في بطولة إفريقيا للأمم لعام 2008، وتحديداً في مباراة مصر والسودان، كانت الساحة الرياضية العربية والأفريقية على موعدٍ مع إحدى اللحظات التاريخية العصيّة على النسيان، حين سجل محمد أبوتريكة، اللاعب المصري الأشهر وقتها، هدفاً في مرمى السودان، واحتفل بإظهار تيشيرتٍ أبيض، كُتب عليه (تعاطفاً مع غزة).
وجَّه من خلال هذا الاحتفال رسالة قوية ذات وجهين: وجهها الأول للعالم أنِ التفتوا إلى غزة المحاصرة واسمعوا أنَّاتِ شعبها، هذه فلسطين قضية العرب والمسلمين الأولى. ووجهُها الثاني لزملاء مهنته أنَّ هنالك ما هو أسمى من مجرد ركل الكرة وإحراز الهدف، هنالك القضية والمبدأ.
صحيحٌ أن أبوتريكة حصل على كارتٍ أصفر؛ لمخالفته لوائح الفيفا التي تمنع استخدام الرموز السياسية في أرض الملعب، لكنه في الوقت ذاته، حصل على كارتٍ أخضر أجاز له عبور قلوبنا جميعاً، وبابَ التاريخ الواسع، للأبد.
بعدها بحوالي خمس سنوات تقريباً، كان الشارع الرياضي العربي مع حادثة أخرى، بطلها هذه المرة اللاعب المصري الأشهر حالياً محمد صلاح لاعب نادي بازل السويسري وقتها.
أوقعت قرعة الدور التمهيدي للدوري الأوروبي، نادي بازل السويسري في مواجهة نادي "مكابي تل أبيب" الصهيوني، وأثير جدلٌ كبير وقتها حول مشاركة اللاعب في مباراة العودة التي أقيمت في الأراضي المحتلة، وما يعكسه ذلك من موقف اللاعب من القضية. لكن صلاح فاجأ الجميع حين رفض مصافحة لاعبي الفريق الخصم، بل إنه سجد في قلب ملعبهم بعدما أحرز الهدف الثاني لفريقه.
وسرعان ما لمع نجم محمد صلاح في الملاعب الأوروبية، من بازل السويسري إلى تشيلسي الإنجليزي ومن تشيلسي إلى فيورنتينا الإيطالي ومن فيورنتينا إلى روما الإيطالي أيضاً، ثم إلى ناديه الإنجليزي الحالي ليفربول، حيث حقق مع الفريق لقب الدوري الإنجليزي ودوري أبطال أوروبا وكأس العالم للأندية، ولقب هداف الدوري الإنجليزي أكثر من مرة، حتى أصبح المصنف الثالث كأفضل لاعب كرة قدم في العالم.
إنجاز لم يسبقه إليه أي لاعب مصري أو عربي آخر، نقلة غير مسبوقة في تاريخ المحترفين العرب. أصبح "مو صلاح" أيقونة رياضية عالمية، وصار نجم فريقه الأول، ومن أكثر الرياضيين المؤثرين في العالم، يُهتف باسمه في أضخم الملاعب وأهم المحافل الرياضية في أوروبا والعالم.
ولكن يبدو أن اللاعب الذي أبهر المدربين والمحللين الرياضيين والجمهور جميعهم، بحضوره القوي الطاغي داخل الملعب لدرجة تربك وترعب مدافعي الخصوم، لم يكن على ذلك القدر من الإبهار خارج الملعب.
فقد خرج اللاعب، -ابن نجريج، مركز بسيون، محافظة الغربية- ليعيب على الشعب المصري تأخره "mentally" لأنهم لم يتعلموا في الـ"school" كيف يمرنون عضلة العقل!
عضلة العقل التي يبدو أن "المو صلاح" نسيها تماماً، واكتفى بعضلات البطن الست البارزة، و"الشِيب" الخرافي الذي يظهر به عند خلع التيشرت للرد على المشككين في أدائه، حين لم يتواجد في حفل تتويج زميله في الفريق، السنغالي ساديو ماني بجائزة أفضل لاعب إفريقي عام 2019 والتي أقيمت في مصر، في حين أن ساديو كان حريصاً على التواجد قبلها مباشرةً بسنة، ليستقبل صديقه في بلده السنغال، في الحفل الذي كان مؤكداً أن الجائزة ذاهبة فيه لا محالة لصلاح!
سقطة أخرى أفظع من سابقتها، كانت بدعمه للاعب المتهم بالتحرش في المنتخب الأول، عمرو وردة، الذي فضحته بعض الفتيات على إنستغرام، ووثَّقْن تحرشه بهنّ بالصورِ والرسائل، ليسارع جهاز المنتخب الأول لمداراة الفضيحة بإقصائه واستبعاده من قائمة الفريق؛ ليخرج "المو صلاح" ويحدثنا عن العفو والغفران، وأن المخطئين/المتحرشين لا يُعدمون، بل يجب أن نعطيهم فرصة ثانية، وأن الاستبعاد ليس حلاً تماماً.
