أنا مسلمٌ عربيٌّ مصريٌّ، بالترتيب هكذا، لكني فلسطيني اليوم وغداً وبعد غد. مسلمٌ؛ وكفاني الله بذلك تشريفاً وتعظيماً وإجلالاً، فأخرجني بالإسلام من الظلمات إلى النور، ومن عبادة الجماد والعباد إلى عبادة ربِّ العباد. ولا أرجو إلَّا أن أموت على ذلك وأُبعث عليه.
وعربيٌّ، اصطفى منهم سيِّد الخلق ورسول الأمة ﷺ، وعلى لسانهم نزل كتاب الله، وأجدادي أشرف الخلق بعد الرسول؛ صحابته الأبرار، وآل بيته الأطهار، والأئمة والتابعون ومن على نهجهم سار. فازدَّدتُ بنسبهم شرفاً على شرفٍ، وفخراً على فخرٍ، وعزةً فوق عزٍّ.
ومصريٌّ؛ بلادي التي عاش بها موسى (عليه السلام) وفتحها من بعده عمرو بن العاص (رضي الله عنه)، بعد أن ماجَ أهلها تحت وطأةِ الفرس تارةً والروم تارةً أخرى؛ وليس لهم فيها حِمْلُ بعيرٍ. وبها وُلدت ورأيت الدنيا، وأحبّها وأحبُّ أهلها، لكني لا أقدِّمها على حبِّ إسلامي وعروبتي، فأنا فلسطينيٌّ اليوم كما كنت سوريّاً أمس، وسأظل غداً حتى تتحرر من قيود المحتل.
لذا فتلك النعرة الهوجاء، والذلَّة العمياء، والتجرد من رداء الإسلام والعروبة الذي يفعله بعض الجهلة، والمطبعون تجاه إخوانهم الفلسطينيين تحت قناع "أصلهم باعوا أرضهم"، هي مجرد رداءٍ رثٍّ آخر يتخفون فيه ولا يليق بهم، حتى انسحقوا وذلُّوا فتكاد تتكالب علينا الأمم وتوشك أن تبيدنا بعد أن رفعنا الله وفتح بنا الدنيا قاطبةً.
الحدود تراب
إشكالية الحمية الوطنية المرسومة بحدود الدول، والمبتعدة عن مركزية الدين والجسد العربي ككتلة واحدة، واحد من أسوأ الابتلاءات التي نشأ عليها الشباب المسلم والعربي المعاصر؛ إذ إن رفع علم فلسطين أو سوريا أو مصر كشعارٍ منفصلٍ، في أيدي أبناء بلادهم فقط، قد أوغر في هوية الجيل الحالي تفكُّكاً، أشبه بما فكَّكته "سايكس-بيكو" قبلاً في هوية أجدادهم.
هذه التفرقة بين الدم المسلم عموماً والعربي على وجه الخصوص قد أضرت بقضية فلسطين الحالية والمستمرة، كما أضرت بقضايا أخرى لإخوة وأخوات مسلمين قُتِّلوا -وما زالت تسيل دماؤهم- في بورما وإفريقيا والإيغور، ولا يكاد يئنُّ لهم مسلمٌ إلا قليلاً، لماذا؟ لأن بلادهم لم تقع ضمن حدود العرب الوضعية التي وضعتها الحكومات ولا تتحرك أبعد منها، لذا فلن تجد لهيب الشعارات والأخبار تتناقل على شرف دمائهم كما يحدث مع الدولة الأم لكل شعب منفصل.
فكيف يكون تراب مصر أغلى من تراب فلسطين أو سوريا أو دويلة صغيرة مسلمة في شرق آسيا؟! روى ابن ماجه عن ابن عمرٍ رضي اللّٰه عنه قال: رأيت رسول اللّٰه ﷺ يطوف بالكعبة وهو يقول: "ما أطيبكِ وأطيب ريحكِ، ما أعظمكِ وأعظم حُرْمَتك. والذي نفس محمَّد بيده، لحُرْمَة المؤمن أعظم عند الله حرمَة منكِ، ماله ودمه، وأن نظنَّ به إلَّا خيراً".
وهم القضية السياسية، وهم حدود الوطن، وهم الانتفاضة التي تشتعل بوقود أهلها فقط وكأن إخوانهم في البلدان الأخرى يتبرأون منهم، كلها مسميات جعلت من منطلقات الدفاع والهجوم منطلقات دينية عربية جمعية، أكثر منها وطنية فردية مستقلة، والمسلم الحق مُذ يضع حدود الأوطان -بعيداً عن حب ترابها واعتزازه بها كموطنه الأم- تحت قدميه، فلن يعود ليعادي أو يوالي إلا على الإسلام وبالإسلام، وخيرٌ له أن ينتصر على ذاك أو يُهلك دونه.
