يا رايح صوب بلادي دخلك وصللي السلام*** بلغ أهلي وولادي مشتقلن رف الحمام
سلي أمي يا منادي بعدا ممنوعة الأحلام*** وقلا أياما ببالي والله بتعز الأيام
تعكس تلك الكلمات التراثية حال أهلنا بفلسطين بجدارة وبمختلف أحوالهم، فمنهم المهجّر من أرضه المشتاق لترابها، ومنهم الصامدون خلف الأسوار في السجون، ومنهم المرابطون بالأقصى وببيوتهم المقدسية رغم البطش والتنكيل اليومي تجاههم، ومنهم المحاصرون الممنوعة عنهم كل سبل الحياة لسنوات طوال، ورغم ذلك صامدون بعز وإباء بغزة الأبية، لم يخنعوا ولم يطبعوا، ولم تتهاوَ مبادئهم تحت أي شرط أو حصار، وفوق ذلك تعكس كاميرات الحقيقة مدى ثباتهم وإيمانهم ورسوخ عقيدتهم في الله ثم المقاومة حتى ينالوا إحدى الحسنيين نصراً أو استشهاداً.
ولكن دائماً ما نتساءل حول مشاعرهم الإنسانية التي تختلجهم أثناء القصف والعدوان الغاشم عليهم، ونرى صوراً مختلفة لذلك، فالبعض يقول نحن صامدون ولن تكسرنا مدفعياتهم وصواريخهم، والبعض يشعر بالخوف ويسارع بعناق أهله وأحبائه أو الاختباء من تلك الصواريخ.
فهل يتنافى الصمود وتسطير البطولات مع الشعور الإنساني بالخوف وعناق الأحباب؟ وهل اعتاد أهل غزة خاصة وفلسطين عامة أصوات القصف؟
بالطبع لا يوجد أي تعارض بين البطولة والشعور بالخوف والهلع أيضاً جراء سقوط وابل من الصواريخ فوق رؤوسهم، فهو حق إنساني أصيل ورد فعل تلقائي طبيعي كونك بشراً، وتخلف تلك الأصوات آثاراً نفسية وجسدية كبيرة لهذا الشعب المظلوم لعقود طويلة، فنجد إعاقات متعددة لدى أبنائهم سمعية وبصرية وحركية، وهناك من تلازمه نوبات الهلع والخوف بشكل مستمر، كونك بشراً يحتم عليك أن تستجيب لتلك الغارات العنيفة، ولا يتنافى ذلك مع كونك صامداً ثابتاً مغواراً لم تتخلَّ عن أرضك أو عرضك وتعلم العالم كله معنى البطولة والصمود حتى وأنت ترتجف، فمَن بشعوب الأرض كلها قُصف وحوصر كما نشاهده يومياً في فلسطين؟ من يستطيع تحمل تلك الآلام لعقود طويلة؟ اليوم نمر بظرف سيئ نظل نعاني آثاره ونتعذر به لسنوات، فكيف بشعب يعاني الآلاف من الظروف القاهرة التى تستطيع أن تفتك به ورغم ذلك نجدهم صامدين بل ويعلموننا هم معنى الإيمان والثبات وعلى لسانهم كلمة واحدة "كل شيء يهون فدا الأقصى".
ماذا يفعل الاطفال؟ وبمَ يفكرون أثناء القصف؟!
شاهدنا الأيام الماضية -بما رصدته عيون الحقيقة الإعلامية للعالم كله- حال أطفال فلسطين المحتلة جراء القصف العنيف عليهم، يتساءل طفل "لم قصفوا البرج؟"، وأخرى تفزع مما حدث لها فتقول "كنت نائمة بجوار أمى وحين صحوت وجدت نفسي بين الركام والدمار ولا أحد بجانبي"، طفل يودع والده الشهيد بمرارة وحسرة "الله يسهل عليك يابا"، وآخر يناشد أمه تحت الركام راجياً إياها ألا تتركه وحده، وهو يحاول إنقاذها "متسيبينيش لحالي يما"..
طفلة هناك تتساءل وتقول: "عمري فقط عشر سنوات وأريد أن أصبح طبيبة، لماذا يقتلوننا؟ عمري فقط عشر سنوات!"، وطفل فوق ركام بيته يستخرج ما بقي من ألعابه وهو يبكي على دمار حل ليس فقط بمنزله وإنما هي ذكرياته ورائحة الخبز الذي تُعده أمه، وركنه المفضل للدراسة، وحديقته التي يلعب فيها مع أخوته، عتبة الدار حيث يرقب عودة والده وبيده الحلوى، وسطح المنزل الذي تحلق منه طائرته الورقية الملونة بعلم فلسطين، هو ليس مجرد منزل، وإنما طفولة وعمر، وذكريات وشقاء سنوات قصف وهدم بغمضة عين!
تعطيل الدراسة، ولجوء الأسر بالمدارس، بأي نفسية يستطيع الأطفال مجابهة العالم والمضي قدماً رغم كل هذا الدمار؟! ومع ذلك نجد معية الله ترعاهم ويتفوقون بالدراسة حاصدين أعلى العلامات.
ما الآثار النفسية التي يخلفها العدوان على أطفال فلسطين؟
– الاضطرابات السلوكية التي تأخذ أشكالاً متعددة، كالقلق الشديد والخوف من المجهول وعدم الشعور بالأمان والتوتر المستمر والانعزال، والتبول في الفراش، فيشعر الطفل بأنه مهدد دوماً بالخطر، وأن أسرته عاجزة عن حمايته، فعلى الرغم من أن الوالدين هما مصدر قوة الطفل وأمانه، إلا أنهما عاجزان عن توفير ذلك.
