لا يختلف عاقلان على أن الرئيس التونسي قيس سعيّد خالف بقراراته الأولى خلال الليلة الفاصلة بين الأحد والإثنين الفصل 80 من الدستور الذي مثّل الأرضية لاتخاذه بعض الإجراءات الاستثنائية التي تبتعها قرارات متتالية، فالفصل 80 لا يتيح لسعيد إقالة الحكومة ورئيسها أو تجميد عمل البرلمان ورئيسه الإسلامي راشد الغنوشي، إضافة إلى التجاوزات التي تشمل المسائل الشكلية من ضرورة إعلام المحكمة الدستورية التي لم يقع تركيزها بعد وغيرها من مخالفات دستورية.
بين الفساد والمخالفات
مخالفات دستورية وخروج واضح عما ينص عليه الفصل 80 من دستور 14 يناير/كانون الثاني دفعت مناهضي الرئيس التونسي قيس سعيّد وجزءاً من الطبقة السياسية والحقوقية والقانونية إلى اعتبار ما حدث انقلاباً، مقابل شق آخر يرى في خطوة سعيد تصحيحاً لمسار لا يُمكن تقويمه من داخل منظومة قانونية ودستور قائم على تشتيت كبير للسلطات وآليات اتخاذ قرارات يُمكن أن تُخرج تونس من أزمتها التي تتعمق يوماً بعد يوم.
ففي مقابل تلك الإخلالات الدستورية يعرف الجميع في تونس أن وضعها الاستثنائي من استشراء غير مسبوق للفساد والمحسوبية مما خلق إحساساً عاماً بوجود طبقة سياسية محورها الإسلاميون ورجال أعمال ومهربون وموظفو الدولة الكبار يُمكن تسميتها بأُمراء الحرب أو الفوضى، تُراكم هذه النخبة الثروة بينما بقيّةٌ تتدهور ظروفها المعيشية تدريجياً بغض النظر عما أنتجته أزمة كوفيد 19. وضع استثنائي لا يُمكن إلا أن يقابله تمشٍّ استثنائي يُتجاوز من خلاله شبكة معقدة من العلاقات تشمل القضاء والأمن وكبار مسوؤلي الدولة التي تحمي الفساد.
وهي المعادلة أو القناعة التي جعلت أغلب الأحزاب والمنظمات الوطنية، كالمركزية النقابية القوية في تونس، تبتعد عن وصف ما حصل بالانقلاب لكن تتعامل بحذر مع القرارات المحورية الأولى للرئيس التونسي التي نتج عنها جمعه لسلطات لم يكن لخلفه الديكتاتور زين العابدين بن علي الذي أطاحت به ثورة يناير 2011 حتى نصفها، مطالِبةً بوضع خارطة طريق تتضمن الإصلاحات والأهداف وخاصة المدة الزمنية لجمع سعيد للسلطة التنفيذية وجزء من التشريعية والقضائية والتي يُحددها الفصل 80 كإجراءات استثنائية بـ30 يوماً يُمكن التمديد فيها بشروط لا يُمكن تحقيقها كموافقة المحكمة الدستورية.
بين القرارات والتطمينات
إلا أن الرئيس التونسي قيس سعيد لم يتوانَ منذ ليلة الإثنين عن إطلاق التطمينات للداخل والخارج بأنه لن يمس بالديمقراطية الناشئة في تونس، بل سيصحح مسار الثورة الذي شُوّه وتحول إلى ديمقراطية شكلية يطغى عليها فساد أدّى إلى انهيار اقتصادي غير مسبوق وتجميع الثروة بيد فئة قليلة من التوانسة على حساب الغالبية العظمى، حيث يراهن الرئيس التونسي على فتح ملفات فساد تؤدي إلى سجن المئات، بل والإسراع في ذلك بعدما طالب منذ أشهر بفتح تلك الملفات التي تشمل نواباً يحتمون بالحصانة وشبكة العلاقات المعقدة التي أنشأها الإسلاميون وتحديد دائرة رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي.
