في مشهد لم تشهده مدينة رام الله منذ سنوات، خرج مسلحون يُعرّفون أنفسهم بـ"كتائب الاقصى" الذراع العسكرية لحركة "فتح" من مخيم الأمعري نحو وسط مدينة رام الله الليلة الماضية يحملون أسلحة ويجوبون المدينة، لكن قوة أمنية تابعة للسلطة الفلسطينية منعتهم من مواصلة الطريق، فعادوا أدراجهم نحو مدخل المخيم.
ضابط في القوة الأمنية الفلسطينية المشتركة التي تولّت مهمة اعتراض المجموعة المسلحة قال لـ"عربي بوست" إن هؤلاء المسلحين يتبعون النائب في المجلس التشريعي السابق عن حركة "فتح" جهاد طملية، حيث تتهمه السلطة بأنه محسوب على القيادي المفصول محمد دحلان، مضيفاً: "نحن نعلمهم جيداً".
جدير ذكره أن جهاد طملية تم طرده من "فتح" قبل خمس سنوات بقرار من رئيس السلطة محمود عباس في أعقاب فض الأمن الفلسطيني مؤتمراً نظمه طملية في مخيم الأمعري حينها بهدف الضغط باتجاه عودة دحلان إلى الحركة.
ومنذ ذلك الحين يواظب الأمن الفلسطيني على اقتحام منزل جهاد طملية وتفتيشه أو استجوابه بين الفينة والأخرى.
وأكد الضابط أن حالة من التوتر والتلاسن قد سادت بين قوة الأمن والمجموعة المكونة من عشرات المسلحين؛ ما دفع المجموعة إلى التراجع ووقف مواصلة المسير نحو دوار المنارة (مركز المدينة). وقد أطلق المسلحون "الملثّمون" النار في الهواء ثم توجهوا نحو مدخل مخيم الأمعري وتلا أحدُهم بياناً.
وبيّن الضابط في الأمن الفلسطيني أنه كان لديهم علم مسبق بتحرك هذه المجموعة المسلحة، وأن تعليمات صدرت إليهم من قيادة الأجهزة الأمنية بضرورة التصدي لهم، معتبراً أن ما قامت به من استعراض هو رسالة للسلطة الفلسطينية أكثر من كونها موجهة للاحتلال.
بيان المجموعة المسلحة حمل رسائل في طياتها تحذير لرئيس السلطة محمود عباس عندما قال إن كتائب الأقصى عادت بعد غياب، وهو ما يُفهم منه اتهام ضمني لعباس بأنه هو من أنهى الكتائب، وأن الأخيرة "قد عادت رغماً عنه".
كما حذر البيان من أن هؤلاء المسلحين سيكونون في حالة اشتباك عند الحواجز ومفترقات الطرق مع قوات الاحتلال، على حد زعمه.
من جانبه، أكد قيادي في "فتح"، مفضلاً عدم ذكر اسمه، أن هؤلاء المسلحين محسوبون على محمد دحلان، وأن خروجهم هدفه "جس نبض".
ثمة اعتقاد سائد بحكم التجربة مع هذه المجموعات المسلحة المحسوبة على محمد دحلان وتتواجد في مخيمات الضفة الغربية، أنها لا تستخدم سلاحها ضد إسرائيل، بدليل أنها لا تتعرض للاعتقال من قِبلها، بل نراها قد خاضت اشتباكات مع أمن السلطة الفلسطينية في أكثر من مكان، لا سيما في مخيم بلاطة بنابلس في السنوات الأخيرة، لكن دون أن تتعرض هي أو سلاحها لأي ملاحقة من قِبل الاحتلال.. وهو ما يعني أن سلاح هذه المجموعات لا يضر الاحتلال.
كما أن الشارع الفلسطيني ينظر إلى كل من يطلق النار في الهواء على أنه لا يضر الاحتلال بشيء، وأن سلاحه فقط لـ"المناسبات" و"الاستعراض".
إذاً، خروج المجموعة المسلحة المدعومة من محمد دحلان في هذا التوقيت وبهذه الطريقة الاستعراضية والمشهدية التي وثقتها الكاميرات، يبدو أنه يندرج في سياق توازن القوى بين أقطاب فتح، بما فيها تيار محمد دحلان. وظهر أن الأخير أراد أن يستغل الظروف الوطنية غير المسبوقة فلسطينياً كي يبعث برسائل للقول: "نحن هنا.. نحن معادلة أيضاً".