وبالطبع لم يسلم من انتقادات الصحف العالمية التي وصفته وقتها بـ"المدافع عن المتحرش الجنسي".
عضلة العقل التي يبدو أن "محمد" أضاعها في أرجاء مدينة ليفربول، حين لم نسمع له همساً ولم يبالِ، أثناء موجة الأحداث المسيئة التي تبنتها بعض الصحف الفرنسية تجاه رسولنا الكريم "محمد" صلى الله عليه وسلم، في تخاذلٍ غير مبرر من أشهر لاعب عربي مسلم في العالم. في الوقت الذي سارع فيه كثيرون من زملائه اللاعبين المسلمين إلى اتخاذ مواقف منددة وصريحة، نصرةً للنبي والإسلام.
وليخرج علينا "صلاح" بعدها، من بيضته الكونية المعزولة عن العالم، محتفلاً بالكريسماس في صورة تجمعه مع طفلته "مكة" في زي وشجرة الكريسماس!
ثم كانت الطامة الكبرى، الأحداث الحالية التي تدور رحاها في القدس، تحديداً في حيّ الشيخ جراح، حيث الاحتلال الصهيوني يُخلي بيوت الحي من سكانها الأصليين بالتهجير القسري، لتندلع بعدها مواجهات عنيفة بين الفلسطينيين والصهاينة إثر رفض الأهالي ومقاومتهم واستمساكهم ببيوتهم، وصلت حدّ الاشتباك داخل المسجد الأقصى المبارك. لتصير قضية "حي الشيخ جراح" حديث العالم كله، في هذه الأيام. الكل ينادي: أنقذوا حي الشيخ جراح.
تفاعل الملايين من كل أنحاء العالم مع تلك القضية، من بينهم عدد كبير من لاعبي الكرة العالميين، وعلى رأسهم، منافس صلاح الأول على لقب "فخر العرب" الفخري، الجزائري رياض محرز لاعب نادي مانشستر سيتي، والمصري محمد النني زميل صلاح في المنتخب، ولاعب أرسنال الإنجليزي، وبول بوجبا وفرانك ريبري ومحمود حسن تريزيجيه، وغيرهم، ولكن أين صلاح؟ أين الرياضي العربي المسلم الأشهر من كل هذا؟
يمكنك أن تشعر بقليلٍ من الغرابة، حين تجد منشورات وتغريدات منددة وداعمة للقضية الفلسطينية من "حمو بيكا" -مثلاً- مغني المهرجانات الأول في مصر، أو من "جورجينا" عشيقة نجم كرة القدم كريستيانو رونالدو، ومن غيرهم ممن لا يُرجى منهم شيء من هذا ولا يُنتظر، لكنه فعل شجاع مشكور على كل حال، ثم لا تجد أي رد فعلٍ من صلاح، المصري المسلم، فخر العرب؟ الذي رفض مصافحة لاعبي مكابي تل أبيب! ولا حتى بـ"ستوري" على الإنستغرام!
مواقف كثيرة جعلت جماهير اللاعب في كل مكان تتحدث عن تحوله العجيب، واختياره الغريب لقضاياه التي يدافع عنها، يدافع عن متحرش، ويدافع عن القطط والكلاب، لقد امتعض الرجل جداً، وشجب وأدان -قبل سنتين- تصدير القطط والكلاب المصرية للخارج وقال بلهجة حاسمة صارمة: هذا لن يحدث ولا يمكن أن يحدث!
يبدو أن اللاعب أسرف كثيراً في قراءة كتابه المفضل "فن اللامبالاة"، لأنه صار بارعاً حقاً في اللامبالاة بقضايا الهوية حتى انسلخ منها، الهوية التي لم يعد لها موقع من الإعراب في قاموسه، الذي اتسع لدعم المتحرش والكلاب والقطط!
أحياناً أقول ربما هو الخوف. الخوف الذي نُربَّى عليه، في وطننا العربي، والذي نشأ عليه صلاح في رأيي. أراه خارجاً من نجريج، مسافراً إلى القاهرة، وأبوه لا يمل من التكرار على مسمعه أن يمشي (جنب الحيط) وإن وجد الرصيف قد امتلأ بالملايين من أمثاله الماشين جنب الحيط؛ فليحفر لنفسهِ مساراً (جوّه الحيط) ويمشي فيه. وأن يلعب الكرة وفقط، ذلك أمله الوحيد.
وها هو صلاح يثبت أنه أقرب من أي شيء إلى كونهِ ابناً مُطيعاً؛ لأنه حرص على تطبيق وصية والده بحذافيرها، ومن المدهش فعلاً كيف ثابر وصبر واستحضر تركيزاً حجرياً حتى صار من أفضل لاعبي جيله في العالم كله، وكيف التصقَ أيضاً بالحيط، حتى صارا خارج الملعب كأنهما واحد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.