لن أكتب مقدمة هذه المرة عزيزي القارئ؛ فنحن القرّاء كاذبون إن قلنا إننا نقرأ المقدمات، لذا..
أن تكون "إنفلونسر" (مؤثر وصانع محتوى مشهور عبر مواقع التواصل) في فلسطين، لا يعني أنك ستبدأ صباحك بصورة لوجبة إفطارك المرتبة والمنسقة مع صوت فيروز، ولا أن تأخذ صورة لثيابك التي ارتديتها وقمت بشرائها من المول الليلة السابقة، ولا أن تبث ستوري وأنت تلاعب حيوانك الأليف في مشوار سير سريع، ولا أن تحتار في اختيار الفلتر المناسب لوجهك وأنت في السيارة لتقول صباح الخير لمتابعيك، فالصباح في فلسطين يبدأ بعبارة صباحك حرية، صباحكم وطن.
معنى أن تكون إنفلونسر في فلسطين هو أن تحمل القضية على عاتقك منذ نعومة أظفارك وقبل أن يظهر مصطلح منصات السوشيال ميديا ووسائل التواصل الاجتماعي لتنقل الحدث بصوتك الصغير وكاميراتك اليدوية البسيطة، كما فعل توأم فلسطين الأشهر حالياً محمد ومنى الكرد يوماً، حينما حاولا تسجيل بضع لقطات لحي الشيخ جرّاح ووحداته وهما في عمر الثانية عشرة محاولين نقل الحقيقة بأيديهم الصغيرة وأصواتهم الدافئة التي لم تعرف يوماً ماذا يعني أن تحيا بلا مقاومة وبلا قضية وبلا بيت مسروق، فيبدأ الفيديو محمد الكرد الطفل حينها بجملة
"هادي حارتنا حارة الشيخ جراح.. المكونة من سبعة و… من تمانية وعشرين بيت، كل بيت عائلة فلسطينية عايشة فيه وكل عائلة فلسطينية إلها قصة مع المستوطنين…".
وها هي السنوات تمر والتوأم الفلسطيني محمد ومنى الكرد يكبران وتكبر معهما القضية، ليصبح هاشتاغ # أنقذوا_حي الشيخ_جرّاح الأكثر شهرة على الإطلاق، ومعهما تنتفض القضية الفلسطينية في قلب العرب من جديد، فيصدح صوت كل واحد منهما بطريقته الخاصة، محمد يعتلي منصات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام والقنوات الإخبارية العالمية ليعلن للعالم الغربي المغيّب أن ما يحدث في القدس وحيّه وسلوان وغيرها من مناطق فلسطين ليس إخلاءً كما يحاولون الترويج له، بل هو جريمة حرب وتهجير عنصري قسري بلا أي وثائق وإثباتات وأدلة حقيقية، وبلغته الإنجليزية المنمقة وأسلوبه الهادئ يحرج مذيعة قناة CNN الأمريكية وهي تسأله عن دعمه للمظاهرات (العنيفة) التي تجري في حي الشيخ جرّاح ليجيب سؤالها المبطّن بسؤال أكثر حنكة قائلاً: "وأنت هل تدعمين التهجير القسري العنيف الذي يحصل ضد أهلي وسكان الحي؟"، فتصاب المذيعة بالصدمة وتصمت بلا رد ويصبح محمد الكرد رمزاً للإنفلونسر الفلسطيني المثقف والأكثر دبلوماسية ولباقة في اقتناص الردود وتوضيح الحقائق ونقل الحدث بهدوء ولكنة غربيّة واثقة؛ فهو يعلم بأنه صاحب الحق "وصاحب الحق يعلو وإن أسقطته المنصة".
