أتى البيان الصادر ليل الأربعاء 12 أغسطس/آب عن المصرف المركزي اللبناني حول رفع الدعم عن المحروقات صادماً، في مرحلة يشهد لبنان استعصاء سياسياً وانهياراً في كل القطاعات الرسمية للبلاد؛ ما يعني تحليقاً في أسعار مواد البنزين والمازوت، وذلك باحتساب سعر الدولار على الليرة اللبنانية تبعاً لأسعار السوق السوداء.
ما كان يخشاه اللبنانيون وقعَ فعلاً، ففي هذا القرار المفاجئ لمصرف لبنان، رفع الدعم عن المحروقات وعدم القدرة لتغطية الفارق الهائل بالأسعار بين المصرف المركزي الذي يسدد سعر المحروقات على 3900 ليرة مقابل الدولار وبين سعر السوق السوداء والذي وصل لـ20000 ليرة مقابل الدولار.
ومنذ مدّة أعلن رياض سلامة عدم قدرته على الاستمرار بتوفير الدعم على المحروقات؛ حيث أصدر بياناً شدد فيه على أن المصرف سدد أكثر من 800 مليون دولار على دعم المحروقات.
ويعتبر الخبير الاقتصادي سامر الحجار أن ذلك كان تمهيداً لخطوته بالتوقف عن الدعم. وبنتيجة الاتصالات معه، كان يؤكد حاجته إلى إقرار قانون في مجلس النواب لتغطية الصرف من الاحتياطي الإلزامي، كي لا تتم محاكمته لاحقاً. في هذا الوقت، كان رئيس الجمهورية ميشال عون يتفاوض مع أي شخص يريد تشكيل الحكومة على ضرورة الإطاحة بسلامة.
وخاصة أن عون كان يشترط على كل رؤساء الحكومات الذين جرى تكليفهم الموافقة على بند التدقيق الجنائي لمحاكمة سلامة قبل أي حكومة ستتشكل، ويشكل هذا البند نقطة أساسية في المفاوضات بين الرئيس ميشال عون ورئيس الحكومة المكلف نجيب ميقاتي.
لكن ووفقاً للمصادر المطلعة على مفاوضات تشكيل الحكومة فإن عون وخلال المفاوضات مع ميقاتي حول تشكيل الحكومة طلب منه التعهد بإجراء التحقيق الجنائي والإطاحة بحاكم مصرف لبنان، لكن ميقاتي أكد لعون أن الموضوع يتجاوز القدرة اللبنانية وبحاجة لموافقة خارجية وتحديداً أمريكية على ذلك.
مشادة بين عون ورياض سلامة
وفور القرار الصادر عن المصرف المركزي أبلغ رئيس الجمهورية ميشال عون الحاكم رياض سلامة بدعوته للقاء في القصر الرئاسي في بعبدا، وبحسب مصادر سياسية مطلعة فإن عون وخلال اللقاء بدا منزعجاً من سلامة؛ حيث بادره بالقول إن أي قرار يتخذه يجب عليه التنسيق به مع السلطة الإجرائية التي أناط بها الدستور ووضع السياسة العامة للدولة في جميع المجالات وأن القرار الذي اتخذه برفع الدعم عن المحروقات له تداعيات اجتماعية واقتصادية خطيرة ويشبه انقلاباً على الدولة، وطلب منه إيجاد حلول سريعة لتدارك الأوضاع الخطيرة للقرار، لكن سلامة بادره بالقول إنه لن يتراجع عن قرار وقف دعم الوقود وإن عليكم في حال رفض هذا القرار سن قانون في المجلس النيابي يسمح باستخدام الاحتياطي الإلزامي من الدولار المتبقي لدى المصرف المركزي.
في السياسة.. لماذا رفع الدعم بشكل مفاجئ؟
بحسب المحلل السياسي منير الربيع، فإن هناك روايتين لخلفية قرار حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، بوقف الدعم عن المحروقات.
الرواية الأولى وفقاً للربيع تقول إن سلامة لم يكن ليتخذ قراره هذا من دون غطاء وموافقة ضمنية من قبل المجلس الأعلى للدفاع الذي اجتمع ظهر الأربعاء، والذي يترأس جلساته رئيس الجمهورية ميشال عون؛ ما يعني أن عون أعطى سلامة إشارة رفع الدعم وفيما بعد، يوجه له أكثر من ضربة.
الأولى، يجبره على تخفيض السعر الذي حدده للدولار. والثانية، تبرير أي هجوم عليه لمحاكمته، بعد تحديد جلسة جديدة للتحقيق معه، في شهر سبتمبر/أيلول المقبل. وبذلك، أيضاً يكون عون قد فتح طريق تشكيل الحكومة أمام نجيب ميقاتي، بناء على اتفاق مسبق بينهما، حول مصير سلامة والتدقيق الجنائي لحسابات مصرف لبنان.
فيما الرواية الثانية يؤكد الربيع، تعتبر أن سلامة وبعض القوى الداعمة له استشرف خطراً على مصيره، بنتيجة قرب الاتفاق على تشكيل الحكومة بين ميقاتي وعون، فقرر مع بعض داعميه القيام بخطوة انقلابية، وتفجير الوضع الاجتماعي في البلد والساعات المقبلة ستكون كفيلة بتوضيح وتثبيت أي من الروايتين.
دياب يتهرب وسلامة استوحى من "الأعلى للدفاع"
وفيما كان رئيس حكومة تصريف الأعمال، حسان دياب، يرفض القيام بإصدار قرار رفع الدعم على الرغم من إصرار بعض القوى السياسية على ذلك، دعا رئيس الجمهورية إلى جلسة للمجلس الأعلى للدفاع بحضور رياض سلامة، بغياب دياب الذي أعلن إصابته بفيروس كورونا.
ووفقاً للباحث السياسي ربيع دندشلي، فإن عون لم يمنح سلامة الغطاء ولم يوافق على رفع الدعم، لكنه تركه يقوم بما يريد، لتتم محاسبته فيما بعد، والانقضاض عليه هذه المرة نتيجة الضغط الشعبي. ولذلك تسارعت المواقف المنددة بقرار سلامة، وتحديداً موقف رئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل، الذي وصف خطوة حاكم مصرف لبنان بـ"الانقلابية"، ودعا إلى محاسبته وتوقيفه، لأن ما قام به عمل إجرامي.
سلامة والغطاء الأمريكي
يعتقد المحلل السياسي منير الربيع أن سلامة قد يكون استشعر خطراً محدقاً به، واقتراباً للوصول إلى تفاهم بين عون وميقاتي حول تشكيل الحكومة، والتدقيق الجنائي ومحاسبته، فقرر مع بعض القوى الداعمة له، اتخاذ قرار رفع الدعم ومن دون أي إيضاحات لقلب الطاولة، ودفع الناس إلى انفجار اجتماعي يؤدي إلى قلب المشهد كلياً وعرقلة تشكيل الحكومة.
ويعتبر أن قرار الإطاحة بسلامة لا يمكن لأي حكومة أن تتخذه من دون غطاء دولي وتحديداً الولايات المتحدة الداعم الأول لسلامة، وبالتالي، الإقدام على مثل هذه الخطوة من دون توفير ظروفها، سيؤدي إلى دخول البلد في أزمات متوالية ومعقد جداً.