الاستحواذ على أصوات الفتحاويين الغاضبين من عباس
وتؤكد مصادر فتحاوية لـ"عربي بوست" أن لدى محمد دحلان موالين في مخيمات الضفة الغربية إلى جانب حضوره القوي في قطاع غزة. وكان دحلان يأمل أن تسهم الانتخابات التشريعية إذا تمت في "شرعنته" من خلال حصد قائمة "المستقبل" المحسوبة عليه عدداً مُرضياً من المقاعد معتمداً على عاملين: الأول المال السياسي، والثاني الاستحواذ على أصوات الفتحاويين الغاضبين من محمود عباس.
وقد رصد "عربي بوست" تواجداً أمنياً مكثفاً في محيط كل من منزل رئيس السلطة محمود عباس في منطقة البالوع برام الله، وكذلك مقر المقاطعة "الرئاسة" الليلة الماضية، في أعقاب واقعة خروج المجموعة المسلحة ومحاولتها الوصول إلى مركز المدينة التي تمثل مقر قيادة السلطة، وهو ما يؤشر إلى وجود قلق أمني لدى السلطة من تداعيات تصاعد الميدان مع الاحتلال الإسرائيلي.
وقد تجلى هذا القلق بأن أحد القادة الأمنيين برَّر الاعتداء على متظاهرين داعمين لغزة أمام مقر المقاطعة في رام الله قبل أيام، بخشيتهم من محاولات اقتحام المقر.
لذا، ينظر مراقبون إلى خروج مسلحي دحلان كما لو أنه يندرج في سياق توازنات القوى في مرحلة حساسة فلسطينياً ليس فقط بسبب المواجهات مع الاحتلال، بل أيضاً لأن الأعين الإقليمية والداخلية تترقب شكل المنظومة السياسية الفلسطينية بعد مرحلة محمود عباس، لا سيما أن الأخير رجل ثمانيني ويعاني من أمراض تجعل مسألة الصراع في أروقة فتح على خلافته تحتدم أكثر.
وهنا، تشدد مصادر سياسية في السلطة الفلسطينية في حديثها لـ"عربي بوست" على أن دوافع إلغاء الانتخابات مرتبطة بشكل وثيق بمعركة خلافة عباس والترتيب لما بعده.
وهنا، ذكر قيادي فتحاوي أن هناك أسلحة لصالح أقطاب فتح، تزايدت وتيرتها في الأشهر الأخيرة استعداداً لأي مفاجأة تفرضها حالة غياب عباس لأي سبب طارئ أو تصاعد الأحداث الميدانية.
كما أن هناك كميات من الأسلحة موجودة في مستودعات السلطة؛ حيث فرضت عليها تعزيزات لعدم الاستيلاء عليها من قِبل أي جهة كانت.
جدير ذكره أن المخابرات الفلسطينية هي الحاكم الفعلي للأراضي الفلسطينية، وتبعث تقاريرها "التقييمية" باستمرار إلى عباس، لدرجة أن الأخير يسمع من رئيس المخابرات ماجد فرج، ولا يجتمع نهائياً مع رئيس جهاز "الأمن الوقائي" زياد هب الريح المقرب من القطب الفتحاوي جبريل الرجوب.
وتخشى السلطة من "عسكرة" أي مواجهة مع إسرائيل، لأن هذا يعني فقدان السيطرة وضعف السلطة، فضلاً عن ارتباط الأمر بـ"معركة خلافة عباس". فيما تُكلّف المخابرات الفلسطينية بضبط أي صراعات فتحاوية داخلية محتملة في حال أصبح منصب رئاسة السلطة "شاغراً" في أي لحظة.
بدورها، تسعى الأجهزة الأمنية الفلسطينية أيضاً للمحافظة على توازنات القوة، وسط مخاوف من أن معركة غزة تقوي حماس أو تعيد نشاطها إلى الضفة الغربية.
الواقع أن الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية أحياناً تخرج عناصرها مرتدين لباس "كتائب الأقصى" إلى الشوارع لاستعراض معين، وذلك للمحافظة على وجودها وتوجيه رسائل للداخل الفلسطيني.