"يا سيدي من الـ48 وأنا موجوع".. كان هذا جواب جدي على سؤال أحد أحفاده عن وجعه أثناء مرضه، فما كل هذا الألم الذي تتضاءل أمامه آلام الدنيا كلها لدرجة أن يقترن باسم صاحبه، ويسمى به "عرب/فلسطينيو 48"، رغم أن هذا الرقم فاجعة أمة فإن هناك من حمله وسار به مسار عمره كله، رغم أنه لم يجلس بخيمة تذكره، ولم يكن ليحتاج إليها وعدوه ماثل أمامه بكل حين، ورواية النكبة بجميع فصولها المكتوبة بالدم حفظت بقلوب الأجداد، فحملها الأبناء والأحفاد كموروث جيني، وخيط قلبي لا ينقطع، وكان هذا من عظم الحكمة الإلهية أن يغفل المحتل عن قنبلة موقوته في أرض احتلها ظناً منه أنه ما دام الأمر قد استتب له فالقنابل التي لم تنفجر ستتحول لخردة يستعملها متى شاء ويطوعها لمصلحته كيفما شاء فخلد للراحة منتشياً بنصره.
هذا بالضبط ما حدث مع من تبقى من الفلسطينيين بحدود ما تم احتلاله عام 48، معظمهم هُجر من بلده الأصلي لكنه بقي في حدود فلسطين، والقليل جداً من لم يُهجّر منهم وسُموا جميعاً بفلسطينيي الـ48.
بعد النكبة اضطر هؤلاء لحمل الجنسية الإسرائيلية ليتمكنوا من البقاء في فلسطين، كما اضطروا للعمل عند المحتل ليقتاتوا بفتات أراضيهم المسلوبة، وعاشوا باحتكاك يومي مع عدوهم، ولربما هذا هو ما أفقدَ العدو هيبته في نفوسهم فثاروا مع أول فرصة سمحت لهم بذلك، وهذا ما شكل للمحتل أكبر صدمة بالأحداث الأخيرة، ففلسطينيو الـ48 فئة منسية من الشعب الفلسطيني والعرب عامة، والكثير من العرب لا يعرف عنهم شيئاً، ومنهم من يعرف بوجودهم فيتهمهم بالخيانة لمجرد أنهم يعيشون بدولة الاحتلال متناسياً أنها أرضهم في الأصل.
وما بين نسيان الأشقاء، وتطبيع العملاء والخونة الحقيقيين، وتغيب القيادات بالسجون وارتباط جميع مناحي حياة عرب 48 بدولة الاحتلال فالطبيعي أن يسند هؤلاء الكيان، وكانت المفاجأة عكس ذلك تماماً، فقلبت كل التوازنات في المعادلة التي ركن إليها الاحتلال، فخرج مسؤولوهم يصرحون بضرورة إنهاء الحرب في غزة والالتفات لثورة الداخل، ومنهم من قال لقد فشلنا في تربية وتعليم العرب في مدارسنا ويجب أن نعيد دراسة المنهاج المدرس لهم، مع أني شخصياً لا أعلم ما يمكن أن يضاف أكثر من أن أدرس نكبة عام 48 باسم حرب التحرير، التي أنشأت الدولة الديمقراطية التي منحتنا كل التقدم، وبنت لنا هذه البلاد ومنحتنا حقوقاً لا يحلم بها أشقاؤنا العرب، ومع ذلك فشلت بخلق انتماء وولاء للاحتلال.
الآن وقد هدأت إحدى جولات المعركة بغزة، وبدأ الاحتلال بتجميع شتات أمره داخلياً تبدأ الحرب الحقيقية العميقة لإعادة الأمور كما كانت قبل أحداث "سيف القدس" من حيث الانقسامات وانشغال الداخل المحتل بالسلاح والجريمة التي ترعاها المؤسسة الإسرائيلية، فلا توقف توريد السلاح لعصابات الإجرام، ولا تكشف قاتلاً ما دام المقتول عربياً، بل عادت بأبشع مما كانت عليه، ففي أول يوم بعد توقف الحرب بغزة تمت عملية قتل بمشهد درامي وقح مستغلة خلافاً بين عائلتين، وليس صدفة أن يكون هذا في مدينة أم الفحم التي شهدت أكبر المواجهات وقدمت شهيداً.
