في مقابل انتظار التونسيين محاسبة "الحيتان الكبيرة".. يواجه الرئيس التونسي تهماً بتصفية الحسابات السياسية بعد حملة الإيقافات والمداهمات لمنازل نواب البرلمان. كما يواجه اتهامات بتسليط القضاء العسكري ضدّ خصومه السياسيين من النواب بدرجة أولى رغم صحّة القضايا التي بموجبها تم سجن وإيقاف عدد منهم خلال الأيام التي تلت رفع الحصانة عنهم، فتوقّعات التونسيين أو سقف مطالبهم تبلغ إيقاف من يوصفون بـ"الحيتان الكبيرة" التي دمّرت الاقتصاد التونسي خلال السنوات الماضية.
حين فاجأ الرئيس التونسي قيس سعيد الجميع بقراراته مساء الأحد 25 يوليو/تموز، نظر المتبنّون لتمشّيه والمقتنعون بضرورة وقف انهيار الدولة حتى ولو بتعليق وقتي للدستور بعين الريبة لقرار ترؤس الرئيس للنيابة العمومية، والذي تبعته إقالة وكيل الدولة العام مدير القضاء العسكري ووزير الدفاع ووزيرة العدل ليتكفل سعيد برئاسة النيابة العسكرية، مما زاد من حدة مخاوف الجميع بعد احتكاره للنيابتين العامتين العسكرية والمدنيّة رغم التطمينات التي أطلقها.
ليعمّ البلاد هدوء مخيف بضعة أيام قطعه صدور الأمر الرئاسي المتضمن لما أعلنه سعيد من قرارات الأحد في الجريدة الرسمية، ومن بينها رفع الحصانة عن النواب طيلة فترة تجميد نشاط البرلمان، ليتمّ بعد ساعات من دخول القرار حيّز النفاذ إيقاف النائب غير المنتمي ياسين العياري وإيداعه السجن مباشرة لتنفيذ حكم باتّ في حقه بالسجن لشهرين صادر عن المحكمة العسكرية منذ سنة 2018 بتهمة تتمحور حول المس من معنويات الجيش من خلال تدويناته.
ولم يكد التونسيون يصدّقون خبر إيداع العياري السجن، الذي تبعه حملة تنديد ومساندة واسعة حتى من مخالفيه لرفض مثول مدنيين أمام القضاء العسكري، حتى توالت الأنباء عن وضع القاضي بشير العكرمي تحت الإقامة الجبريّة ومداهمات أمنية عنيفة ومروّعة لمنازل نواب عن كتلة ائتلاف الكرامة، لم تحترم خلالها قوات الأمن أي حقوق وحُرمة كما عهدها الجميع في تونس، لتنفيذ بطاقات جلب وتفتيش صادرة من القضاء العسكري في حقّ كل من محمد العفاس وسيف الدين مخلوف وعبداللطيف العلوي وماهر زيد المؤكد خبر إيقافه.
مداهمات وإيقافات وإيداع نائب بالسجن لتنفيذ حكم صادر من القضاء العسكري فتح الباب أمام توجيه اتهامات لسعيد بتصفية حسابات سياسية مع مخالفيه بتسليط القضاء العسكري عليهم رغم توجه قيس سعيد برسالة طمأنة خلال جولة بالشارع الرئيسي في العاصمة تونس بالتأكيد أنه لن يعتقل أي شخص ولن يظلم أحداً، حيث أعلنت كل الأحزاب والمنظمات تقريباً رفضها لسياسة الترويع التي يُمارسها أعوان الأمن وخاصة بمثول مدنيين أمام القضاء العسكري مع توجيه اللوم لنواب البرلمان لعدم تعديل مجلة المرافعات العسكرية في اتجاه التخلي عن محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية.
