بعد عقدين من الزمن، رحلت الولايات المتحدة حتى آخر جندي من أفغانستان، دون أن تقيم أي احتفالات أو رسميات، وتحت ستار الضوء الأخضر لمنظار الرؤية الليلية، صعد اللواء كريس دوناهيو، آخر "جندي أمريكي على الأرض"، الممر الخلفي لطائرة "بوينغ سي 17" التابعة للقوات الجوية، ليل الإثنين 30 أغسطس/آب 2021.
الجندي الأمريكي بدا متشحاً بدرعٍ واقية وخوذة، وحمل قائد الفرقة المجوقلة الـ82 في الجيش الأمريكي سلاحه في يده اليمنى، وفي عينيه نظرة يأس، بينما تنهي مسيرته المنفردة هذه البعثة الأمريكية "المشؤومة" في أفغانستان.
وفي تمام الساعة 11:59 مساءً بتوقيت كابول، حلّقت طائرة "سي-17" حاملةً على متنها آخر 5 جنود أمريكيين على تراب أفغانستان وفي رسالة أخيرة إلى جنوده، قال دوناهيو: "عمل رائع، أنا فخور بكم جميعاً".
"انسحاب مهين" لأمريكا
صحيفة The Guardian البريطانية قالت إن صورة دوناهيو وهو يسير وحيداً قد تدل إلى انسحاب الولايات المتحدة المهين من أفغانستان.
وقد أصر الرئيس الأمريكي جو بايدن سابقاً على أنَّ الانسحاب الأمريكي "لا يُقارَن" بالفوضى التي أعقبت الرحيل عن سايغون (فيتنام) في 1975. ويتذكر بايدن، الذي كان سيناتوراً آنذاك، الضرر الذي أصاب هيبة الولايات المتحدة بعد انتشار صور باللونين الأبيض والأسود للمروحيات وهي تسارع لنقل الأشخاص من أعلى سفارتها.
لكن هذه الصور تكرَّرت مؤخراً أيضاً. فربما شوهد دوناهيو يرحل في هدوء عن المطار، لكن الفوضى التي اندلعت هناك منذ أيام، وتعلُّق الأفغان على جانبي طائرات القوات الجوية الأمريكية، هي التي تمثل الخروج الأمريكي.
وخلف أسواره المُدمّرة والأسلاك الشائكة، تقف المزيد من المعدات العسكرية الأمريكية المُقدَّرة بملايين الدولارات، التي وقعت في أيدي طالبان التي سيطرت على أفغانستان، التي تسمى بحق "مقبرة الإمبراطوريات"، بسبب صمودها بعناد في وجه الغزو الأجنبي.
قوات التحالف فقدت أكثر من 3500 جندي على مدى 20 عاماً، وأنفقت الولايات المتحدة أكثر من تريليوني دولار على أفغانستان، أي أكثر مما ساهمت به في خطة مارشال التي أعادت بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.
لكن التغيير الذي جاء مقابل تضحيات بالأرواح والأموال في أفغانستان اتصف دوماً بالهشاشة، ويبدو أنَّ أغلبه ينعكس الآن.
ولم تكن أفغانستان لتزدهر تحت "الاحتلال الأجنبي". فقد قُتِل أكثر من 47000 مدني أفغاني في الصراع؛ وفر الملايين لجوءاً إلى دول أخرى، وتبيّن أنَّ الجيش الأفضل تسليحاً في تاريخ العالم ليس نداً لصبر طالبان الصلبة، وتُولَع طالبان بقول: "لديكم الساعات.. ولدينا الوقت".
وبينما خطا دوناهيو خطواته الأخيرة وحيداً، انتهى وقت أمريكا.
القيادة المركزية الأمريكية نشرت على صفحتها الرسمية بموقع تويتر، فجر اليوم الثلاثاء، صورة ليلية للجندي الأمريكي وكتبت القيادة في تعليق على هذه الصورة: "صورة للواء في الجيش الأمريكي "كريس دوناهيو"، قائد الفرقة المجوقلة الـ82، والذي يعتبر آخر عنصر من القوات الأمريكية يغادر أفغانستان. وبمغادرته تم استكمال المهمة الأمريكية لإجلاء المواطنين الأمريكيين، والأفغان من حاملي تأشيرة الهجرة الخاصة، بالإضافة إلى الأفغان المعرضين للخطر".
تفاعل على تويتر
وما إن نشرت صورة الجندي الأمريكي تفاعل رواد مواقع التواصل الاجتماعي معها، فيما راح البعض يستذكر صورة آخر جندي سوفييتي انسحب من أفغانستان عام 1989.
