بهجة الحضارة الناقصة
لا شك أن مفخرة الأمم في عصرنا الحالي تترواح بين أمرين، أحدهما امتلاك حضارة تقدمت في العلوم المتنوعة من فلك وجولوجيا وطب ومجالات أخرى.. وعلى الضفة الثانية مدى اهتمام الدول بالإنسان على أرضها وحقه في حياة كريمة، فلا أحد ينكر على مصر حضارة الفراعنة التي تقدمت في الطب بالتحنيط لآلاف السنين ولا الحسابات الفلكية في بناء المعابد والأهرامات بحسابات دقيقة تجعل الشمس تتعامد على بعضها ويدخلها النور من بين أكثر من 40 متراً داخل الصخور المدرَّجة كما في الهرم الأكبر، وفي حدث لا مثيل له كَرمت مصر عظام بناة هذه الحضارة.
لكن ماذا عن عظام الأحياء في السجون وحوادث القطارات؟!
مصر بين طبول موكب المومياوات ودق أبواب الزنازين
على بعد 7 أميال، أي ما يعادل 11 كم من طبول موكب المومياوات من التحرير لمتحف الحضارة بعاصمة مصر الدينية مدينة الفسطاط، هناك أصوات لا تهدأ من الصراخ على أبواب الزنازين "يا شاويش واحد بيموت" من داخل مجمع سجون طرة الذي يضم 7 سجون بها أكبر تجمع للمعتقلين السياسيين في مصر، ومن بين هذه السجون سجنا العقرب شديد الحراسة 1 و2 حيث صرخات الحبس الانفرادي والاستغاثات الدورية للإهمال الطبي وبالأخصّ سجن 992 "عقرب 1" الممنوع عنه الزيارات المباشرة للضحايا بداخله منذ 2016 والمقتصرة على وضع الأمانات وبعض الأدوية التي مُنعت أخيراً منذ 2019، هذه السجون التي خرجت منها جنازات صامته نُقلت في الظلام بشكل غير آدمي ويشهد على ذلك جثمان الرئيس محمد مرسي، والدكتور فريد إسماعيل، ومصطفى قاسم، والصحفي محمود عبدالمجيد صالح، وعصام العريان وغيرهم الكثير ممن تُوفوا في المعتقلات بالإهمال الطبي بين جدران أسمنتية في زنازين مقرورة تنهش في عظامهم وتحولهم لما يُشبه المومياوات.
مصر بين عظام الأموات والأحياء
وسائد ملكية داخل توابيت لمومياوات من آلاف السنين وأضواء أنارت العاصمة بأكملها وعربات مُذهبة وموكب بطول كوبري قصر النيل.. لا أحد ينكر عليك حضارتك لكن هذه الرفاهية تستدعي عند المصريين مثل شعبي لهم "الحي أبقى من الميت"، تجلَّى استحضراه في أذهان الشعب يوم 3 أبريل/نيسان 2021 أثناء موكب المومياوات.
نعم الحي أبقى من الميت خاصة عندما يكون 60% من شعب مصر أصبحوا تحت خط الفقر أو معرضين لذلك، وهذا ليس كلامي، هذا ما ذكره البنك الدولي في 2019، فلماذا البذخ المَقيت أمام المجاريح من أهالي عشرات الضحايا الذين لم تجف دماء جثثهم على قضبان قطاري سوهاج بتاريخ 26 مارس/آذار 2021 بسبب الإهمال وضعف الإمكانيات؟ فضلاً عن عظام المعتقلين الذين يظهرون في المحاكم بأبدان هزيلة وملامح متغيرة وانحناء العظام من قلة التريض في الهواء والشمس مثل (الدكتور سعد الكتاتني – وجهاد الحداد – عصام سلطان – ومحمد الباقر – وعلاء عبدالفتاح) إذا كنت قد سجنتهم بالفعل فلماذا لا تطبق عليهم القانون كحد أدنى بمحاكمات ومعايير سجن آدمية حتى أصبحت سجون مصر كلها مومياوات؟
يا صاحب الحضارة "اعدل الميزان"
مصر صاحبة حضارة 7000 سنة لا تهتم بحقوق الإنسان، بل مصطلح حقوق الإنسان هو مستوى مُتقدم على مسامع الحكومة المصرية بالمرة مقارنة بالواقع الذي لم يحقق الحق الأدنى من هذه الحقوق إطلاقاً. أنت تحتفل وتكرم حضارة آلاف السنين لكن عليك تقويم ميزانك بتوفير حياة أفضل لشعبك الذي يموت قهرًا من الجوع وبين حوادث القطارات وأحياء وقرى مصر الفقيرة! ماذا قدمت لك الحضارة وعلمتك مقابل دول عمرها لا يتعدى الـ500 عام مثل الولايات المتحدة الأمريكية التي كرمت أشخاصاً نادوا بالمساواة وحقوق الإنسان؟ على سبيل المثال "مارتن لوثر كينغ" الذي جُعل ذكرى مولده عيداً فيدرالياً في يناير/كانون الثاني من كل عام، وهو أصغر من حصل على جائزة نوبل للمساواة والسلام ضمن مناشداته لإنهاء التميز العنصري ضد الأفارقة في الولايات المتحدة، بينما أنت يا صاحب الحضارة تشجع شعبك على غناء "احنا شعب وهما شعب" لمجرد خلافات سياسية، يا صاحب الحضارة جمعت رفات عظام الفراعنة ولم تجمع أُسراً بذويها في زيارات السجون.
هل أتاك حديث الفقراء وأولوية المليارات؟!
20 مليار جنيه أعلن عنها وزير السياحة خالد العناني بعد حفل الموكب على شاشة صدى البلد مع "أحمد موسى" كان قد صرفهم له السيسي مُسبقاً خارج ميزانية وزارة السياحة وبعيداً عن مواردها من الأساس! لاستخدامهم في الاحتفالات وترميمات خاصة لوزارة السياحة! صُرف منهم فقط أكثر من 100 مليون على حفل موكب المومياوات الملكية وسيصرف منهم على الحفل القادم لـ"المتحف الكبير" الذي سيضم تشكيلة "توت عنخ آمون" أمام منطقة الأهرامات، ويأتي السؤال هنا لماذا استكثرت على الفقراء إصلاح مشاكل السكك الحديدية وفضلت إيداع الأموال في البنوك والاستفادة من أرباحهم على لسانك؟ "السيسي 2017″، بينما توقعت تقارير دولية بتوسع مصر في الاقتراض المحلي والدولي إلى رفع مستوى الدين العام ليصل إلى 116.8% من الناتج المحلي الإجمالي في نهاية العام المالي الحالي 2020-2021.
شعور مُختلط بين الفخر بالأموات والحزن على الأحياء
لا شك أن كل منتمٍ لوطن عليه الفخر ببلاده في مثل هذه المراسم الكُبرى، خاصة أن موكب المومياوات الملكية كان على مستوى عالٍ من التنظيم والإبهار، مما يجعلك تتعجب أن القادر على فعل هذا للتاريخ لماذا يتجاهل الحاضر والمستقبل، فلا أحد ينكر عليك تاريخك، لكن مقارنة بحاضرك هناك فرق بين شاسع بين الظلام والنور، نعم النور الذي يتمناه أكثر من 70 ألف معتقل سياسي في سجون مصر، فخروج أحدهم للنور ورفع الظلم عنه واقعه أعظم على النفوس وأجدر بالفرح والابتهاج من تكريم رفات الأموات على حساب الأحياء من فقراء ومظاليم.
فهل تكرم مصر عظام الأحياء كما كرمت عظام الأموات؟!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.