لقد جاء الإسلام فخلعَ على الناس هويةً أكبر وأعظم وأجلُّ ممن كانوا ينتسبون إليه من قبليتهم ووطنيتهم وآثار الغابرين عليهم، فمن قدَّم الوطنية على العروبة أو قدَّم أحدهما على الإسلام، فقد قدَّم ما أخره الله، وأخَّر ما قدمه الله؛ ثم بُهِت.
المقاطعة فيروس الرأسمالية
في الأمس القريب خرج علينا "ماكرون" مهاجماً الإسلام وأهله، ساخراً من نبينا الكريم، ومتوعِّداً كل من يمس أمن بلاده بسوءٍ؛ بلاده التي شاعت -وتشيع- فساداً وإفساداً في كل مكان تعتدي عليه.
وبعد لقاءٍ خبيثٍ في إحدى القنوات، تراجعت حدة كلماته وترقَّقت ألفاظه وكتب بالعربية دون الفرنسية؛ كل هذا ليستعطف المسلمين البسطاء -في نظره- بعد التحامهم ومقاطعتهم منتجات بلاده، وبعد أن رأى شوكتهم كأفرادٍ وشعوبٍ رغم صمت حكامهم المعهود.
المشكلة أن أغلب الناس -الغارقين في عاطفتهم كالعادة- وكذلك المثبطون الذين يتمسحون في حذاء الكونت الفرنسي، صدَّقوا كلمات ذلك "الماكر" عن التسامح والمعايشة، وبدأوا في خفض وتيرة الغضب وتركوا الدفاع عن الغاية الأساسية المرجوة من مقاطعة المنتجات لفرنسية. والأيام تعيد نفسها مع مقاطعة المنتجات الإسرائيلية، فتجد بعض الناس يشككون في قدرة المقاطعة على الإضرار باقتصاد الكيان المحتل، تحت حجة التمويل الأوروبي-الأمريكي له! في حين أن هذه الدول أكثر ما تخشاه أن يتأثر اقتصادها ورأس مالها الوحيد بقلة المبيعات والتسويق في أسواق البلدان الأخرى.
قنبلة وسائل التواصل
إن أهم ما ينقصنا كمسلمين في مواجهتنا لأعدائنا أمران: النفس الطويل، واستغلال المتاح من وسائل المقاومة والتصدي. وبتدقيق النظر فإن أغلب النكبات والنوازل الكبرى في تاريخ المسلمين، حدثت بفعل الخيانة والضعف وانحراف المرجعية، وكذا التقليل من الضغط الشعبي الكبير مستخدماً الأساليب والسوائل المتاحة التي يوفرها له الزمان والمكان الحاليين.
الكتابة والنشر والهاشتاجات وتصوير الأحداث والاحتجاجات ومقاطع القصف للمنازل وتهجير أهلها والقمع والتنكيل بالشيوخ والأطفال وترويع الآمنين، كلها أخبار لا يعرف العالم عنها، بل يتم تشويه حقيقتها مستغلين تحكمهم في وسائل التواصل ومديريها لنقل صورة مكذوبة عن الأحداث وجلب تعاطف العالم مع الصهاينة وقلب الطاولة على أصحاب الحق والأرض الأصليين. فمن الواجب تصدير هذه الصور والمشاهد على حقيقتها أمام العالم، لا جلب استعطافه، إنما لإعلامه بدمائنا وأرضنا وترابنا المدنسين من قبل كيان محتل لا حق له ولا هوية.
أما الكربلائيات والصعبانيات والمباحثات والمؤتمرات وخرائط الطرق وموائد الرحمن التي يتبعها رؤساء وحكماء العرب، والنواح والعويل المتواصلان لاستجلاب عاطفة العالم ولفت أنظاره نحو المسلمين في فلسطين وغيرها من شعوبنا المضطهدة على أنهم دخلاء على الوطن يريدون قطعةً منه، بديلاً عن المقاومة بالكلمة والسلاح، لم يُجدِ نفعاً مع الهنود الحمر عندما اجتاحهم الرجل الأبيض، ولن يجدي نفعاً معنا الآن بعد أن شبعنا منها طيلة عقود وعقود منذ سايكس بيكو. أو هكذا يبدأ طريق النصر، وإن غداً لناظره لقريب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.