هذا المقال يخلو من لغة الـ"لكن" الاعتذارية المليئة بـ"لا أقصد" و"مع حفظي لمكانة هذا ونضاله"، ينطلق هذا المقال من رؤية أن النقد هو أفضل ما يقدمه القلم للإنسان وللحركة. فهذه الكلمات تهدف للدفاع عن المكلوم الذي لا صوت له، المتهم دائماً من قبل المثقفين، والموضوع في خانة البكائيات الدالة على الضعف والهزيمة، محاولة لبيان تهافت بعض الحجج التي تدعي الواقعية ولا تأخذ الخط إلى آخره، ولكنها تأخذ فقط ما يدعم مواقفها، ولذا فإنها تقع في فخ الصيغ التبريرية، وهي محاولة هادئة لمقابلة الحجة بالحجة، ووضع الأخلاق في موضعها في إطار السياسة، مع حفظ حق الجماهير في التألم والتعبير عما تشعر به سواءً انطلقت معاناتها من أرضية أخلاقية صلبة أو قصص ذاتية مجتمعة ترقى لأن تصل إلى ألم موضوعي.
يا أخ الشهداء.. لمَ لست براغماتياً؟
يطالب بعض المثقفين الجماهير وعموم الناس بالبراغماتية (العملية)، وبدعمها والترويج لها، بعيداً عن أن هذا مخالف للعقل والواقع، فالجماهير عاطفية في شرق الأرض وغربها، تحركها الصورة والرمز قبل الحسابات العقلية الدقيقة، ولا يعيبها شيء، ففي التصور الإسلامي الأمة مستودع الخير، لا لحسابات المكسب والخسارة، ولكن لعاطفتها وتمسكها بالمبادئ في صيغها المجردة.
تقع هذه المطالبة في خطأ آخر، وهو نقد رجل قش[1] عاطفي هش الحجة غير موجود من الأساس، فالمستثارة عواطفه يقول أنا حزين على الصورة ولا يقول إن رأيي تدعمه حجج، بينما هناك آخر يقدم حججاً منطقية لنقده حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في شكل تحالفاتها أو حتى في شكل المعركة ونتائجها بناءً على تتبع لتوازن القوى داخل الحركة وميل جناح على آخر، فمثلاً صور الأيام الأخيرة تمثل تتويج تقارب مع مصر كان قد بدأ منذ أربع سنوات، فهناك خطان من الناس هنا، من يتألم وينتقد الصورة عاطفياً، وآخر ينتقد جذور التقارب نفسه، وربما ينتقد إخراجه بمثل هذه الصور.
لسان حال البعض منهم أنهم يريدون أن يكتم الناس مشاعرهم وآلامهم وإلا فَهُم ضد القضية، أو يجهلون أساسيات السياسة، ضع ألمك أسفل أخيك الفلسطيني يا هذا، عبثاً صنعتم تسلسلاً هرمياً بين القضايا والآلام.
في ظل هذا المشهد، صارت القدس رصيداً جاهز يحتكره قادة الفصائل، فشهيد القدس هو من يدعم فصيلي، ويكأنه قدسهم، وقاتل أخي يكون شهيداً للمقدسات بتكرارها ثلاثاً نافياً احتمالية التصنع، ولكن هل القدس أغلى من دم المسلمين، في الحديث الشريف دم امرؤ مسلم أغلى عند الله من الكعبة، وهي أقدس مقدسات المسلمين، ودم المسلمين وآلامهم سواء، ولا يعني هذا عدم الدفاع عنها بالطبع، ولكن على مستوى القيمة دم المسلم أغلى، فمثلاً أنت أغلى من بيتك ولكن أنت مطالب بالدفاع عنه وإن مت دونه تكون شهيداً.
عن الأخلاق والسياسة في العصر الحديث
يأخذ البعض من الواقعية ما تدعم تصوراتهم فقط، لذا فلنحاول ضبط المفاهيم حتى لا يخلط المثقفون الأوراق على الناس بسلطة القلم والمعرفة، لنضع النقاط على الحروف ولنتكلم عن البراغماتية والسياسة والأخلاق.
تعد أحد سمات السياسة في العصر الحديث في منشأها الغربي فصل الأخلاق عن السياسة، لذا يعد الفيلسوف الإيطالي نيكولو ميكيافيللي أول المنظرين الحديثين، فما كان سابقاً يمارس من قبَل الساسة صاغه في إطار نظري، ولكن هل السياسة بلا أخلاق حقاً في التصورات الحديثة؟ لا، هم يقدمون ثنائية للأخلاق للخروج من هذه المعضلة، فميكيافيللي يفرق بين الأخلاق الخاصة والعامة، أو لنقل الفردية وأخلاق الحاكم/السياسي في السياسة، ويفرق أيضاً عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر بين أخلاق الاقتناع وأخلاق المسؤولية.
لكل مجال من هذه الثنائية منطق مختلف فإذا كانت الأخلاق الخاصة/أخلاق الاقتناع تقوم على ما تؤمن به ومحاولة تطبيقه في حياتك، فهنا يقيم الفعل على أساس النية، بينما الأخلاق العامة/أخلاق المسؤولية فأنت هنا لا تمثل نفسك وفقط بل أنت مسؤول تمارس السياسة على سبيل المثال، فهنا دع ما تؤمن به جانباً وحقق مصلحة الناس، ويُقَيّم الفعل هنا على أساس عواقبه وليس النوايا، لذا فالمدرسة الواقعية أو البراغماتية تنتقد بناءً على ما ينتج عن أفعالك بغض النظر على النوايا، السياسي صاحب الحرفة هو الذي سيحاول التوفيق بين هذين المتناقدتين، هكذا يرى فيبر كعادته في محاولة إيجاد الصيغ التوفيقية.
