على عكس العادة وأثناء تصفحي لموقع الفيسبوك، استوقفني أحد المقاطع الصغيرة لشاب يغني أمام باب العامود في محيط الحرم القدسي الشريف. لم يغنِّ صديقي الذي لا أعرفه وأجزم أنني لن أراه يوماً أحد روائع حمو بيكا التي تحصد ملايين المشاهدات، ولم ينشد تجليات حسين الجسمي عن الحياة الرائعة في أوطان مدمرة بالكامل، بل أنشد إحدى الأغاني عن القضية الفلسطينية صادحاً بصوته العذب "وضمير الأمة يا وطني مات بلا جاني".
أنشدها الشاب الوسيم بينما يقف هو والآلاف من أهل المدينة المقدسة مدافعين عن المسجد الأقصى أمام طغيان الاحتلال الإسرائيلي معلناً استمراره هو وأمثاله من أبطال القدس في الدفاع عن أرضهم، عاقدين العزم على النصر أو الشهادة على عتبات المسجد الأقصى وتحت أسوار المدينة الشامخة.
لكن عذراً يا صديقي، فإن ضمير الأمة وإن مات إكلينيكياً كما أخبرتنا بصوتك فإن الجاني معروف للجميع، لك ولي ولكل إنسان حر يرى في القضية الفلسطينية محور العدالة والضمير العالمي الذي بدأ ينزف دماءه الأخيرة، لكني أبشرك الآن أن في المقابل لا يزال ضمير الكثيرين حياً نابضاً ولأترك الطفل الذي كنته في يوم من الأيام يسرد لك أسباب بقائه على قيد الحياة.
في طفولتي جمعَنا والدي ذات مرة بينما لم أكن قد بلغت السابعة بعد لنشاهد معه إحدى حلقات البرنامج الشهير في مصر والوطن العربي آنذاك "قلم رصاص" للمبدع حمدي قنديل رحمه الله، أراد والدي لنا أن نتعرف على طفل آخر مثلنا لا يختلف عنا في شيء سوى أنه وُلد في وطن محتل ومخذول من الجميع، إنه محمد الدرة الذي شكل باستشهاده طفولتي ووعيي أنا والملايين من أبناء جيلي في كل أرجاء الوطن العربي.
لم أستوعب وقتها أسباب مقتله فقد بدا هو ووالده مسالمين تماماً، رفع والده منديلا أبيض ليقول للمغتصب إنه وابنه أعزلان لا يملكان سلاحاً سوى الأقلام والألوان في حقيبة محمد المدرسية، لكن وكما هو الحال اليوم في بكل بقاع فلسطين وفي مدينة القدس تحديداً لم تشفع لمحمد براءته ولم يشفع لوالده بطولته واستبساله في حماية صغيره.
استشهد محمد وحرك بموته مشاعري ودموعي وخط بدمائه في عقلي تاريخ القضية الفلسطينية الذي يعجز أي من الأنظمة والساسة والفنانين و"الهلاسين" عن محوها من ذاكرتي وقلبي ليقودني محمد بعد نحو عشرين عاماً للمشاعر ذاتها وأنا أرى الشعب الفلسطيني على عهد الدرة مقاوماً صامداً يقف بشموخ في مواجهة الاحتلال ومكائده وظلمه الذي طغى فوق أي ظلم في التاريخ الإنساني.
هذا الطفل بداخلي لا يزال يحركني، وقطعا ليس وحده، فملايين الأطفال الآخرين في داخل كل منا لا يزالون يهتفون بالهتاف ذاته الذي صدعت به حناجرنا داخل المدارس والملاعب: "بالروح والدم نفديكي يا فلسطين"، ولا يزالون يرسمون أعلام فلسطين بألوانها الزاهية في كراسات الرسم في فصولهم الدراسية.
ما زلت أنا والملايين غيري ندعو الله في مخيلتنا قائلين آمين خلف خطيب الجمعة في مساجدنا وهو يدعو اللهم انصر إخواننا في فلسطين، حتى وإن أوقف هذا الخطيب بقرار من وزارة الأوقاف أو أصبح أسيراً لقضيته وضميراً داخل أحد المعتقلات.
لا يزال أيضاً يا صديقي الطفل بداخلي يحكي لصديقه بضميره الفطري قائلا "نفسي أروح فلسطين وأموت شهيد هناك"، ولا يزال الغضب في عقولنا وضمائرنا تجاه من اغتصب أرضنا ووقف متباهياً بجريمته أمام حرائرنا وعجائزنا المتشبثين هم أيضاً بطفولتهم التي قضوها في حي الشيخ جراح.
ولذلك فإننا لم ننسَ ولن ننسى، ولقد كان في وقفتكم الأخيرة يا صديقي على عتبات الأقصى دليل على ذلك أعلم أنكم كنتم وحدكم بطولكم وببطولتكم تقاومون المحتل الذي تملك بلادنا وخيرها وتحكم في قرارها السياسي عبر أدواته الصغيرة، لكن لتعلم أن ملايين الأطفال بداخلنا يشاركونكم المقاومة ببراءتهم في ذاكرتنا وملايين الحناجر العذبة مثلك تشاركك الغناء والهتاف وإن السلاح السري المتمثل في دعوات أمهاتنا وقت الإفطار لا يزال قادراً على ردعهم مهما بلغ عتادهم وتحصينهم، فسهام الأمهات الصادقات لا تخطئ ولتعلم أيضاً أن كل ما بقى حياً من ضمائرنا سيبقى كذلك شريطة صمودكم الأسطوري ونضالكم المقدس في الدفاع عن شرفنا جميعاً على أمل أن يستخدمنا الله يوماً مثلما استخدمكم واختاركم للدفاع عن الضمير الميت لأمة كاملة كانت ذات شأن في الماضي القريب.
وفي النهاية أنا أعلم تماماً يا صديقي أن مشاعري وضميري أنا والملايين الذي لا يزال مستيقظاً ليس كافياً لنصرتكم، وأعلم أيضاً أن منشورات الفيسبوك الذي ينحاز هو الآخر للمحتل لن ينصف قضيتكم، ولن يعيدكم للصلاة بالأقصى ما لم تصمدوا أنتم، وأعلم أن بكائي وتأثري ومقالي هذا لن يمنح سكان حي الشيخ جراح قراراً قضائياً بالعودة لمنازلهم التي أخرجها منهم المستوطنون عنوة، لكن لتعلم أنت أيضاً يا صديقي أنكم لستم وحدكم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.