل الحصول على الغاز المسال.
وشدد على أن خطورة مشتركة على الجزائر وإسبانيا معاً، متمثلة في الخط البحري بين البلدين.
وأردف أن ثالث المتضررين هو المغرب، الذي سيكون مضطراً في السنوات القليلة المقبلة، إلى تعويض احتياجاته من الغاز الجزائري، عبر إنشاء محطة عائمة بالناضور شمال المغرب في 2023، وتحويل الغاز المسال، ورفع إنتاج الطاقات المتجددة كذلك.
وشدد الباحث على أن الغاز الجزائري لم يكن يغطي نسبة 15% من احتياجات المغرب الطاقية، ومن ثم سيكون من السهل تعويضها، خاصة في ظل توجه مغربي نحو الطاقات المتجددة.
وأكد أن المغرب طرح مشروعاً للوصول إلى نسبة تفوق 50% من الكهرباء الناتجة من الطاقات المتجددة، ومن ثم فإن القرار الجزائري قد يعزز هذا التوجه المغربي، ويحفزه إلى تسريع وتيرة العمل على تعويض البترول ومشتقاته بحقول الطاقة الريحية والشمسية.
وأفاد الباحث بأن الغاز يعد ضرورياً لتأمين الانتقال الطاقي، وسيظل المغرب في حاجة إليه لسنوات، قبل الانتقال إلى قطاع الطاقات المتجددة، الذي رغم الصعوبات التي تكتنفه محلياً، فإن المغرب مؤهل ليحقق فيه تطوراً كبيراً.
ويرى مراقبون أن أزمة أنبوب غاز المغرب العربي-أوروبا ليست إلا واجهة للتوتر السياسي والعسكري بين الرباط والجزائر، بسبب التطورات الأخيرة في ملف الصحراء، والتغيرات التي تشهدها الجزائر.