لذلك يمكننا القول إن السياسة الحديثة تتسم بالعلمنة بتبنيها إما الفصل أو الثنائية في الأخلاق، هذه العلمنة في الخطاب الواقعي يجب إدراكها، سواء طبقتها "حماس" أو غيرها، ولو قال البعض إنها من الإسلام، حينها يمكنك أن تقبل أن الإسلام به جزء معلمن، ولكن لا تلتف على المصطلحات بتأكيدك على الشعارات الأخلاقية.
هذا التصور ينتج خللاً لأن الأخلاق تكون جزءاً من الدعاية والتوظيف، والتي يُستغنى عنها في حالة كونها عبئاً، لذا أتحرج من سماع فرضية قيادة سوريا وإيران لمحور "الممانعة والمقاومة"، وحتى شرف الأمة في سياق "حماس"؛ لأن هذه الشعارات لا تعكس حقيقة بقدر الدعاية، فإذا كانت المصلحة الوطنية في كل هذه الحالات فوق الهرم ومقدمة على باقي الاعتبارات، فتكون هذه الكلمات مبتذلة وجوفاء.
إذا كانت السياسة الواقعية تقيم تبعاً للعواقب يا أيها الواقعي، لا النية، فالخطأ لا يشفع له النية الحسنة، ولنستخدم مصطلحات أكثر حيادية إذا تكلمنا بلغة الواقع والسياسة، لا الحشد والتعبئة.
"حماس".. يا "نور عين" المصريين
يمكننا في ضوء رؤية مصالحنا المنطلقة من تصوراتنا القيمية أن نقيم تقارب "حماس" مع إيران ومصر، بعيداً عن الصور العاطفية المعتبرة للمكلومين، فإيران كقوة إقليمية يجب عليها التنويع بين القوة الصلبة المتمثلة في الجيش والميليشيات، وبين القوة الناعمة القائمة على الصورة والطائفة والاقتصاد وغيرها؛ التي تستخدم في التجنيد وتحصيل الدعم اللوجيستي، فاعتبار إيران كنصير للقدس مثلاً يقوي منها ويزيد من فرصها في التمدد في المنطقة، هذا واقع بعيداً عن صور الضحايا وصرخاتهم التي لا يحبها الواقعي.
والتقارب مع مصر، الذي ظهر تتويجه في الأيام الأخيرة، هذا التقارب قَوَّى "حماس"، ولكنه أيضاً أعطى لمصر تحت حكم السيسي الدور الإقليمي الأول ذا الفاعلية -إذا استثنينا ليبيا للاختلاف على قوة الدور- هذا الدور له ما بعده من تقوية للإدارة الحالية، ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن مصر استفادت بقدر أكبر من كل الفصائل الفلسطينية في المعركة الأخيرة، إذاً هي مرحلة قد تكون جديدة في السياق المصري ويجب إدراك الواقع بكافة عناصره دون أن تشوهه الانحيازات والأيديولوجيات بدون مزايدة، لندرك الواقع كله.
فإذاً "حماس" تقوي دولة عادت وقتلت العراقيين والسوريين، وتقوي نظاماً مستبداً يعادي ويقتل ويسجن فئات من المصريين؛ لأن التحالف والتقارب والدعم من طرفين، وكلا الطرفين يستفيد، وسؤال هل هذا أنفعُ لقضية فلسطين ككل يحتاج مقالاً آخر، ولكني هنا أقيم من منظور مصالحي كمصري أو سوري، ويا للأسف فمصالحنا باتت تتعارض، فالمغرب يطبّع لأجل مصلحة قومية، و"حماس" تتقارب من أجل مصلحة فلسطينية تتداخل فيها عناصر كثيرة.
قليل من البلاغة لا يضر: لا تبدِ حزنك أيها المهزوم
تقسمنا لأقطار وكل له تحدياته، لندرك هذه البدهية، فلا تطالب مصرياً أو سورياً مهزومين بالصمت أو التهليل، وإلا فهم في مرمى النيران بالاتهام والتحقير، يتحايل المصريون على هذا بكتم الألم، أو الاستهزاء بفكرة التخابر مع "حماس" متجاهلين أن التقارب من الطرفين وربما كان سعي "حماس" أكبر لهذا التقارب، أو يحاولون تصوير أن القوي -أي "حماس"- يجعل الجميع يستمع له متجاهلين أن مصر كسبت من هذه الجولة بقدر المقاومة أو يزيد، أتراني إنساناً سوياً حين أصمت وأنت تحتضن قاتل أخي، أو تعزي في قاتل أبي؟
وأخيراً، لديّ من السلام النفسي الذي يجعلني أتعاطف مع معاناة إنسان ارتطم إصبعه بحافة السرير، أستطيع تقبل كل أنواع المعاناة، ولكن هذا إن قيمت فرادى بشكل مستقل وذاتي، أما أن يحاول أحد أو صاحب قضية اصطناع المقارنات أو يبالغ ويزايد على معاناة الآخرين، أو اصطناع تسلسل هرمي لأشكال المعاناة بناءً على قضيته، والأسوأ أن يتجاهل آلام الناس في قراراته وفي إخراج مشاهده، فحينها ستكون النتيجة هي التصارع على المعاناة، وبانعدام الموضوعية بطبيعة الحال فكل معاناة ستدعي التعالي، أو ربما تميل الكفة لمن قَتلوا وهَجروا بدموية تفوق ما تصورناه حتى في أحلامنا.
[1] مغالطة منطقية تقوم على تشويه حجة المخالف وتحميلها ما لا تحتمل لتظهر كضعيفة ومن ثم تبين ضعفها، بينما في الحقيقة ما هزم هو شكل مشوه للحجة لا ذاتها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.