وفي نفس القضية التي يُلاحق بسببها القضاء العسكري نواب ائتلاف الكرامة والمعروفة في تونس بـ"حادثة اقتحام مطار قرطاج" حاصر الأمن محكمة ابتدائية بالعاصمة تونس ومن ثم مقر هيئة المحامين لمحاولة إلقاء القبض على محامٍ، مما أنتج موجة انتقادات ورفض واسعة على رأسها تلك التي أصدرتها عمادة المحامين برفض مخالفة إجراءات تتبّع المحامين قضائيّاً عبر توجيه استدعاء لهم دون اعتماد صيغة محاصرة أماكن تواجدهم التي لجأ لها أعوان الأمن، كما حمل يوم الإثنين 2 أغسطس/آب إيقاف نائب آخر في البرلمان، وهو فيصل التبيني، للتحقيق معه في قضية ترويج أخبار زائفة والإساءة للغير عبر الشبكات العمومية للاتصال والدعوة إلى العصيان المدني.
لكن بعد سويعات من ذلك أعلن فرع عمادة المحامين أن حاكم التحقيق العسكري المتعهد بملف حادثة المطار أمر الأمنيين بالانسحاب والتخلي عن محاولة إلقاء القبض على المحامي في تلبية أو تفاعل مع رفضهم للمحاصرة الأمنية الاستعراضية، كما تم الإعلان بعد ظهر اليوم نفسه عن الإفراج عن النائب عن ائتلاف الكرامة ماهر زيد والإبقاء عليه في حالة سراح على ذمة قضية مطار قرطاج التي تمت إثارتها من طرف القضاء العسكري خلال الأيام الماضية التي تلت قرار رفع الحصانة عن النواب.
هذا وتتلخّص قضيّة مطار تونس قرطاج في منع أعوان الأمن بالمطار في 15 مارس/آذار 2021 امرأة من السفر لتواجد اسمها بقائمة المشمولين بالإجراء الحدودي الذي يستوجب استشارة أمنية قبل السفر أو المعروف في تونس بالـ"s17″، وتحول يومها عدد من نواب كتلة ائتلاف الكرامة إلى المطار للمطالبة بتمكينها من حقّها الدستوري في التنقّل والسفر، مما أسفر عن مناوشات بينهم وبين أعوان الأمن بالمطار تحولت إلى فوضى وتبادل العنف اللفظي والمادي بين الأعوان ونواب الائتلاف الذين رفضوا آنذاك تلبية استدعاء النيابة العمومية التي فتحت تحقيقاً في الحادثة.
الحصانة وتجميد القضايا
ملفّ الحصانة النيابية كان خلال الفترة التي سبقت 25 يوليو/تموز محلّ جدل كبير وخلاف بين البرلمان وقصر قرطاج، حيث تضاربت أعداد طلبات رفع الحصانة عن النواب التي وجهتها الجهات القضائية للبرلمان دون البتّ فيها، إذ أكد الرئيس قيس سعيد خلال تلك الفترة أن عدد ملفات طلب رفع الحصانة عن النواب تجاوزت الـ25 طلباً، في مقابل رئاسة البرلمان في تونس التي نفت تلقيها ذلك الكمّ من مطالب لرفع الحصانة عن النواب وأكدت أنها تلقت مطلباً واحداً خلال العُهدة النيابية التي انطلقت بعد الانتخابات التشريعية لسنة 2019 في مقابل تأكيد أحد نواب المعارضة أن وزارة العدل وجهت للبرلمان 53 مطلباً لرفع الحصانة عن النواب.
ويتذكّر التونسيون جيداً اللقاء الذي جمع رئيس الجمهورية قيّس سعيد في نهاية مايو/أيار الماضي، بكلّ من رئيس الحكومة المُعفى هشام المشيشي ووزيرة العدل بالنيابة حسناء بن سليمان آنذاك، الذي تناول ما اعتبره سعيد الذي كان غاضباً حينها تعطيلاً لمسار البتّ في مطالب رفع الحصانة عن النواب في قضايا تحيّل وتهريب مخدّرات، كما قال يومها: "من حقّه رفض طلبات رفع الحصانة، ولكن ليس من حقّه إخفاؤها والمساومة بها لاحقاً".
