كلما همّت الشمس بوداع جبال الأوراس الشامخة (500 كلم شرق العاصمة الجزائرية)، خرج سكان قرية الرواقد والمشاتي المجاورة لها يراقبون "غار ياورير"، الذي يعد منطقة العمليات الخاصة بإشعال نار المغرب لإعلامهم بموعد الإفطار.
منذ قرن ونيّف يحافظ سكان قرية الرواقد في ولاية باتنة على عادة إشعال النار، لإعلان دخول وقت المغرب وإعلام الصائم بالإفطار، رغم التطور التكنولوجي المتسارع وانتشار المساجد.
موقع "عربي بوست" زار القرية، ورافق العم صالح (64 سنة)، المتطوع بإشعال "نار المغرب" منذ 27 سنة، وعايش معه مراحل هذه العادة الرمضانية التي تُميز المنطقة بكل تفاصيلها.
قبل ربع ساعة من موعد الإفطار يحمل العم صالح قارورة بنزين وقداحة، بالإضافة إلى حزمة من التبن الذي جمعه في موسم الحصاد واحتفظ به لهذه المناسبة، يصعد بخطوات سريعة رفقة ابنه سند إلى جبل ياورير، الواقع على علو 600 متر، وبالضبط إلى المكان المسمى "غار ياورير"، المُطل على عدة قرى ومداشر مجاورة لقرية الرواقد، للقيام بإشعال النار تزامناً مع رفع أذان المغرب لإعلام الصائمين بموعد الإفطار، حيث يمكن مشاهدة "نار ياورير" على مسافة أكثر من 15 كيلومتراً.
صعوبة في سماع صوت المؤذنين
يقول صالح راقدي في حديثه لعربي بوست، إن فكرة إشعال النار بدأت سنة 1916 (في فترة الاستعمار الفرنسي)، بعد أن وجد أهل القرية صعوبة في سماع صوت المؤذن عند التقلبات الجوية في شهر رمضان وعيد الفطر، في ظل عدم توفر مكبرات الصوت، وغياب وسائل إخبارية، وهو ما حتّم إيجاد فكرة تواصلية أشمل وأسرع انتهت بفكرة "نار ياورير" كما تسمى عند أهل المنطقة، نسبة إلى جبل ياورير.
ويوضح العم صالح أن هذه الفكرة تعود لمُعلم القرآن الكريم محمد الطاهر راقدي، لكن بسبب مشاركته في الثورة سجنته سلطات الاستعمار الفرنسي، ثم أطلقت سراحه ومنعته من ممارسة أي نشاط، ليتولى مكانه مقواس مسعود، ثم خلفه ابن أخيه مقواس مرزوق، وبعده تكفل بومجان محمد بإشعال النار، إلى أن وصل الدور إليه (صالح راقدي) قبل 27 سنة.
قوة ربانية
"أُحدّث نفسي يومياً وأقول إني لا أستطيع الصعود إلى غار ياورير لإشعال النار، لكن الله يمنحني قوة كبيرة وأصعد بسهولة".. بهذه الجملة يكشف العم صالح السر الذي يدفعه للاستمرار في المحافظة على هذه العادة، رغم تقدمه في السن ومشقة الصعود إلى غار ياورير.
ويضيف أن تعامل أهل المنطقة معه وتقديرهم لما يقوم به يخفف عليه مشقة صعود وهبوط الجبل، كما أنهم ألفوا هذه العادة منذ ما يزيد على قرن، وهم غير مستعدين للاستغناء عنها، لأن علاقتهم الروحانية بشهر رمضان مرتبطة بهذه "الشعلة"، وحتى السكان الذين رحلوا من القرية ما زالوا يسألون عن هذه العادة، ويلحون على استمرارها.
ومن أجل استمرار "نار المغرب" في شهر رمضان المبارك يحرص العم صالح على مشاركة ابنه سند، الذي لم يتجاوز عقده الأول في عملية إشعال النار، ليكون خير خلف لخير سلف.
التكنولوجيا لم تغير هذه العادة
رغم تعدد تطبيقات الهاتف الخاصة بمواقيت رفع الأذان، والإعلان عن مواعيد الإفطار في التلفزيون والمذياع، بالإضافة إلى انتشار المساجد المزودة بمكبرات صوت عالية الجودة، فإن تَعلُّق أهل المنطقة بـ"شعلة المغرب" في الشهر الكريم لم يتأثر.
وسبب هذا الارتباط يُرجعه العم صالح إلى عدم تأثر الشعلة بانقطاع التيار الكهربائي أو شبكة الإنترنت، ويتوقع استمرار هذه العادة في المستقبل، ووقوفها بندية أمام مزاحمة التكنولوجيا الحديثة لها.
ومن أجل توسيع مجال رؤية الشعلة نقل صالح راقدي موقع إشعال النار من مكانه القديم في سفح الجبل إلى مكان أعلى منه، وهو مغارة تقع في أعلى جبل ياورير، طولها يبلغ حوالي 15 متراً، وارتفاع مدخلها يتجاوز 3 أمتار (كلمة ياورير بالأمازيغية تعني التجمع السكاني).
هذه العملية تمت قبل ربع قرن، بعد تكليف أهالي القرية لصالح بمهمة مواصلة العادة الرمضانية، ويرجع أسباب نقل مكان "الشعلة الرمضانية" لمكان أعلى إلى تقلص زاوية رؤية الشعلة وحجبها عن بعض القاطنين بسبب زيادة عملية التشجير وارتفاع عدد السكان في القرية.
بالإضافة إلى أن الرياح القوية وتساقط الأمطار والثلوج حتّمت عليه نقل الشعلة إلى غار ياورير لحمايتها من الانطفاء، ما جعل مجال رؤية "نار ياورير" يتجاوز المساحة التي يغطيها الأذان بمكبرات الصوت، وفق حديثه لـ"عربي بوست".