فبعد الإعلان عن القرارات الرئيسية بتجميد البرلمان ورفع الحصانة عن النواب وإقالة رئيسة الحكومة وحكومته وتولي سعيد رئاسة النيابة العامة وغيرها، توالت قرارات جديدة بمنع السفر عن كل من يحمل صفة رجل أعمال ومن تحمّل مسؤوليات وزير وكاتب دولة أو مدير عام أو رئيس ديوان أو نائب شعب أو والٍ أو رئيس بلدية او نائب له وغيرها من المناصب التي يُمكن أن ينتفع صاحبها بمنافع على غير وجه حقّ.
كما أصدر الرئيس قيس سعيد مرسوماً بتعطيل العمل في بعض الإدارات والمحاكم والقباضة المالية بعد أن تم اكتشاف إخفاء وزيرة العدل بالنيابة المُقالة حسناء بن سليمان لملفّ قاضٍ كبير مُتهم بالفساد في منزلها بعد إقالتها، ومنه تم تعطيل العمل بالإدارات ليومين قابلين للتمديد لإبقاء المعلومة الإدارية على حالتها التي كانت عليها قبل إعلان سعيد عن قراراته ومنع إعدامات وإتلاف لوثائق ومعلومات تورط الفاسدين أو حتى تثبت قائمة ممتلكاتهم، التي يُمكن أن تكون غير مشروعة، باعتبار أن شبكة العلاقات المعقدة تشمل الإدارة التونسية.
مباراة كسب النقاط
وسياسياً تمثل كل تلك القرارات ضربات متتالية للحركة الإسلامية ورئيسها راشد الغنوشي الذي دخل في خلاف مع الرئيس التونسي مباشرة بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2019 بسبب محاولة الغنوشي الاستيلاء على صلاحية سعيّد الأبرز وهي السياسة الخارجية، خلاف تحول فيما بعد إلى معركة وتطور إلى حرب لم تتوانَ خلالها حركة النهضة في استعمال كل الوسائل، بدفع رئيس الحكومة هشام المشيشي إلى تنظيم يوم فاشل للتلقيح ضد كوفيد 19، تُلقى مسؤوليته على وزير الصحة المقرب من سعيد، ومن ثم إقالته، وهو ما حصل.
وحتى رئيس الحكومة هشام المشيشي، الذي يعلم القاصي والداني في تونس قربه من النهضة وحلفائها، أعلن أنه قبل بقرارت الرئيس قيس سعيد ومستعدّ لتسليم السلطة للشخصية التي سيكلفها سعيد بتشكيل حكومة جديدة وذلك بعد سويعات من تسريب حركة النهضة لمعلومة تفيد بأنه يباشر مهامه بصفة عادية ولن يتخلى عن رئاسة الحكومة ولن يمتثل لقرارات سعيد، مما مثل نقطة جديدة سياسية لسعيد على حساب النهضة ورئيسها راشد الغنوشي.
الاحتمالات لما هو قادم
نقاط يسجلها قيس سعيد على حساب النهضة بقرارات تقيد شبكة علاقاتها وحلفائها، لكنها في الوقت نفسه تفتح الباب أمام تخوفات في تونس، فالغالبية العظمى من المتابعين للشأن السياسي يعتبرون أن البلاد أمام احتمالات يُمكن تلخيصها في أول يتمثل في إيقاف كل قضايا الفساد والإرهاب، وإصلاح المنظومة الانتخابية وقانون الأحزاب والجمعيات والإعلام، ومن ثم الذهاب لانتخابات تشريعية مبكّرة.
فيما يتمثل الاحتمال الثاني الذي يثير تخوفات كبيرة جداً في تونس، وهو أن قيس سعيد انقلب فعلاً على الكل وسيعمل بعد جمعه لكل السلطات على تطبيق مشروعه الذي لم يخفِه عن أحد حتى قبل نجاحه في الانتخابات الرئاسية لسنة 2019 عبر حل الأحزاب السياسية وإنهاء المنظومة الحزبية التقليدية وتعويضها بحكم قاعدي محلي قائم على الأفراد والعودة للناخبين كل مدة ويُمكّن من سحب الوكالة منهم.
أما الاحتمال الثالث فهو ظهور معطيات أو ضغوطات خارجية تؤدي إلى دخول الرئيس التونسي في حوار مع نفس المنظومة والعودة للعمل بالبرلمان وأحزاب الحكم، وعلى رأسها حركة النهضة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.