ودعا يومها سعيّد الجهات القضائية إلى القيام بدورها كاملاً في القضايا المرفوعة ضدّ النواب، شأنها شأن النيابة العمومية التي طالبها سعيّد بالتحرك من تلقاء نفسها دون التعلل بأن النواب يتمتّعون بالحصانة، وهو ما يفسّر قراره بترؤس النيابة العمومية المدنية والعسكرية وانطلاق حملات سجن وإيقافات وتحقيق مع النواب بعد ساعات من صدور الأمر الرئاسي القاضي برفع الحصانة عنهم.
سقف التوقعات والحيتان الكبيرة
رغم حالة التلبس وثبوت تجاوزات نواب ائتلاف الكرامة بالفيديو خلال ما أصبح يُعرف في تونس بـ"غزوة مطار قرطاج" فإن خبر إيقاف بعضهم وتواصل محاولة إلقاء القبض على البقية لم يكن له الوقع الكبير على التونسيين، بل عزز مخاوف فئة كبيرة منهم من إقحام القضاء العسكري في القضايا ذات الطابع المدني والتي تشمل المدنيين، فتوقعات وتطلعات التونسيين حين انطلق الحديث عن إيقافات منتظرة كانت بإيقاف من يُسمّون في تونس التونسيين بـ"الحيتان الكبيرة".
فهؤلاء الذين يمثّلون مزيجاً أو شبكات من مسؤولي الدولة الكبار ورجال أعمال ومهرّبين بعضهم نواب بالبرلمان وسياسيون وقُضاة حققوا ثراءً فاحشاً في مقابل تفقير الشعب، هم من توقّع التونسيون تحريك ملفاتهم القضائية وإيقافهم لما تسببوا به من تدمير للاقتصاد الرسمي لصالحهم والمضاربة واحتكار كل المواد الغذائية للتحكّم بأسعارها طيلة السنوات الماضية في ظل غياب تام لأجهزة الدولة الرقابية والردعية، بل وتواطئها معهم بعلم الجميع في تونس.
فمثلاً انتظر التونسيون إيقاف رجل أعمال ينشط في مجال النقل البري عبر أسطول شاحنات ونائب بالبرلمان عن محافظة قفصة، يُدعى لطفي علي، الذي يواجه اتهامات بأنه من يقف وراء الخسائر المالية الكبيرة جدّاً لشركة فسفاط قفصة طيلة سنوات عبر شبكة معقدة من العلاقات في الجهة والبلاد ودفعه أموالاً لبعض شباب المحافظة للاعتصام فوق السكة الحديدية وبناء سور عليها لمنع مرور قطار نقل الفسفاط أو ما يُعرف في تونس بـ"الخطّ 13″.
بتعطيل الخطّ 13 يُصبح النائب بالبرلمان ورجل الأعمال، وفق ما هو متداول وصادر حتى عن الرئيس التونسي قيّس سعيد في لقائه مع رئيس منظمة أرباب العمل قبل أيام، الحلّ الوحيد أمام شركة الفسفاط لنقل المواد الأولية إلى المجمّعات الكيميائية بقابس والصخيرة (ولاية صفاقس) بسعر يتجاوز 4 أضعاف سعر نقله عبر القطار، مما كبّد الشركة خسائر مالية كبيرة صبت في حسابات النائب الذي كان يتمتّع بالحصانة والذي لم تؤكد الجهات الرسمية حتى صباح اليوم (3 أغسطس/آب) خبر إصدار بطاقة جلب في حقه أو إيقافه.
وفي ظلّ عدم إيقاف تلك "الحيتان الكبيرة" لا يزال جزء كبير من التونسيين ينظرون بعين الريبة للرئيس قيس سعيد، فتطميناته التي تبعها إخلاء القضاء العسكري لسبيل النائب ماهر زيد والتخلي عن محاصرة هيئة المحامين، لم تُنهِ حالة الشكوك في تطويع القضاء العسكري لتصفية حسابات سياسية مع الخصوم رغم وجود قضايا حقيقية ضدّهم، وهو ما ينطبق على الحيتان الكبيرة التي لم يقع إلقاء القبض على أي منها حتى الآن.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.