إذا وُلدت فلسطينياً فبالطبع وبجوار الاحتلال الإسرائيلي وقوانينه وظلمه وشبه الحياة التي تحياها يوجد أيضاً بعض المميزات التي تتمتع بها، فقط لأنك وُلدت تحمل هذه الهوية على سبيل المثال، يمكنك أن تكون حراً، بطلاً، مقاوماً، شجاعاً.
فهذه المعاني يولد الفلسطيني وهو يحملها في جيناته، ولذلك فأنا لا أتعجب مطلقاً من كل المشاهد التي تأتي لنا من القدس هذه الأيام، فأنا أرى ذاتها منذ طفولتي، ليس ذلك فقط، بل إنني أجزم أن كل موطن وقفت فيه صامداً ضد أي ظلم كان بسبب تلك المشاهد العالقة في ذهني، والتي شكلت رجولتي يوماً تلو الآخر وأنا أتابع التلفاز بحثاً عن اسمها أو علمها "فلسطين".
وفي الأيام الماضية لم يشغلني سوى القدس وما يدور فيها، سواء في حي الشيخ جراح الذي يتوسط المدينة ويتوسط قلوبنا جميعاً الآن، أو في الأقصى المبارك ومحيطه، ومع تتابع الأيام أصبح من الممكن الآن أن أنسى أي شيء في يومي حتى في ظل روتين رمضان الذي لا يتغير، وفقط أتذكر شيئاً وحيداً، مطالعة الصفحات والحسابات الفلسطينية في كل مساء، شيء بداخلي يدفعني لمتابعة الأحداث بقوة والدعاء ليلاً ونهاراً لهذه الوجوه التي تشبهني إلى حد بعيد، فمجرد الشعور أن هؤلاء وأنا يجمعنا نفس القضية أو نفس الحلم أو حتى نفس الدعاء بتحرير الأقصى كافٍ ليبقيني مبتسماً طوال اليوم.
والجمعة كانت ليلة من ليالي الله، لا عجب في ذلك، فقد سهرت ليلتي في حضرة العشر الأواخر من الشهر الكريم، وانتقلت إلى رحاب الأقصى من خلال هاتفي، وقد كان أمام عيني شعب كريم يدافع عن مقدساته ومدينته.
ورغم أن المواجهات استمرت لساعات طوال فإنني بقيت مبتسماً وهادئاً، وكأنني أرى مباراة معادَةً لفريقي المفضل وهو ينتصر فيها على غريمه التقليدي، فمهما احتدت هجمات الخصم، كنت أعرف النتيجة مسبقاً، وأعرف قطعاً أن فريقي كتب له الفوز منذ صافرة البداية.
فكيف انتصر فريقي المفضل على الغريم التقليدي إذاً؟
إليك الجينات المقدسية التي صنعت الفارق
مشهد 1
"الفوز يكمن في التفاصيل"، قديماً قالوا ذلك، وهجمات الشعب الشجاع صنعت الفارق وكتبت الانتصار لقومي وفريقي، شاب أعزل يقفز بجسده وسط حشد من الجنود المدججين بالسلاح لا يفكر بعد ذلك إذا ما كان سيعتقل أو سيموت أو سيدهس تحت أقدامهم.
هو يضحي بكل ما يملك ليفرق جمعهم ويمنح الفرصة لفريقي للتقدم نحو المرمى، عفواً أقصد نحو الأقصى، مشهد من الصعب أن يمر عليك مرور الكرام دون أن تعيد نشره على الأقل، حسناً أنا لم أفعل ذلك، وأقول لك بصراحة إن المشهد لم يفاجئني، بل إنه فقط يجسد البطولة المعتادة لشباب القدس.
مشهد 2
طفل صغير يبدو أنه خرج من المباراة مبكراً قد تعتقد للوهلة الأولى أنه خرج مصاباً ولم يستطع إكمال المباراة، لكنك إذا انتظرت قليلاً ستشاهده وهو يسجل أعظم الأهداف في البطولة.
نعم لقد أحرزها هذا الصغير بدقة عالية رغم الفارق الكبير بينه وبين الجنود في السن والعدد والتسلح إلا شيئاً واحداً: الجينات، فهذا الطفل ولد حاملاً الهوية الفلسطينية، وليست على ورقة مختومة من السلطة، لكن حفرت في قلبه ونقلها له الأجداد عبر الزمن.
مشهد 3
رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع ولا قنابل صوتية ولا غاز مسيل للدموع عن ذكر الله، وقفوا صامدين أمام كل ذلك، ولتعلم أيها المحتل أن حتى قنبلتك النووية ما كانت لتزعزهم قيد أنملة عن مواقعهم، ليس في ليلة كهذه وفي شهر كهذا، فقد كانوا يستشعرون رحمات الله عليهم في كل لحظة، أكملوا بها صلاتهم وأي صلاة تلك التي حظوا بها فقط لكونهم فلسطينيين.
مشهد 4
أم ثابتة تملك الملامح ذاتها لأمهاتنا، لكنها لا تملك حتى القوة البدنية الكافية لمواجهة جنود الاحتلال المسلحين عند اقتحامهم الحرم القبلي للمسجد الأقصى، تصر على الوقوف أمامهم في وقفة قد تكون الأخيرة، لكنها لم تفكر في ذلك البتة، ولم تتراجع مقدار شبر عن موقعها، بقيت في مكانها تصرخ في وجوههم صرخة سمعت دويها في أذني، لأبتسم أكثر ويزداد يقيني بالانتصار، وبالطبع لم يقتصر دورها على هذه الوقفة، فهي من نقلت في الأساس الجينات الفلسطينية لكن من حولها، وهي من ربتها بداخل قلوبهم وعقولهم التي لم تعد تعرف للخوف طريقا.
مشهد 5
بعد انسحاب الجنود من محيط مسجدنا المبارك، معلنين بذلك هزيمتهم وانتصارنا عليهم بالضرورة وقف آلاف المرابطين في ساحة المسجد، في مشهد احتفالي لا تراه الأمة إلا في فلسطين.
وكأنهم يؤدون التحية للجماهير التي شجعتهم طوال المباراة، وأهم من التحية كان العهد والقسم على البقاء في رباطهم إلى أن تتحرر الأرض، وبشكل لا إرادي كنت مثل الملايين خلف الشاشات أردد معهم "أقسم بالله العظيم أن أحمي المسجد الأقصى المبارك".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.