المغرد sandeep نشر الصورة وعلق عليها قائلاً: "لا يوجد جنود خلفي.. صورة توثق خروج القوى العظمى، تفصل بينهما 32 عاماً في اليسار اللواء بوريس جروموف – القائد السوفييتي للجيش يسير عبر نهر أمو داريا (يمين) وفي اليمين اللواء كريس دوناهو قائد الفرقة 82 المحمولة جواً على متن طائرة C-17 ، منهياً المهمة الأمريكية في أفغانستان".
فيما كتب المغرد إدريس: "جنرال بالجيش الأمريكي كريس دوناهو، من الفرقة 82 المحمولة جواً ، كان آخر جندي أمريكي يغادر أفغانستان 20 عاماً من الحرب من أجل لا شيء!".
فيما كتب الباحث محمد صالح صدقيان تغريدة قال فيها: "هذا القائد هو آخر جندي أمريكي يغادر الأراضي الأفغانية قبل أن تعلن أمريكا انسحاب كافة قواتها الأمريكية من بلد احتلته منذ 20 عاماً دون أن تحقق أياً من الأهداف التي وعدت بتنفيذها. ما حصل في أفغانستان عمق حالة عدم المصداقية التي تعاني منها أمريكا والذي يريد الرئيس #بايدن العودة إليها".
حرب 20 عاماً انتهت!
واستفاق العالم، صباح الثلاثاء 31 أغسطس/آب 2021، على سيطرة حركة طالبان على مطار كابول الدولي، آخر معاقل وجود القوات الأمريكية، التي أعلنت، مساء الإثنين 30 أغسطس/آب، انسحاب آخر جندي أمريكي من أفغانستان؛ لتطوي صفحة غزو استمر 20 عاماً، وتعلن عودة طالبان إلى السلطة.
فقد اضطرت واشنطن وشركاؤها في حلف شمال الأطلسي إلى خروج مذل ومتعجل من أفغانستان. وفي أعقاب عمليات إجلاء جوي ضخمة وفوضوية على مدى الأسبوعين الماضيين، يخلف هؤلاء وراءهم آلاف الأفغان الذين ساعدوا الدول الغربية وربما كانوا مؤهلين للإجلاء.
في حين كان الرئيس الأمريكي جو بايدن يعلن أنّه سيلقي، اليوم الثلاثاء، خطاباً إلى الأمّة بشأن الانسحاب من أفغانستان، كان مقاتلو حركة طالبان يطلقون النار في الهواء احتفالاً بسيطرتهم على مطار العاصمة بعد إقلاع آخر طائرة عسكرية أمريكية منه.
دقت ساعة الرحيل
قائد القيادة المركزية الأمريكية الجنرال كينيث ماكنزي خلال مؤتمر صحفي قال: "أنا هنا لأعلن أننا أنجزنا انسحابنا من أفغانستان"، وفق ما ذكرته وكالة الأنباء الفرنسية، وأضاف الجنرال ماكنزي الذي تتبع أفغانستان لنطاق عمليات قيادته أنّ "آخر طائرة سي-17 أقلعت من مطار كابول في 30 آب/أغسطس" في الساعة 19:29 ت غ".
كما أوضح أنّ آخر أمريكييْن غادرا كابول هما روس ويلسون سفير الولايات المتّحدة في كابول والجنرال كريس دوناهو القائد الميداني للقوات الأمريكية في أفغانستان.
لكنّ الجنرال ماكنزي لفت إلى أنّه "إذا كانت عمليات الإجلاء العسكرية قد انتهت فإن المهمة الدبلوماسية الرامية للتحقّق ممّا إذا كان هناك مزيد من المواطنين الأمريكيين أو الأفغان المؤهلين الراغبين بالرحيل تتواصل".
أوضح أنّه منذ 14 آب/أغسطس وحتى ليل الإثنين، أي خلال الـ18 يوماً الماضية، أخلت طائرات الولايات المتّحدة وحلفائها أكثر من 123 ألف مدني من مطار حامد كرزاي.
بيد أنّ القائد العسكري الأمريكي أقرّ في الوقت عينه بأنّ عدد الذين تمكّن من إجلائهم من كابول قبل إنجاز الانسحاب هو أقلّ ممّا كان يأمل.
بمجرد الإعلان الأمريكي سحب آخر جندي من أفغانستان، سارعت حركة طالبان التي سيطرت بسرعة خاطفة على البلاد منذ دنا موعد الانسحاب، إلى الاحتفال برحيل القوات الأمريكية و"انتهاء الاحتلال".