– اضطراب ما بعد الصدمة: أظهر تقرير لجنة الأمم المتحدة الخاص بحقوق الإنسان، أن الأطفال الذين يكونون ضمن دوامة الأحداث الدموية تبقى ذكريات الأحداث معهم، وتسبب لهم كوابيس شديدة، وتتداخل مع مجريات حياتهم اليومية وكأنها تحدث الآن، كما أنها تسبب لهم الخوف وانعدام الأمن والمرارة.
– نتائج وخيمة في واقع الطفل: كأن يفقد أحد والديه أو كليهما، أو أحد الأقارب، أو بيته أو مدرسته، أو يتعرض هو لإعاقة وفقدان أحد أعضاء أو حواس الجسم.
– العنف: يولّد العنف عدداً من الاضطرابات، سواء عاش الشخص ذلك العنف بشكل مباشر أو حتى بشكل غير مباشر عن طريق الصور ومقاطع الفيديو أو سمع عنه من أشخاص عايشوه وكانوا قريبين منه، ومن هذه المشاعر والاضطرابات:
1/ الفزع والهلع والحزن والاكتئاب.
2/ تدني تحصيلهم الدراسي بشكل ملحوظ.
3/ ميلهم إلى الجدال والعناد والتمرد والعنف والعدوان.
4/ فقدهم لروح التعاون والمشاركة.
– بعض سلوكيات الطفل المصدوم
يعبر الطفل عن هذه المشاعر بأوجه مختلفة، منها العدوانية نحو الآخرين والتعامل بخشونة مع الزملاء، وسرعة الاستثارة الانفعالية، فنراه يصرخ أحياناً بلا سبب، أو يغضب لأتفه الأسباب.
– العادات السلوكية التي تعبر عن قلق هؤلاء الأطفال نتيجة الصدمة قضم الأظافر والتبول اللاإرادي.
– المشاكل المعرفية: فقدان السيطرة والعجز والقلق والملل واليأس.
– الأعراض الجسدية: التعب، ومشاكل النوم، وفقدان الشهية، والشكاوى الجسدية غير المفسرة طبياً.
– المشاكل الاجتماعية والسلوكية: الانسحاب والاستسلام والسلوك العدواني وصعوبة التعامل مع الآخرين.
– الاحتراق النفسي: يرى علماء نفس الطفل أن الأطفال يعانون من الكوابيس والخوف وعودة ذكريات الماضي المتعلقة بالحرب، وهناك شريحة من الأفراد تؤثر عليهم تلك الصدمات بشكل عميق إلى حدّ توليد ارتجاج في وضعهم النفسي ليكون لديهم أحد أشكال الشلل، إذ يَعلَقون في المشهد العنيف والضربة القوية لإنسانيتهم ويبقون في تلك اللحظة، كما أنّ هناك نوعاً من فقدان الثقة بالنفس وعدم الشعور بالأمان،
ومن مظاهر هذا الاحتراق:
1/ معاناتهم من سوء التغذية والجوع والفقر.
2/ توقف موارد أسرهم سيعيق نموهم وتطورهم ويضعف نظام المناعة لديهم.
3/ ارتفاع معدل الوفيات في أوساط الرضع والأطفال الذين هم دون سن الخامسة وانخفاض معدلات الحياة.
– قمع الذكريات: من المعروف طبياً أن التجارب المروّعة تسبب قلقاً شديداً وغامراً، لدرجة أن الأطفال الذين يتعرضون لها قد يحاولون قمع ذكرياتهم السيئة عنها بدلاً من مواجهتها، ولكن العديد من الباحثين يعتقدون أن قمع ذكريات الصدمة، يسبب معاناة أكبر للأشخاص الذين يتعرضون للصدمة، وذلك على المدى القصير أو الطويل.
كيف نقدم لهم المساعدة؟
إن الزمن لا يشفي من الصدمات، لذلك يجب مساعدة الأطفال على التعبير عن معاناتهم ومواجهة الذكريات السيئة، وذلك بتوفير الدعم والتوجيه اللازم لهم، وهذا الدعم يُفترض أن يتم من خلال الأشخاص المختصين لتقديم العلاج للأطفال بهدف متابعة حياتهم بشكل طبيعي، ولكن في استحالة عرض الطفل على الأطباء أو المؤسسات المختصة فإن المساعدة المقدمة من قبل أحد الأشخاص البالغين يمكن أن تفي بالغرض، حيث إن الحديث أو الكتابة أو حتى تمثيل الأحداث المؤلمة يمكن أن تكون وسائل مهمة لمساعدة الأطفال على الشفاء والبدء باسترجاع حياتهم الطبيعية.
اكتب عنهم واحمل قضيتهم للعالم، كن صوتهم وعوناً لهم، ساهم فى إعمار موطنهم، وطالب بإيقاف الحرب عليهم، لطالما دفع الفلسطينيون الثمن وحدهم عن كل الأمة، فإلى متى سيستمر العدوان على الأبرياء العزل؟ وإلى متى سيعايش الأطفال الحروب المدمرة؟ أما آن لكل هذا الدمار أن ينتهي؟!
كما أنّ تأثر الأطفال نفسياً وجسدياً أكبر عند إطلاق النار أو الشظايا أو الألغام الأرضية، مما يجعلهم عرضة للإصابة بالأمراض والإعاقات وكل ما يصاحب حالة الحرب من هلع، لذا فإن أول طريقة لإنهاء تلك المعاناة المستمرة، هي إنهاء الحروب ذاتها والتوقف عن إرهاب المدنيين الأبرياء.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.