وقِس على ذلك مدناً وبلدات أخرى، كان أبرزها تفجير مركبة في بلدة عسفيا ذات الأغلبية الدرزية الموالي معظمها لإسرائيل، ويخدم بجيشها لرمي حجر في المياه الراكدة، فالفاعل لن يكون يهودياً باعتقاد الدولة، فهو عربي منتقم من فئة أخرى، وهذا باب لحرب أخرى، ومن المعروف أنه بعد انتفاضة 2000 قد ضخت المؤسسة الإسرائيلية مبالغ مهولة لـ"أسرلة" كل ما هو عربي، وفتحت برامج الأسرلة والتهويد على مصراعيها بكل الأطر، وهذا مؤكد حدوثه اليوم لكن بصور أشد بشاعة موغلة بالعنصرية، بحيث تكون انتقاماً وضربة موجعة لمن تجرأ عليها، وستسعى لتقسيم المجتمع سياسياً وطبقياً واقتصادياً، وستحظى الفئة الناعمة من "كتاكيت التعايش"، أو كما يسمونهم "العرب الجيدون" بامتيازات كبيرة على كل المستويات، قابلةً لِأن تُمنح لكل مرتمٍ في أحضان المؤسسة الإسرائيلية.
وستزيد الحملة الإسرائيلية بتجاهلها لأعمال العنف وعصابات الجريمة التي هي صنيعتها بالأصل، وتزيد بتهميش العربي وتضييق كل مناحي الحياة عليه، والعامل الذي لن يقل بروزاً عن كل هذا هو حملات الاعتقالات وخطف العرب من بيوتهم والاعتداء عليهم وعلى ممتلكاتهم، وقد بدأت هذه الحملة بالفعل لكل من كان نشطاً بالأحداث الأخيرة إعلامياً، وعلى وسائل التواصل، أو شارك في أي مظاهرة ضد العدوان أو بالمواجهات مع لوائح اتهام جاهزة، وهذا يعني أنه لا يوجد عربي آمن بالداخل الفلسطيني المحتل.
لهذا كله يجب التحرك إعلامياً كي لا تتمكن المؤسسة الإسرائيلية من الاستفراد بهم وتصفية حساباتها معهم، التي تصل لتصفيتهم شخصياً أو الزج بهم في السجون، فهي لا تقل بشاعة عن الأنظمة العربية، وإن تجمّلت بأكذوبة الديمقراطية، والتي لا تقل أهمية عن سعيها لإعادة حالة الانقسام المعهودة بين فئات الشعب الفلسطيني.
فهي مسؤوليتنا كفلسطينيين أولاً، خلق أطر ومبادرات ومشاريع ترسخ فكرة الشعب الواحد لتخدم طموحنا بحياة اجتماعية وسياسية موحدة نتحرك فيها معاً، فلا يكون حراك الضفة منفصلاً عن حراك غزة ولا حراك القدس منفصلاً عن حراك الداخل، يجب تجاوز فكرة الخصوصية لكل منطقة من هذه المناطق وكسر هذا الخطاب المتهالك الذي عمل عليه الاحتلال وسلطة أوسلو معاً، ويكون الأساس وحدة فلسطين، وقد كان هذا في الأيام الأخيرة، لكن مسؤوليتنا الحفاظ على هذا الإنجاز الوليد وتوجيهه وتنميته.
نحن أمام لحظة تاريخية بمسار القضية، مفتوحة على كل الاحتمالات، لكن بعوامل غير مسبوقة، الإعلام الواسع والتضامن العالمي، والاعتراض الشعبي الكبير من اليسار الإسرائيلي على نتنياهو ومظاهرات تطالبه بالاستقالة، يجب استغلال هذا الشتات الداخلي بالشارع الإسرائيلي على الأقل، لترتيب صفنا الفلسطيني فهو أكبر مكسب لنا، واستغلال هذا الفضاء الإعلامي الواسع المفتوح بما يخدم قضيتنا وفكرتنا بالنضال الفلسطيني الموحد، واستغلال هذا التضامن الشعبي العالمي غير المسبوق مع القضية الفلسطينية بتمرير روايتنا وفضح مخططات الاحتلال وممارساته الإجرامية من قتل واعتقال وتهجير وتزوير الحقائق وإرهاب للفلسطينيين، وإن كانت هنالك حكمة تنفعنا بموقفنا هذا فهي مقولة الداعية والسياسي المصري المعتقل في سجون النظام هناك حازم أبواسماعيل -فك الله أسره-: "أدركوا اللحظة الفارقة".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.