إن معنى أن تكون إنفلونسر في فلسطين لا يعني أنك ستبدأ يومك بكوب قهوة ساخن وجلسة دافئة في تراس بيتك لتستمع لحديث الجارات أو بعض قصص الحي القديمة التي يرويها رجالها الذين يتسامرون على حافة الرصيف بل ستبدأ حاملاً هاتفك الخلوي لتصوّر ستوري تقول "يا جماعة ما زال حي الشيخ جرّاح الصامد مغلقاً ولا يُسمح إلا لأهالي الحي بالتواجد وبعض الصحافة"، فمن فوق أرصفة الحي القديم وجدرانه العتيقة تقف الفتاة الفلسطينية النابضة بعتاقة القدس وجمالها صاحبة النبرة الأكثر شهرة والممزوجة بالعزّة والصمود منى الكرد لتنقل يومياتها من بين أزقة الحي العتيقة ومن أمام منزل الغاوي الذي تم الاستيلاء عليه في عام 2009 فنرى عبر حسابها طائرة ورقية بألوان العلم الفلسطيني تحلّق في سماء الحي يتم اقتناصها وإسقاطها، فتحليق الطائرات الورقية في سماء بلادك غير مسموح فالطائرة تحلّق بحرية، والحرية قانون غير مسموح به في سماء حي الشيخ جراح وسلوان بل في كل أحياء فلسطين!
وفي يومياتها نرى جدران الحي يتم طلاؤها فقط لأنها تثيرغيظة المستوطنين لما تحمله من شعارات لا يدرك جيش الاحتلال أنها باتت منقوشة في الذاكرة ولا تحتاج لجدران لنتذكرها كعبارة (لن نرحل) بلونها الأصفر وعناق العم نبيل الكرد لها وهو يعلن (أنهم باقون).
وبين ستورياتها الممزوجة بكلماتها العفوية (تدّخلش) نرى الصحافة تُقمع والبيوت تُنتهك وحتى الخيام المنصوبة في سلوان تُهدم وهي تختنق بالغاز وتبحث عن شقيقها التوأم وسط الزحام المقمع وكل هذا فقط لأنها إنفلونسر تحاول رصد يومياتها العادية في فلسطين!
نعم عزيزي القارئ فمعنى أن تكون إنفلونسر في فلسطين لا يعني أنك ستبدأ روتين يومك بمشوار عابر إلى الـGym سعياً لبعض التمارين واللياقة البدنية، ففي فلسطين سيتخلل يومك بعض الأحداث غير المتوقعة، اعتصام سلمي تضامناً مع معتقلين، وتغطية لأحداث تحقيقاتهم ومحاكماتهم كما يفعل رمزي عباسي في كل حدث، أو توثيق لقمع همجي ببعض قنابل الغاز والرصاص المطاطي قد ينتهي بإصابة مفاجئة لك وأنت على الشاشة فيتوقف البث دون علم بما حصل، كما حدث مع صالح زغاري في اقتحامات المسجد الأقصى أو إقامة جبرية خلف أسوار منزلك ومنعك من الوقوف على الرصيف فقط لأنك كنت تردد بعض الهتافات لأغنية وطنية!
لتكون إنفلونسر في فلسطين قد تصادف جثامين إخوتك وأنت تغطي الحدث في ليلة قصف حالكة فتنهار بدموع محترقة غير مدرك ما يحدث كما كان محمد المنسي بعينيه المختنقتين في المستشفى الإندونيسي في غزة، وستنهض بعد هدنة حرب دامية بين الركام والأرواح المتناثرة فوق الشظايا لتحمل مكنستك محاولاً تنظيف الشوارع من حجارة البيوت المقصوفة معلناً حملة (حنعمرها) كما قال أحمد حجازي بصوته الذي يعلو بين الأطفال بضحكة، قائلاً بنبرته المميزة: "ماشالله ماشالله".
نعم، ففي فلسطين أن تحمل هاتفاً لنقل يومياتك والصورة الحقيقية لحياتك المسلوبة وبيتك المسروق يعني أنك ستصبح قيد الاعتقال وسيُطرق باب منزلك صباحاً بقوة ليتم تقييدك وجرّك للتحقيق سواء كنت دبلوماسي اللغة بلكنة أجنبية واضحة أو ثوري الدم بلهجة فلسطينية ممزوجة بالعزّة (تخافوش)، ففي كل أحوالك أنت إنفلونسر ومؤثر عام في فلسطين، لذا أنت متهم بأنك تحمل هاتفاً خلوياً وبه تخل بالأمن العام السلمي على خلفية قومية!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.